صديقي

قصة: تيسير نظمي

قاص وروائي أردني

 

 

 

وهل بإرادةٍ منّي فقدتُ ما فقدتُ طوال 67 عامًا؟ القرية، الطفولة، الشباب الذي مضى بكل ‏تطلُّعاته وأحلامه! وهل بإرادة منّي أيضًا فقدتُ أصدقاء في مقتبل أعمارهم؟ الذين اسشهدوا ‏أو تمَّ اغتيالهم أو نفقوا هكذا فجأةً في الخمسين من أعمارهم أو دون الخامسة والستين أو في ‏السابعة والستين مثلًا؟ لا، ليس بإرادةٍ منّي؛ فأنا لا حول لي ولا قوّة بأنْ نجوتُ طيلة هذا ‏العمر الصاخب بالحروب والسرطان والسكتة القلبيّة. حتى الفندق الذي لذتُ به كمكان أخير ‏للإقامة به تمَّ بيعه لصاحب فندق مجاور؛ فأراد ترقيته بالهدم والإعمار لفندق بنجوم ثلاث، ‏فاستأجرتُ بيتًا صغيرًا في حيّ اللويبدة قريبًا من رابطة الكُتّاب؛ لعلّني أرتاح قليلًا، أو كثيرًا ‏إنْ شئتم، من أجور التكسيّات الصُّفر وغير الصُّفر وتذمُّر سائقيها من كلّ شيء وحتى منّي ‏ومن صمتي الذي لا يلوي على أيّ شيء من كراهية أو ضغينة. لا، ليس بإرادةٍ منّي أيضًا ‏لذتُ بالصَّمت نتيجة عتب الأصدقاء الجُدُد من قلّة وفائي ببعض المواعيد معهم أو مع غيرهم ‏ممَّن رأوا في تبدُّل مسكني مدعاة لسلوك طبقي لا سمح الله ولا قدّر. مثل أنْ أغدو متكبِّرًا ‏عليهم أو مترفِّعًا عن لقياهم. ‏

لا، ليس بإرادةٍ منّي ابتُليتُ بادئ ذي بَدء بديكٍ لدى أحد جيراني في حيّ هادئ صامت. ذلك ‏الديك الذي لم أبُح لأحدٍ بأنه بات مزعجًا في عدم انتظام مواعيد صراخه، كي لا أقول نباحه، ‏في حيّ يعشق سكّانه الكلاب وأحيانًا القطط. لكنَّ جاري في الطابق السفلي كان له ما يشاء ‏من تربية الدجاج في مساحة يعتقد أنَّها باتت ملكه من الطابق الأرضيّ؛ تعوِّضه عمّا فقد في ‏فلسطين. ولمّا كانت الدجاجات لا يعشن حياة طبيعيّة فقد اقتنى أيضًا لهنّ ديكًا غير طبيعي ‏مثلما كانت الديكة "تكاكي" في مطلع الفجر في فلسطين؛ غير طبيعي أبدًا، على مقربة من ‏دائرة الأراضي التي باتت؛ أيْ الأراضي، ملكًا للموتى فقط إثر خلافات حادّة وصارخة بين ‏الورثة أو ورثة الورثة وما بعد! ديك جاري يصرخ فجأة في الليل، ولا يهدأ. ليس صراخًا ‏واحدًا في مواعيد محدّدة، بل صراخٌ على فترات متقطعة بعد الثانية عشرة ليلًا أو في الرابعة ‏فجرًا أو في الحادية عشرة صباحًا أو في الواحدة بعد الظهر أو في المساء أو في الثامنة ليلًا ‏أو في الحقيقة في كلّ هذه الأوقات‎. 

في البَدء قلتُ لنفسي: "لعلَّه أعمى ذلك الديك، أو لعلّه يشكو من صداع في الرأس! بل لعلّه ‏مريض دون أن ينتبه صاحبه لذلك فيستشير طبيبًا مثلما أفعل أنا أحيانًا مع رأسي أنا الذي بات ‏يحتاج للعلاج أو الهدوء أو الدّواء". لكن هذا الاعتقاد غدا غير ممكن تصديقه وأنا أراقبه من ‏النافذة في الطابق العلوي يصول ويجول بحثًا عن الطعام ومن ورائه الدجاجات الثلاث ‏مستكينات لأمره حيث يذهب وحيث يتجوّل برأس مرفوع، ثم فجأة: "كاكوو كاك كاكووو"، ‏فيجفلن راجعات من صرخاته إلى القنّ الخشبيّ الذي وضعه لهنّ، ومن المفروض له أيضًا، ‏الجار الذي لم يعرف طوال عشرة شهور بمعاناتي وصبري وقلّة نومي. بل لا يعرف حتى ‏اليوم بما أكابده من تمزيق ديكٍ واحدٍ لسكينة حياتي وحاجتي لسويعات أنام بها كما ينام البشر ‏الأسوياء‎. 

ولا أخفي عليكم أنَّني بتُّ أشغل نفسي بتفسيرات من خيالي الجامح لتفهُّم الديك وحاجة الدجاج ‏الطبيعيّة لوجوده بينهنّ. بل ولضرورة أن يوجد ديكٌ واحدٌ على الأقل في حيّ ينام فيه مَن ينام ‏من البشر والكلاب والقطط. ولمّا كانت الصرخات التي لا تنقطع لساعة أو لبضع ساعة من ‏اليوم على مقربة من أراضٍ باتت مُتنازع عليها وملكٌ للموتى؛ فإنَّ صراخ ديكٍ واحدٍ يصبح ‏ضرورة وطنيّة، إنْ لم تكن قوميّة، لأنْ يستفيقَ البشر أو ينتبهوا وهم رائحين جايين من وإلى ‏دائرة الأراضي في عمّان وفي الضفة الغربيّة، كما يسمّونها، فينتبهوا لِما هم غافلون عنه ‏بصراخ ذلك الديك الذي لو صمت ثلاث ساعات متّصلة لقلتُ إنَّ ثمَّة أمرًا جللًا قد وقع، وإنَّ ‏ثمَّة مُندَسًّا غيري قد اغتاله على حين غرَّة. أو ربَّما أحد الجوعى اصطاده ليعمل منه خبزًا ‏مسخَّنًا أو طبخة فريكة. ولا أخفي عليكم قلقي لو أنه صمت يومًا واحدًا أو نصف يوم. فقد ‏اعتدتُ عليه على الرغم من أنه مزعج، كما يعتاد الشعب أو أيّ شعب على وعود حكومة ‏كاذبة وما أكثرها في مضارب العرب وبلادهم الضاجة بالثروات المهرّبة إلى حيث لا يعلم ‏كثيرون من عموم الناس الأشقياء ونصف الأشقياء. و هكذا بدأتُ أخشى على الديك الذي بات ‏مع العِشرة والوقت صديقي المزعج الذي أخشى عليه من الشّواء على الفحم أو بطناجر ‏الضّغط في مطاعم الوجبات السريعة والوجبات البطيئة. وكنتُ أعلم من بعض الأصدقاء أنَّ ‏تربية الدواجن في حيٍّ مثل حيّ اللويبدة من العاصمة عمّان لأمر جلل لو علِمَت به أمانة ‏عمّان، لأنَّ تربية الدواجن مسموحة فقط في القرى البعيدة عن المدن. وأنَّ جارنا يرتكب ‏مخالفة تغرِّمه عليها أمانة عمّان التي تريد ترويجًا سياحيًّا للعاصمة، وبالتالي فإنَّ ذلك الديك ‏ربَّما أزعج السيّاح الأجانب الذين يرتادون حيّ اللويبدة تحديدًا، والذي أُطلق على ساحة من ‏ساحاته اسم "دوار باريس" أو "ساحة باريس"، فهل بات في باريس ديك منذ هجرها الشاعر ‏‏"آرثر رامبو" غداة فشل الكومونة؟‎ 

غير أنَّ فقدان الجار لقريته بعد حرب 5 حزيران 1967، حال دون كل هذه الأفكار التي ‏راودتني بالشَّكوى. فلعلَّ الجار صاحب الديك يريد استعادة بلدته تلك من وراء تربيته للدجاج ‏والديك ولو في خياله. كنتُ كلّما "كاكا" الديك الممسوس أقول أنا أيضًا لنفسي: "ها أنا أيضًا ‏أستعيد ذكرياتي في بلدتي وأحمد الله أنه ديكٌ وليس كلبًا أو حمارًا يصدح بالنهيق على حين ‏غرَّة". باختصار يا سادة يا كرام، تأقلمتُ مع وجود ديكٍ ممسوس في حياتي في مسكني ‏الجديد. بل أسلمتُ أمري لكل خيالاتي وفلسفتي للأمور. ومن فرط التأقلم والصَّبر أصبحت ‏أداعبه أحيانًا بضرب نواة البرقوق عليه، فيرتبك ويكفّ عن الصراخ مستطلعًا من أين سقطت ‏عليه نواة البرقوق تلك وكيف؟ لكنه والحقّ يُقال لا يطول استطلاعه أو ارتباكه حتى يعاود ‏الصُّراخ أو النُّباح إنْ شئتُم، من جديد. ومن شدَّة الأرق، سأقول لكم كيف كنتُ أعزّي أو أسلّي ‏نفسي معه. فقد بتُّ أعدُّ له رقميًّا مسافة الزَّمن بين كل "مكاكاة" له والتي تليها، لأكتشف عدم ‏الانتظام الوقتي بين واحدة وأخرى. أعدُّ له مثلًا حتى رقم 15 في المرَّة الأولى، ثم أعدُّ ‏الخمسة عشر الثانية، لأكتشف أنه يخذل الرقم ويستبدله برقم عشرين. في الثالثة أعدُّ له حتى ‏رقم عشرين فيخذلني أيضًا ويكاكي عند بلوغي الرقم 27، وهكذا أمضي بعض الليالي أعمل ‏بوظيفة عدادٍ مخلص لديك ممسوس‎. 

وبين قذفي له بقشرة بطيخ أو حبة كستناء أو نواة صلبة لفاكهة لا أعرف اسمها وبين العَدّ ‏لفترات التقطُّع في الصراخ أو "المكاكاة" أو النُّباح، قضيتُ أحد عشر شهرًا قبل الليلة المُفجعة ‏عندما صحوتُ فجأة على صوت أنّات، بل وجعير حزين للدَّجاجات الثلاث السُّمر، حيث كان ‏الديك المدعو أبيض اللون أحمر الرقبة، وبتُّ أتساءل في الليل عن السبب الذي جعل الديك ‏يصمت فجأة، ولأوَّل مرَّة بعد الأحد عشر شهرًا أسمع عويل الدجاجات الذي سمعته لأوَّل ‏وآخر مرَّة.‏‎ 

اليوم، أنا في الشهر الثاني عشر من التحاقي بسكّان اللويبدة، وأكتب قصتي مع الديك الذي ‏فقدته فجأة ودون سابق إنذار. اليوم أو على سبيل الدِقّة في هذه الليلة بالذات، أكتب لكم هذه ‏القصة، ودون إرادة منّي، لأقول لكم من خلال ما سبق أعلاه إنّني لا دخل لي بهذه الخسارة، ‏ولا بهذا الهدوء المخيِّم كما لو أنه مخيِّم على مقبرة، ودائرة الأراضي أيضًا هادئة بل ومظلمة ‏وفي إجازة نهاية الأسبوع؛ لا ديك حولي ولا مَن "يكاكي" أو حتى يعوّي عواء استغاثة ‏والناس نيامٌ، ورفوف وحواسيب دائرة الأراضي ربّما يعلو ملفّاتها أو معلوماتها غبار ‏الصحراء. حتى أصوات السيارات اختفت ولا من أحد، أو حتى رنَّة هاتف بالخطأ، الليلة وبعد ‏حريق القنصليّة الإيرانيّة في النجف. وفي هذه الساعات الموات أستذكر صديقي الذي فقدته، ‏صديقي الوحيد في الأردن الذي فقدته أيضًا؛ ودون إرادة منّي، أفقد كل الاحتمالات التي ‏صنعتها بنفسي لي، لجاري الذي لم أسأله ماذا حلَّ بذلك الديك، ولا حتى بآخر عويل ‏للدجاجات قبل مجزرة محتملة لهنّ. هذه الليلة؛ عن أي شيءٍ سوف أسألكم؟ وعن أيّ ديكٍ ‏سوف أتحدث إليكم في اللّيل المُقبل؟

‎28-11-2019 

 

اللويبدة- عمّان