درجات تجاذب اللغة والرُّؤية والذات ‏ في ديوان "ولكنّنا واحدان" لـِ"عبدالله أبو بكر

زكرياء الزاير ‏

شاعر وباحث مغربي

 

عبدالله أبو بكر شاعر يقيم علاقة خاصة مع الكتابة، لا على اعتبار أنها نمط تجنيسي ‏معياري (قصيد)، بل على اعتبار أنها حالة تعبيريّة. ومن ثم يسير نحو إمكاناتٍ نصيّة ‏مفتوحة ومتعدِّدة. مردّ ذلك ناتج عن مكوّنات رؤيته الحداثيّة لمفهوم القصيدة ومفهوم ‏الشعر ثم مفهوم النص.‏

 

يُحاوِلُ الشاعر منذ البداية انطلاقًا من العنوان "ولكننا واحدان" ثم الإهداء إلى (عبدالله ‏أبو بكر..) -هذا الإهداء المصحوب بنقط الحذف- الإشارة أو التأشير بطريقة غير ‏مباشرة بأنّ ثمة الكثير من الأشياء التي لم يقُلها بعد والتي يمكن أن يقولها داخل المتن، ‏أو ربّما يمكن أن يقولها من خلال قصائد أخرى، أو ربّما لا يحلو له قولها أصلًا. من ‏هنا يمكن أن نستشِفّ ملمحًا خاصًّا من شأنه أن يحيلنا على بُنى مختلفة في كتابة ‏القصيدة هنا، كشكل أوّلًا ومحتوى مضموني ثانيًا.‏

‏"ولكننا واحدان" هي جملة غير تامة يمكن أن تكون ردّة فعل من طرف الشاعر فكانت ‏الإجابة: "ولكننا واحدان". من هنا يصبح العنوان إنارة كاشفة تقدِّم للقارئ مساعدة ‏كبرى لضبط انسجام النص وفهم ما غمض منه، فهو المحور الذي يتوالد ويتنامى ‏ويعيد إنتاج نفسه. وإن صحَّت المشابهة إنه بمثابة الرأس للجسد(1).‏

‏ ماذا يقصد الشاعر بهذه الإجابة "ولكنّنا واحدان" إذا كانت فعلًا إجابة عن سؤال؟ ‏ولمَن يوجِّه الجواب؟ وما المقصديّة من ذلك؟

إنّ الشاعر هنا يقدِّم لنا متنه الشعري مصحوبًا بالعديد من الإرشادات النصية ‏المصحوبة بإرشادات دلاليّة يمكن أن نجملها في ما يلي: درجة انسجام الرُّؤية، درجة ‏انزياح اللغة، درجة تجاذب الذات الشاعرة مع الآخر والعالم.‏

درجة انسجام الرُّؤية

يُبرز الشاعر هنا ملمحًا خاصًّا، يستبطن الكثير من الإيحاءات التي تصطنع شعريّة ‏طافحة من خلال استعمال خاص للغة، هذا الاستعمال هو في حدّ ذاته يمكن اعتباره ‏مستوى من المستويات الشعريّة، التي سيأتي الحديث عنها لاحقًا. فالشاعر هنا -بعبارة ‏أخرى- ينفتح ويفتح المغلق والمنغلق من داخل اللغة، ليُحدث فيها وبها أنماطًا كتابية ‏جديدة، مفتوحة على أنماط أخرى متجاوزة للأجناسية (شعري/ غير شعري) ‏ومتجاوزة للنَّمط (نظم/ نثر). ولعلّ عبدالله أبوبكر يسير في هذا المنحى إذ يقدِّم لنا ‏رؤية جديدة للشعر على اعتبار أنه قوة تخييليّة، قادرة على إنتاج الدلالة أوّلًا، وتقديم ‏بدائل كتابيّة/ قصيدة ثانيًا، ثم اختيار نمط تلقٍّ خاص، إذ يشرك المتلقي في عملية إنتاج ‏الدلالة.‏

وبعبارة أخرى، فإنَّ الشعر قد أصبح جسد تفكير نظري بامتياز "لا أحد من الشعراء، ‏ممّن يعون الكتابة كممارسة شعريّة حديثة، يكتب، دون وعي نظري بالمفاهيم الحديثة ‏للشعر، أو ببعضها على الأقل. ثمّة مأزق يتبدّى في هذا الجسد النظري... لعلّ أبرز ‏انفصال، هو وعي الشعر كنص مكتوب، وكممارسة غرافيكية تتيح للعين أن تلج سواد ‏النص، كما تلج بياضه"(2). انطلاقًا من هذا القول يجسِّد لنا الشاعر ذلك عبر بناء ‏نظري يعي مساره جيدًا، ومن ثم يبني لغته وينزاح من خلالها.‏

درجة انزياح اللغة ‏

نعني بالانزياح هنا مدى تمثل الشاعر للغة الشعريّة؛ أي مدى حضور الاشتغال الفني ‏داخل اللغة في ذاتها، وبالتالي مدى تمكُّنه (الشاعر) من الأسلوب هذا الذي قال عنه ‏‏"جون كوهن": إنه يعتبر في غالب الأحيان، انزياحًا فرديًّا، أي طريقة في الكتابة ‏خاصة بواحد من الأدباء(3)؛ حينذاك تحضر درجات التفاوت التي تصيب اللغة حين ‏يستحضرها من خلال القصيدة كعملية إجرائية ينتج عنها ما يصطلح عليه بالشعرية. ‏يقول: ‏

‏"منذ زمنْ../ لم أشربْ نخب حضورك ليلًا/ لم أسمعْ صوت زغاريد الكأسْ/ وأنا../ ‏ما زلت على شبّاك الغرفة أرقب أن تأتي/ جسدي../ في الغرفة ظلّ/ وفي الخارج/ ‏علّقت الرأسْ"(4).‏

لقد استعمل الشاعر لغة إلى حدّ ما سلسة، أبعد من الغموض وأقرب من الاستعمال ‏البسيط المتمثل في الإيحاءات الدلالية القريبة. كما اعتمد على عناصر عضوية بدءًا ‏بوضوح الفكرة ثم اعتماد أسلوب قصصي أو سردي عبر خلق مشهد إلى حدّ ما ‏تراجيدي؛ وبذلك يكون الشاعر هنا واعيًا بطبيعة الدليل اللغوي المستعمل داخل متنه ‏الشعري.‏

في موضع آخر يقول: ‏

‏"في الصورة/ كان رآني/ حدّق في وجه المرآة/ تلفَّتَ/ ورأى جسدًا ‏يتساقط"(ص15).‏

ويقول: ‏

‏"كنتُ أصنع قلعة طفل من الرّماد والماء/ (...)/ يجيء من الخلف طفل بكفّيه يحمل ‏أغنية"(ص16).‏

ويضيف: ‏

‏"كانت أقدام الراقصة تغني../ (...)/ كان المطرب/ يصرخ بالإسبانية/ لن ‏يقتلوني../ لن يقتلوني/ تلك الرقصة كانت حربًا/ ومئات الموجودين بقلب المسرح ‏

كانوا القتلى..."(ص18).‏

ويقول: ‏

‏"ذات مساء/ كان الشاعر يشرب نخب الليل/ ويكتب/ يجلس قرب النار/ يحدثها عن ‏أسباب الفرح/ عن امرأة حبلى بالشعر وزهر الزنبق/ كانت منذ سنين تسرّح شعر ‏الضوء/ وتفرش في أرض الشاعر باقات الورد وفي عينيه/ النّوّارْ/ بعد قليل/ قام ‏الشاعر عن ذاك الكرسيّ/ ونسي المرأة واقفة/ في تلك النّار..."(ص22-23).‏

تبدو اللغة في هذه المقاطع المنتقاة ذات خاصيّة دلاليّة متميزة عن طريق طبيعة ‏الأفعال بحيث يستعمل الشاعر هنا أفعالًا (سبب) ينتج عنها أفعال (نتيجة). وهي ‏خاصيّة فنيّة تتكرر في الديوان عبر استحضار الذات شرطًا أساسًا لاستواء المشهد ‏الشعري والسَّير به نحو أبعاد تخييلية من شأنها أن تبني دهشة لدى المتلقي؛ هذه ‏الدهشة تعود بالدرجة الأولى إلى الطبيعة المبسَّطة للغة لكي تفتح للمتلقي رسائل ‏صادمة ومن ثمّ تستوي دهشتها.‏

مثال 1: ‏

فعل سبب فعل نتيجة

‏1 لم أشرب نخب حضورك ‏ ‏1 علّقت الرأس

‏2 لم أسمع صوت زغاريد ‏الكأس ‏ ‏-‏

‏3 أرقب أن تأتي ‏ ‏-‏

 

مثال 2: ‏

فعل سبب فعل نتيجة

‏1 كان رآني ‏1 رأى جسدًا يتساقط

‏2 حدّق في وجه المرآة ‏ ‏-‏

 

مثال 3:‏

فعل سبب فعل نتيجة

‏1 كان الشاعر يشرب نخب ‏الليل ‏1 قام الشاعر عن ذاك ‏الكرسي

‏2 يجلس قرب النار ‏ ‏2 نسي المرأة واقفة في تلك ‏النار

‏3 يحدثها عن أسباب الفرح ‏ ‏-‏

‏4 كانت تسرّح شعر الضوء ‏-‏

‏5 تفرش في أرض الشاعر ‏باقات الورد ‏-‏

 

درجة تجاذب الذات الشاعرة مع الآخر والعالم ‏

ينحو شاعرنا هذه الخطوة الشعريّة في كتابة القصيدة، بسيره في إطار التصادم ‏والمواجهة والرفض، مع البنيات الجمالية القديمة المتمثلة في القصيدة العروضية، ‏فيعرض بديلًا جماليًّا جديدًا، ويواجه السلطة التي تفرض أبنية نظرية قائمة، إذ يكرِّس ‏ثقافة الرفض ويشيع مبدأ الحرية؛ "وهكذا عنت كلمة شعر [بالنسبة للشاعر] ‏الإحساس الجمالي الخاصّ الناتجَ عادة عن القصيدة. وحالئذ صار من الشائع ‏الحديث عن العاطفة أو الانفعال الشعري"، فالشاعر ها هنا ينفعل مع لغته ويتفاعل ‏معها عن طريق تداخل النثري بالشعري فلا يسير نحو الغنائية، بل يستحدث نمطًا ‏سرديًّا واضحًا يعينه على الحكي والتجسيد والتصوير.‏

فعن طريق مجموعة من العلاقات تتجسد الذات الشاعرة، ويمكن تمثيل ذلك عبر ‏المسار الرأسي الآتي: ‏

 

فتبدو الانطلاقة من (الذات/ الذاكرة)، على اعتبار أنها محفز على فعل الكتابة؛ ‏فـ(الذات/ الأنا) التي تقوم بفعل الكتابة وتجسده، ثم تتوالى الذوات: (الذات/ الموت) ‏و(الذات/ الصراع)، و(الذات/ الوطن)، و(الذات/ الحب)، على اعتبار أنها ذوات تجسِّد ‏التصادم والخيبة؛ وهي بشكل من الأشكال تصير موضوعات للكتابة. فـ(الذات/ ‏الأمومة) و(الذات/ المكان) تجسدان الهوية والانتماء، وأخيرًا (الذات/ الآخر) التي ينتج ‏عنها (الذات/ القصيدة) و(الذات/ العالم)؛ بحيث تجسِّد هذه الأخيرة أرقى مراحل ‏استواء الكتابة كمعطى إنساني وكرؤية وجودية. ‏

‏-‏ الذات الذاكرة: ‏

‏"كنت أصنع قلعة طفل من الرّماد والماءْ/ (..)/ يجيء من الخلف طفل بكفيه يحمل ‏أغنية/ ودموعًا رقيقةْ"(ص16).‏

‏-‏ الذات الأنا:‏

‏"الآن وحدي/ موغل في الظلمة البيضاء/ في سقف الرؤى/ لا ريح تحملني إلى ‏أمسي/ ولا أمس يدلّل حاضري بصداهْ"(ص62).‏

‏-‏ الذات الموت:‏

‏".../ كان المطرب/ يصرخ بالإسبانية/ لن يقتلوني../ لن يقتلوني/ تلك الرّقصة ‏كانت حربًا/ ومئات الموجودين بقلب المسرح/ كانوا القتلى.."(ص18).‏

‏-‏ الذات الصراع:‏

‏"جسدي../ في الغرفة ظلّ/ وفي الخارج علّقت الرأس.."(ص19).‏

‏-‏ الذات الوطن:‏

‏".../ تعب/ من وطن/ يكبر كالوهم/ ويذبل كالوهم"(ص89).‏

‏-‏ الذات الحب:‏

‏"السماء.. قبعة الكون التي خلعتها/ حين انحنيت أمامك/ أنتِ التي أمعنت النظر ‏فيكِ"(ص77).‏

‏-‏ الذات القصيدة:‏

‏"تعب../ من كل الأشياء/ ومني../ من أم/ حملتني تسع قصائد/ ورمتني في يمِّ ‏الشعر إلى الغيب"(ص79).‏

‏-‏ الذات المكان:‏

‏"في كل مساء/ كنّا نجلس في ذاك المقهى الملقى في خاصرة/ البحر/ نتحدث عن ‏أحوال الثوار/ ونملأ كأسينا من ماء الشعر"(ص34).‏

‏-‏ الذات الآخر:‏

‏"القاتل/ ينسى دائمًا/ أن يدفن ضحيّته/ لأنه يعرف/ أنَّ القبر/ لا يتّسع ‏لميتين"(ص69).‏

‏-‏ الذات العالم:‏

‏"أتدحرج في أرض الفكرة ككرة الماء"(ص86).‏

خلاصة

من هنا يكون عبدالله أبوبكر شاعرًا يقيم علاقة خاصة مع الكتابة لا على اعتبار أنها ‏نمط تجنيسي معياري (قصيد)، بل على اعتبار أنها حالة تعبيرية. ومن ثم يسير نحو ‏إمكاناتٍ نصية مفتوحة ومتعددة. مردّ ذلك ناتج عن مكونات رؤيته الحداثية لمفهوم ‏القصيدة ومفهوم الشعر ثم مفهوم النص؛ فالشاعر بحسب أدونيس مَن كانت له "رؤية ‏خاصة للعالم، تؤسس لعلاقات خاصة به، بين لغته والأشياء، وتؤسس لتقنية فنية ‏وجمالية خاصة، أو لغة شعرية خاصة"(5). فعبدالله أبوبكر من هذا المنطلق يؤسس ‏لرؤية جديدة في مسار الشعرية العربية المعاصرة عبر متنه الشعري المتحول ‏والمنفتح.‏

‏* الهوامش:‏

‏1. محمد مفتاح، دينامية النص، المركز الثقافي العربي، المغرب، 1987، ص72.‏

‏2.صلاح بوسريف، الكتابي والشفاهي في الشعر العربي المعاصر، المغرب، 2007، ‏ص172.‏

‏3. جون كوهن، بنية اللغة الشعرية، ترجمة: محمد الوالي ومحمد العمري، ط1، دار توبقال، ‏المغرب، ص15.‏

‏4. عبدالله أبو بكر، ولكننا واحدان، ط1، أبو ظبي، الإمارات، 2014، ص20.‏

‏5. أدونيس، موسيقى الحوت الأزرق (الهوية، الكتابة، العنف)، ط1، دار الآداب، بيروت، ‏ص36.‏