حضور المرأة العربيّة في فيلم "الطريق إلى إيلات"‏

د. محمد عبدالله القواسمة

ناقد وأكاديمي أردني

 

 

وَقَعَ اختيارنا لمُعاينة حضور المرأة في السينما العربيّة على فيلم "الطريق إلى إيلات" ‏من أفلام السينما العربيّة في مصر؛ لأنَّ مصر هي الرائدة في هذا المجال، ولأنَّ ‏‏"الطريق إلى إيلات" فيلم درامي تاريخي حربي جاء ليؤرِّخ دراميًّا لحرب الاستنزاف ‏عام 1969 التي أعقبت هزيمة العرب أمام العدو الإسرائيلي عام 1967. وقد تجلّى ‏حضور المرأة في هذا الفيلم عبْر قيامها بالإخراج والتمثيل والتأليف، والمشاركة في ‏كتابة السيناريو، وتصميم الديكور.‏

في مصر، وكلما جاءت أيّ ذكرى وطنيّة مثل حرب أكتوبر عام 1973، ظهر فيلم ‏‏"الطريق إلى إيلات" كإحدى أيقونات التليفزيون الرَّسمي التي يجب عرضها. وما زال ‏هذا الفيلم يحقق النجاح ويشدّ إليه المشاهدين، فيتابعونه بحماسة وشغف، خاصّة عندما ‏يقترب الفيلم من عرض الحَدَث الرَّئيس.‏

تدور أحداث هذا الفيلم  الذي أنتجه التلفزيون المصري الرسمي عام 1993 حول ‏واقعة المعركة الحربيّة التي قامت بها القوات البحريّة المصريّة في مدينة إيلات التي ‏بُنيت على أنقاض قرية أم الرشراش العربية عام 1953، أي بعد إعلان التَّقسيم وقيام ‏دولة الكيان الإسرائيلي عام 1948. وفي تلك المعركة فجَّر هؤلاء الأبطال من فرقة ‏الضفادع البشرّية سفينتين حربيّتين للعدوّ في الميناء، هما: "بيت شيفع" (بيت الأسد) ‏و"بيت يام" (بيت الفتاة) والرصيف البحري. ومخرجة الفيلم هي إنعام محمد علي ‏المخرجة المعروفة، ومن أفلامها: "حكايات الغريب"، و"صائد الأحلام"، و"يوميات ‏امرأة عصرية"، و"آسفة أرفض الطلاق". ‏

لقد تجلّى حضور المرأة في فيلم "الطريق إلى إيلات" في قيامها بالإخراج والتمثيل ‏والتأليف، والمشاركة في كتابة السيناريو، وتصميم الديكور. وظهرت في دوْر ربّة ‏بيت، ومسؤولة استخبارات وجمْع المعلومات. لعلَّ تناول هذا الحضور يتطلّب تحليلًا ‏نصيًّا للفيلم كما يرشدنا إلى ذلك الناقد الفرنسي "رولان بارت" بوصف الفيلم السينمائي ‏مثل النص الأدبي يتكوَّن من عناصر ثلاثة: المعنى، والمرجع، والثقافة(1)، فالصورة ‏السينمائيّة تحمل معنى تعيينيًّا في شكلها الخارجي، ومعنى ضمنيًّا في داخلها، أي ‏تجيب عن السؤالين: كيف قدَّمت السينما الصورة الذهنيّة للمرأة؟ وقد تكون الصورة ‏صحيحة أو خاطئة، ولماذا؟ أي البحث عن الجانب الأيديولوجي الذي يقف وراء ذلك، ‏والمرجع هو ما ينعكس عن الواقع المعيش، أمّا الثقافة فتمثل البيئة والمحيط الثقافي ‏الذي أخذت منه.‏

ما يلفت الانتباه، قبل ولوج عالم الفيلم السينمائي وبيان الحضور النسائي، موقفُ مدير ‏التصوير سعيد شيمي من اختيار إنعام محمد علي مخرجة للفيلم؛ فقد أبدى في البداية ‏اعتراضه على هذا الاختيار، عندما أعلمه المنتج ممدوح الليثي بذلك. كما روت ‏المخرجة في أحد لقاءاتها من أنَّ مسؤولًا في قطاع الإنتاج باتِّحاد الإذاعة والتلفزيون ‏سأل الراحل ممدوح الليثي عمَّن يخرج الفيلم. وعندما علم بأنه امرأة غضب وقال: "ما ‏عندكوش راجل واللا إيه؟!"(2).‏

لقد سخر هذا المسؤول وتعجَّب من أنَّ فيلمًا يتحدَّث عن عمليّة عسكريّة صعبة ‏ستُخرجه امرأة. وهذا يعكس النظرة الدونيّة للمرأة بأنها أقل شأنًا ومقدرة من الرجل، ‏وأنَّ معاناتها مصدرها الرجل نفسه. مع أنَّ المرأة العربيّة منذ بداية ظهور السينما في ‏بلادنا العربيّة مارست تجربة الإخراج والإنتاج والتمثيل. كانت "موجودة بقوّة. وكثيرة ‏هي الأفلام التي حملت أسماء أنثويّة مثل "ليلى" و"زينب" و"وداد" إلى آخره"(3).‏

ظهرت المرأة في فيلم " الطريق إلى إيلات" زوجة وربة بيت؛ فحضرت الفنانة ناهد ‏رشدي زوجة القبطان راضي قائد العملية، الذي قام بدوره الفنان عزت العلايلي، ‏والفنانة شيرين وجدي زوجة القبطان محمود قائد التدريب، الذي قام بدوره الفنان نبيل ‏الحلفاوي. ويُلاحَظ أنَّ دور المرأتين تقليدي؛ فقد ترسَّخ في الذهن الجمعي أنَّ عمل ‏المرأة ينحصر في إعداد الطعام، والانتباه إلى الزوج والأولاد، وأنَّ وظيفتها الطبيعية ‏هي الإنجاب، كما في حالة زوجة راضي التي كانت حاملًا.‏

كما يُلاحظ أنَّ حضور كلتا المرأتين أيضًا لم يكن له تأثير في الأحداث، أو في أي من ‏العناصر الفيلميّة الأخرى. إنه حضور هامشي، يمكن الاستغناء عنه دون أن يختلّ ‏السياق. لكن يبدو أنَّ سيطرة رغبة المخرجة في توظيف الجنس اللطيف ربما كانت ‏هي السبب في هذه الإضافة. وهذا يفسِّر تصريح المخرجة في لقاءات كثيرة معها بأنها ‏أقدمت على ذلك لكسر الجمود والتخفيف من جوّ الخشونة الذي يبعثه وجود الرجال ‏دون النساء في الفيلم(4)، وهو رأي لا علاقة له بالفن، ووليد النظرة التقليدية للمرأة ‏بأنها ديكور جميل لا يمكن الاستغناء عنه، ومهمّتها التخفيف عن الرجل، وترطيب ‏أجوائه، ولعله ينسجم مع التصوُّف الديني في رؤيته للمكان، كما يقول ابن عربي: ‏‏"المكان الذي لا يؤنَّث لا يعوّل عليه".‏

كما حضرت المرأة في فيلم "الطريق إلى إيلات" مستشارة وجامعة معلومات عن ‏العدو. وطُلب منها أن تتسلّل إلى مدينة إيلات، وتستطلع عن سفن العدو الحربية، ‏ودوريات الحراسة في الميناء بوصفها تتقن اللغة العبرية، وسبق لها أن تولّت مهمّات ‏في تل أبيب نفسها. تستطيع مريم التي قامت بدورها الممثلة اللبنانية مادلين طبر أن ‏تجمع معلومات عسكرية مهمة عندما تعرفت إلى ضابط في بحرية العدو. وتظهر في ‏مرقص معه في مدينة إيلات، ثم في مشهد آخر وهما بملابس البحر، يلهوان على ‏ظهر قارب في عرض البحر.‏

يُلاحَظ أنَّ هذا الدور مقحم على أحداث الفيلم مثل الدور السابق الذي ظهرت فيه المرأة ‏ربة بيت وزوجة. كما أنَّ لا مرجعيّة له على أرض الواقع؛ فلم يحدث أن قامت امرأة ‏بمثل ما قامت به مادلين طبر أو مريم في هذا الفيلم؛ أي خارج سياق الثقافة والتراث ‏العربيين. كما يمكن القول إنَّ هذا الظهور الأنثوي العاري لا يتناسب مع ما يهدف إليه ‏الفيلم من إظهار قوة فرقة الضفادع البشرية في الجيش المصري، كما أنه ظهور ‏إغرائي يُظهر المرأة بأنها سلعة، وأداة لجلب الجمهور إلى شبّاك التذاكر. تصرِّح ‏المخرجة بأنَّ حضور المرأة على تلك الصورة إنَّما جاء لأغراض تجاريّة وتسويقيّة. ‏لقد تعاملت المخرجة إنعام محمد علي مع المرأة كما يتعامل كبار منتجي السينما في ‏أميركا من ناحية استغلال جسد المرأة، كما يقول "جوزيف ليفين": "أنا لم أنزل إلى ‏ميدان العمل السينمائي لكي أنقذ البشريّة أو لكي أصلح الشأن السينمائي. نزلتُ إلى ذلك ‏الميدان كي أضاعف ثروتي. فبيع الجنس والعنف أسهل من بيع أيّ سلعة أخرى"(5).‏

هكذا تمثَّلت الإساءة إلى المرأة في هذا الفيلم الوطني النضالي في إقحامها في أحداث ‏الفيلم دون مسوّغ فنّي، ولم يساهم حضورها في الارتقاء بالفيلم على مستوى الفكرة ‏التي هي إبراز دور الضفادع البحريّة المصريّة في حرب الاستنزاف عام 1969. لقد ‏اقتصر دورها على أداء وظيفتها التقليدية في البيت أو استخدام أنوثتها لتحقيق مكاسب ‏ماليّة. وهذا الاستخدام يوازي بين جمال المرأة وجمال السلعة، وفي ذلك ضرر بالغ ‏لها. تقول الباحثة في الأنثروبولوجيا "صوفية السحيري": "اختزال جسد المرأة في ‏كائن جميل وجميل فقط يعطل باقي ملكاتها الموازية، فيصير جمالها وبالًا عليها، ‏ويعطل باقي الملكات"(6)، في كلتا الحالتين لم يُنظر إليها على أساس من المساواة ‏بينها وبين الرجل، فلم تكلَّف بمهمات تُظهر قيمتها الإنسانية بعيدًا عن الحسابات الماليّة ‏والتجاريّة. ‏

لقد كان الفيلم صادقًا في إظهار القيم والمعايير الاجتماعية السائدة في المجتمع؛ لهذا لم ‏يصطنع صورة إيجابية للمرأة، مع أنه فيلم تناول قضية وطنيّة. إنَّ هذه الصورة ‏السلبيّة للمرأة لن تتغيَّر ما دام المجتمع لا يعترف بحقوقها، ويعمل على حل مشاكلها، ‏وتحسين ظروفها السياسية والاجتماعية والاقتصادية. ‏

الهوامش

‏(1)‏ عواطف زراري، صورة المرأة في السينما الجزائرية: تحليل ‏سميولوجي ثقافي، مخطوط رسالة ماجستير، جامعة الجزائر، ‏‏2002، ص22.‏

‏(2)‏ انظر: ندوة "أسرار الطريق إلى إيلات" يوم 13/12/2014، موقع ‏مَحْرِس، الرابط على الإنترنت.‏‎ ‎https://www.masress.com/msaeya/143199‎

‏(3)‏ أمل الجمل، المرأة كفاعل ومفعول به في السينما المصرية، مجلة ‏السينما العربية، ع2، 2015، ص110.‏

‏(4)‏ من ندوة "أسرار الطريق إلى إيلات"، مرجع سابق.‏

‏(5)‏ أمل الجمل، مرجع سابق، ص112.‏

‏(6)‏ صوفية السحيري بن حتيرة، الجسد والمجتمع، دار محمد علي للنشر، ‏بيروت، 2008، ص74. ‏