رحلة النَّدمان في أخير الزَّمان ‏

قصة: علي السوداني

كاتب عراقي

 

أُحاولُ الآن نبشَ ذاكرتي البعيدة كي أعثر بواحدةٍ من ثنياتها على هذا الوجه المريب، لكن دون ‏جدوى أو مثقال أمل.‏

لديَّ جمهرةٌ من الصَّحب يحملون الاسم نفسه واللَّون والملامح المغبّشة. ‏

قصَّ عليَّ بأنفاسٍ متفرِّقة واقعةً كانت حدثت قبل أربعين سنةً، وكُنّا يومها نتشارك بموضع حربٍ ‏غاطسٍ تحت الأرض سبعة أذرع، كأنَّهُ قبرٌ مؤجَّلٌ ولو بعد حين من استضافة قنبلةٍ توزِّع ‏جحائمها علينا نحن الأربعة بعدلٍ وامتنان. زرعتُ عينيّ طويلًا بوجهِه السَّكران المُخادع، لكنَّني ‏لم أستطِع التَّمييز بين هذا الكائن المشتول أمامي اللّيلة وبين أثاث الأرض الحرام ورطين اللغة ‏الفارسيّة التي كُنّا ننصت إليها وهي تتسرَّب إلينا من خلف السّاتر كما لو أنها بشرى موتٍ أكيد.‏

طلبتُ من النادل "ممدوح القبطي" زجاجة نبيذ أحمر من النَّوع الذي ارتاح إليه الكائن المُباغت، ‏علّها تضرب الرَّأس وتفتح رازونةً لفكِّ هذا الطّلسم وتلك الأحجية، ومع رنين أوَّل كأسٍ منها ‏صار وجه صاحبي يشبه تمامًا وجه صاحبٍ عتيقٍ من كائنات مقهى "حسن عجمي". رشقتُهُ ‏بابتسامة نصرٍ مُبينٍ، وقلت له: أنتَ "كريم الناجي" صاحب دكّان الفلافل البائس الذي يطلُّ على ‏خاصرة ساحة الميدان، وكان سكنُكَ الذي يشبه مطعمكَ يقع بظهر جامع الحيدرخانة، وكُنتَ ‏وصعاليك المقهى تحوِّلونه الى حانة مدهشة تقدِّم الشَّراب الرَّخيص في تلك الأيام السود التي ‏ينثقب فيها الجيب وتُستعاد أعقاب السَّكائر من على الأرض مع بقايا تبغ ملوَّث كأنَّه روث ‏حضيرة.‏

ضحك صاحبي ضحكةً عملاقةً، فزَّت معها الحانة من نعاس آخر الكؤوس، وأنْكَرَ أنَّه هو بطل ‏الحكاية التي ذهبتُ إليها الآن.‏

يا لنذالة هذه اللُّعبة اللَّعينة التي جعلتني أرشُّ الاحتمالات العشوائيّة في ليلةٍ باردةٍ كان صاحبي ‏فيها مثل أرضٍ يبابٍ غير ذي زرعٍ ومعنى. نصبتُ له فخَّ الصَّمت وفي بالي وحلمي ومشتهاي ‏أنّ الكائن سيكشف بعد ساعةٍ عن شخصيّته، أو قد يمنحني حكايةً قصيرةً، ومنها سأدلفُ الى ‏شاشة الذّاكرة مسندًا بتفصيل كأنه مفتاح فضِّ بكارة اللّغز، لكنَّ ذلك لم يحدث أبدًا بعد أن صار ‏هذا الصَّنم يتلذَّذ بتمريغ رأسي بسلةٍ من علامات التشتيت والتغبيش والتضبيب.‏

سألتُهُ عن شُغلهِ ومالهِ وعيْشِهِ بعد أن وجدتُهُ يعامل المائدة ويشاكس حافّة الكأس بيُسرٍ كما لو أنها ‏امرأة مُفتقَدَة، قال: "وحقّكَ يا صديقي لقد أدرَكَتْني حرفةُ الأدب، لكنَّني زهدتُ في النَّشر وزيارة ‏الطبّاعين وغرف الحصاد الثقافي في الجرائد والمجلّات، وحتى الحوائط المجانيّة التي أتاحها ‏الربُّ لنا حتى صارت الناس تعلنُ فوقَها ما تكتب وتهذي وتعطس وتضرط وتهرف من بئر ليس ‏له قرار". ‏

لقد ملكني الآن الولد بهذا التَّصريف البديع، لكنَّني لم أربت على كتفِه وأصفِّق له خشية من ظهور ‏الغاطس في أجواف الكتَبَة الذين يتلذَّذون بجَلْد أسوار الموائد ورشْق مواعينها ووجوهها وأسماعها ‏بما كتبوا من جميل الشِّعر أو سخيف النَّظم ورديء القوْل الفائض، بعد أنْ يدبَّ الدَّبيب وتثقل ‏الرَّأس ويصير صوت المغنّي المنفِّر رائعًا ومُدهشًا!!‏

لم يكُن بخيلًا ووغدًا كي يمنحني فرصةً مُنتظَرَة من أجل استضافتِه بجوْف كتابي الذي لا يريد أن ‏ينتهي "بخلاء علي السوداني"، بل كان على معكوس ذلك تمامًا وهو يُدخِل يده بجيبِه كلّما وقف ‏النادل "ممدوح" فوق رأسِه وصبَّ له كأسًا عامرةً جديدةً مزفوفةً بشرحٍ لذيذ عن تاريخ النبيذ ‏الأحمر المُنعش الذي تقدِّمه الحانة، ثم أنه أعاد عليَّ سبعين مرَّة ومرّات أنْ مُدَّ يدكَ إلى صحن ‏الشّواء وأثمار البحر كي لا تأكل الخمرة بطانة معدتكَ وقوس كبدك. كان مثل أُمٍّ تدلِّل وليدها ‏وترشّ وراءَهُ طاسةً مباركةً من ماء الرُّجوع الذي سينجّيه من فمِ المدفع اللّعين.‏

لستُ متيقِّنًا ممّا حدث في أوشال السَّهرة، فقبل صياح الدّيك برنّة كأس أخيرة، حملَ الوغدُ جسمهُ ‏الثقيل مانحًا مائدتي ظهره المكسور، مع تلويحةٍ مرتبكةٍ ظلَّت تأكل من خاصرة الذّاكرة حتى ‏النِّهاية.‏