كلمات مَعدودات في "عالميّة لغتنا العربيّة"

 الأُستاذ الدكتور هُمام غَصِيب ‏

عضو مَجْمَعِ اللغة العربيّةِ الأُردنيّ ‏

أُستاذ الفيزياء النظريّة

 

 

لو كُنّا نتحدَّث عن العصور الزاهرة لحضارتنا العربيّة الإسلاميّة، حين كانت لغتنا العربيّة ‏تتهادى بكلّ روْنقها في الأركان الأربعة للعالم القديم، لما اختلف اثنان في عالميّة العربيّة. ‏أمّا الحاضر، فيصدمنا لأكثر من سبب. هنالك دراساتٌ "علميّة ميدانيّة إحصائيّة تحليليّة" ‏تكشف عن واقع مؤلم تعيشه لغتنا في شتى مناحي الحياة. ونحن نراقب –عاجزين- ‏انتشار "العربيزيّة" في مشارقنا العربيّة، و"العرنسيّة" في مغاربنا؛ سيّما في أوساط ‏شبابنا. ثمّ إنّ العربيّة لمْ تعُد لغة العلم والتكنولوجيا منذ قرون.‏

ومع ذلك، فهي "عالميّة". نتساءل: بأيّ معنى؟

ونُجيب: (أوّلًا) إنّها لغة القُرآن الكريم؛ فلا يُقرأ القرآن إلاّ بلسانٍ عربيّ "غيْر ذي عِوَج". ‏ومن ثمّ، حيثما ينتشر الإسلام، تنتشر العربيّة بالضرورة. هنالك 1.8 مليار مُسلم في ‏العالم؛ أي ربع المعمورة تقريبًا. ومع أنّ أغلبيّتهم يعيشون داخل "العالم الإسلاميّ"، إلاّ أنّ ‏عشرات الملايين منهم منتشرون في طول العالم وعرْضه؛ بل إنّ الإسلام أضحى في قلب ‏الغرب! ولا ننسى أنّ الجاليات العربيّة في المهاجر تضمّ عربًا مسيحيّين. وهؤلاء عُمومًا ‏حافِظون للعهد والانتماء إلى أصلهم وفصلهم، وإلى لغتهم.‏

‏(ثانيًا) إنّ العربيّةَ إحدى اللغات الرسميّة الستّ للأمم المتّحدة؛ إلى جانب الصينيّة ‏والإنجليزيّة والفرنسيّة والروسيّة والإسبانيّة. ولا عجب! فترتيبَها الرابع من حيث سَعة ‏الانتشار في العالم: بعد الإنجليزيّة والماندرين (الصينيّة) والهنديّة؛ وقبل الإسبانيّة ‏والروسيّة والبرتغاليّة والبنغاليّة والفرنسيّة والألمانيّة وسائر اللغات. تصوّروا! هذا من بيْن ‏سبعة آلاف لغةٍ تقريبًا، أكثرُ من نصفها مُهدّدٌ بالانقراض! ‏

‏(ثالثًا) إرثنا الجغرافيّ التاريخيّ: وهذا مَنجمُ ذهبٍ للباحثين في فروعٍ معرفيّةٍ عِدّة؛ بما في ‏ذلك التاريخ، وتاريخ العلوم والتكنولوجيا، وتفاعل الحضارات عبْر العصور، ودراسة ‏الظواهر الفلكيّة التي تحتاج بطبيعتها إلى مئات السنين لرصدها وتحليلها علميًّا، كتغيّر ‏ألوان النجوم عبر الزمان، والانفجارات "فوق النجميّة" (المُستعرات). مثلًا: هذا كتاب ‏آرثر كيستلر (1905-1981) الجدليّ المشهور عن "القبيلة الثالثة عشرة"، الذي حاجج ‏فيه أنّ أصل يهود أوروبا الشرقيّة يعود إلى امبراطوريّة الخزر (وهذه سادت من القرن ‏السابع الميلاديّ إلى الحادي عشر ما بيْن بحر قَزوين والبحر الأسود): فمن أهمّ مصادره ‏التاريخيّة كانت كتابات ابن فَضْلان، والاصطخري، وابن حوْقل، والمَسعودي، ‏والمقدسي، وياقوت الحمْويّ. أليس هذا وغيْره يَحفز الباحثين الأجانب الجادّين على تعلّم ‏اللغة العربيّة للإفادة من بعض ما جاد به تُراثُنا الزاخر؟ ‏

‏(رابعًا) تزايُد الإقبال على تعلُّم اللغة العربيّة في الغرب والشرق. أمّا الدوافع وراء ذلك، ‏فتتعدَّد بتعدُّد الأهداف: من التعمُّق في الإسلام، إلى تيسير التعامل مع رجال الأعمال ‏العرب، إلى دوافعَ سياسيّة قد تكون خبيثة أحيانًا، إلى السَّعي لدراسة تُراثنا القديم ‏والحديث، إلى حتّى اللّهاث وراء الرومانسيّة وحبّ المغامرة.‏

لكنّ عالميّة اللغة -أيّ لغة- تحمل في ثناياها جُرثومتيْن خطيرتيْن. أولاهما: أنّ اللغة ‏السائدة عالميًّا تكون على الأغلب "مكسّرة"؛ أي بعيدة عن اللغة السليمة. وثانيهما: أنّ ‏اهتمام المَهاجر باللغة الأمّ وبمدى إتقانها يتضاءل مع تعاقُب الأجيال. فالأبناء أقلّ إتقانًا ‏من الآباء، والأحفاد أقلّ إتقانًا من الأبناء؛ وهكذا دَواليْك!‏

وهذا يَعني أنّه، قبل التفاخُر بعالميّة لغتنا، علينا أنْ نتحمّلَ المسؤوليّات الجِسام المُترتّبة ‏على هذه "العالميّة". مثلًا: أنْ نُعزِّز، مادّيًّا ومعنويًّا، مراكز تعليم اللغة العربيّة للناطقين ‏وغيْر الناطقين بها، سواء بسواء، حتى تبلغَ أعلى المُستويات؛ وأنْ نعملَ على إغناء ‏الشابكة (الإنترنت) بمحتوى عربيّ ناصع البيان. ولعلّ المشروع الأجلّ في هذا المقام أنْ ‏نحشد الطاقات والخبرات والموارد لحوْسبة اللغة العربيّة بكلّ أبعادها؛ فنرى قريبًا أجهزتنا ‏الذكيّة مُحمّلة بتطبيقاتٍ شتّى تُعلّمنا، بأسلوبٍ سلسٍ مُبتكَر، الكتابة المُتقنة، والنطق السليم، ‏وقواعد الصرْف والنحو وعلم المُصطلح، عدا البناء على المُعجم العربيّ. وفي ذلك ‏فليتنافس المُتنافسون.‏