منير بن رحال
باحث وأكاديمي مغربي
يَسْتعمِلُ اللُّغة العربيّة أكثر من 220 مليون شخص ينتشرون في أكثر من اثنين وعشرين بلدًا، من العراق إلى أقصى جنوب الصومال والسودان، ومن الشواطئ الأفريقيّة الشماليّة للمغرب إلى حدود أفريقيا جنوب الصحراء. لذلك فالعربيّة باعتبارها لغة القرآن تمكَّنت من الانتشار على مدى القرون، وقد أصبحت اليوم لغة رسميّة في عدد من الدول الإسلاميّة.
يَقْسمُ اللغويّون المعاصرون العربيّة إلى ثلاثة أصناف رئيسة، وهي:
1. العربيّة الكلاسيكية: وهي شكل اللُّغة العربيّة الموثَّقة بشكل حرفي في القرآن الكريم، ويمكن أن نسمّيها (العربيّة القرآنيّة)، التي تستعمل في العبادات الإسلامية، كما نجدها في التراث الشعري العربي القديم عمومًا.
2. العربيّة الحديثة المعياريّة: تختلف عن العربيّة التراثيّة في نحوها ومعجمها وصوتيّاتها؛ فعلى المستوى النحوي، لا تلتزم اللُّغة العربيّة الحديثة المعيارية بالعديد من القواعد الأساسية مثل تقديم الفعل على الفاعل، وعلى مستوى المعجم، تستقي العربيّة المعيارية مادتها من العاميّات المختلفة، إضافة إلى تعريب أو استعارة ألفاظ أجنبيّة حديثة وقديمة في آن (لاتينية إنجليزية وفرنسية وغيرها)، إضافة لإكساب كلمات عربيّة قديمة معانٍ جديدة مثلًا كلمة سيّارة، طائرة، حاسوب، هاتف... أمّا على المستوى الصوتي فإنَّها تهمل الحركات؛ أي علامات التشكيل غالبًا، خاصّة في آخر الكلمات. إنَّ هذه اللُّغة المعياريّة هي اللُّغة الرسميّة في العالم العربي، وهي مستعملة في الأدب والتعليم وفي الخطاب الإعلامي المعاصر.
3. العربيّة العاميّة "اللُّغة العاميّة": يتكلّمها أغلبية الناس كلهجتهم اليوميّة. وهي تختلف من منطقة عربيّة إلى أخرى، بل تختلف العاميّات داخل البلد العربي الواحد.
فهل من فروق واضحة بين عربيّة القرآن حاملة الوحي الإلهي وعربيّة التواصل المعبِّرة عن حياة الإنسان العربيّ المعاصر؟ هل يمكن دراستهما بالآليات اللسانيّة الحديثة نفسها؟
سنتبنّى في هذا المقال تقسيمًا ثنائيًّا للُّغة العربيّة، نسمّي القسم الأول (عربيّة المقدَّس)، ونقصد بها اللُّغة القرآنيّة، في مقابل عربيّة التَّواصل (العربيّة الحديثة المعياريّة) التي يستعملها رجال الأدب والباحثون والمعلمون، إضافة إلى (العربيّة العاميّة) لغة التَّواصل اليومي، والتي نسمّيها "اللّهجات العربيّة المختلفة" بين عموم الوطن العربي، لكنَّها تستقي معجمها العام من أصل واحد.
• عربيّة المقدَّس أو عربيّة القرآن
اختار الله سبحانه وتعالى اللُّغة العربيّة لغة وبيانًا للقرآن الكريم، حيث ارتضاها أداة لوحيِه المنزَّل على أكرم رسله محمد بن عبدالله، صلى الله عليه وسلم، وعربيّة اللُّغة والبيان القرآني جاء النص عليها في مواضع متعدِّدة من القرآن، منها:
قوله تعالى: الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ(1) إِنَّا أَنْـزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(2) سورة يوسف.
وقوله أيضًا: حم(1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ(2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(3) سورة الزخرف.
وقوله أيضًا: وَإِنَّهُ لَتَنْـزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ(192) نَـزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ(193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ(194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ(195) الشعراء.
وقال أيضًا: حم(1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(3) سورة فصلت.
وقوله تعالى: ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلّهم يتذكرون(27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ(28) الزمر.
وقوله تعالى: مِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ(12) الأحقاف.
وقوله تعالى: وَكَذَلِكَ أَنْـزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا سورة طه113.
وقوله تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ(103) سورة النحل.
وقوله تعالى: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ(3) سورة الشورى.
إنَّ هذه الآيات تبيِّن صراحةً أنّ الله اختار اللسان العربيّ حاملًا لوحي القرآن، ومنه اكتسبت لغة العرب قدسيّتها. فما معنى القدسيّة؟
يقول ابن منظور في لسان العرب، التَّقْدِيسُ: تنزيه اللَّه عزّ وجلّ. وفي التهذيب: القُدْسُ تنزيهًا للَّه تعالى، وهو المتَقَدَّس القُدُّوس المُقَدَّس. ويُقال: القُدُّوس فَعُّول من القُدْس، وهو الطّهارة، والتَقْدِيس: التَّطْهِير والتَّبْريك. وتَقَدَّس أَي تطهَّر. وفي التنزيل: ونحن نُسَبِّحُ بحمدك ونُقَدِّس لك، ورُوحُ القُدُس: جبريل، عليه السلام.
وقوله عزّ وجلّ: (وهذا كتابٌ مُصَدِّقٌ لسانًا عربيًّا)؛ أَي مُصَدِّقٌ للتوراة، المعنى مُصَدِّقٌ عربيًّا، وذكَرَ لسانًا توكيدًا كما تقول جاءني زيد رجلًا صالحًا، المعنى مصدّق النبي، صلى الله عليه وسلم، أَي مصدَّق ذا لسان عربي(1).
ومنه نخلص إلى كون العربيّة أخذت قدسيّتها من الوحي، فصارت منزَّهة مطهَّرة، لا يجوز التعبُّد بغيرها للمسلمين.
لكن، هل كون العربيّة حاملة القرآن، يمكن أن يحول دون دراستها؟ ألا يشكل الموقف التقديسي للغة تجميدًا لها في قوالب محدَّدة؟
مع كونها كائنًا حيًّا تعيش مع الإنسان، تتطوَّر بتطوُّره وتتأخَّر بتأخُّره؟
كيف تستمرّ العربيّة حيّة وتنافس في عصر الاتِّصال والتكنولوجيات المتطوِّرة؟
صحيح أنَّ القرآن الكريم أعطى للُّغة العربيّة قوةً ورُقِيًّا ما كانت لتصل إليهما لولاه، بما وهبها الله من المعاني الفيّاضة، والألفاظ المتطوِّرة والتراكيب الجديدة، والأساليب العالية الرفيعة، وفي هذا يقول العلّامة الرافعي: "نزل القرآن الكريم بهذه اللُّغة على نمط يعجز قليله وكثيره معًا، فكان أشبه شيء بالنور في جملة نسقه إذ النور جملة واحدة(...)، وإنَّما كان ذلك، لأنه صفى اللُّغة من أكدارها، وأجراها في ظاهره على بواطن أسرارها..."(2). وسبق ابن جنّي الرافعي في هذا التقديس للغة القرآن حين قال: "لو أحسَّ العجم بلطف صناعة العرب في هذه اللُّغة، وما فيها من الغموض والرقّة، لاعتذرت من اعترافها بلغتها"(3).
وفي السياق نفسه يقول الزمخشري: "اللهَ أحمدُ أنْ جعلني من علماءِ العربيّة، وجبلني على الغضب للعرب والعصبيّة"(4).
ليس علماء العربيّة حسب مَن أقرّوا بفرادة العربيّة، بل اعترف عدد من المستشرقين بقوَّتها وحيويَّتها وسرعة انتشارها، وفي هذا السياق يقول "أرنست رينان": "من أغرب ما وقع في تاريخ البشر، وصعب حلّ سرِّه، انتشار اللُّغة العربيّة، فقد كانت هذه اللُّغة غير معروفة بادئ بدء، فبدأت فجأة في غاية الكمال، سلسة أيّ سلاسة، غنيّة أيَّ غنى، كاملة بحيث لم يدخل عليها إلى يومنا هذا أيُّ تعديل مهمّ، فليس لها طفولة ولا شيخوخة، ظهرت لأوّل أمرها تامّة مستحكمة، من أغرب المدهشات أنْ تنبت تلك اللُّغة القوميّة وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحارى عند أمّة من الرُحَّل، تلك اللُّغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها، وحسن نظام مبانيها، وكانت هذه اللُّغة مجهولة عند الأمم، ومن يوم علمت ظهرت لنا في حلل الكمال إلى درجة أنها لم تتغيّر أيّ تغيير يُذكر، حتى إنه لم يُعرف لها في كل أطوار حياتها لا طفولة ولا شيخوخة، ولا نكاد نعلم من شأنها إلا فتوحاتها وانتصاراتها التي لا تُبارى..."(5).
"جورج سارنوت" بدوره يقول: "ولغة القرآن على اعتبار أنها لغة العرب كانت بهذا التجديد كاملة، وقد وهبها الرسول (صلى الله عليه وسلم) مرونة جعلتها قادرة على أن تدوّن الوحي الإلهي أحسن تدوين بجميع دقائق معانيه ولغاته، وأن يعبّر عنه بعبارات عليها طلاوة وفيها متانة، وهكذا يساعد القرآن على رفع اللُّغة العربيّة إلى مقام المثل الأعلى في التعبير عن المقاصد"(6).
أمّا فضل القرآن على العربيّة فيقول فيه "بروكلمان": "بفضل القرآن بلغت العربيّة من الاتساع مدى لا تكاد تعرفه أي لغة أخرى من لغات الدنيا، والمسلمون جميعًا مؤمنون بأنَّ اللُّغة العربيّة هي وحدها اللّسان الذي أحلّ لهم أن يستعملوه في صلواتهم، وبهذا اكتسبت اللُّغة العربيّة منذ زمان طويل مكانة رفيعة فاقت جميع لغات الدنيا الأخرى التي تنطق بها شعوب إسلامية"(7).
اهتمام المستشرقين الفرنسيين بعربيّة القرآن كان ومنذ وقت مبكر وما زال، وقد لفتوا جميعهم الانتباه إلى مميزات عربيّة القرآن، ومن أهم هؤلاء نذكر "جاك بيرك، القرآن وعلم القراءة"(8)، وقد سار في الاتِّجاه نفسه "لويس ماسنيون"، و"ريجيس بلاشير"، و"روجيه أرنالديز"، و"مكسيمرودونيسون"، و"كلود كاهين"، و"شارل بيلا"، و"هنري لاوست"، و"لويس غارديه"، و"هنري كوربان"... وغيرهم.
أمّا المستشرقون الألمان فتركَّز دورهم في جمع المخطوطات ونشرها وفهرستها. مع اهتمام خاص بالجانب الفيلولوجي والصرفي والأدبي، وعناية خاصة بوضع معاجم في اللُّغة العربيّة، كما درسوا جوانب الفكر العربي الإسلامي القديم خاصة. وكان الانشغال بالنص القرآني ميزة بارزة في جهود الألمان دون باقي المستشرقين حيث يذكر عبدالرحمن بدوي أنَّ أقدم ترجمة ألمانية عن النص العربي للقرآن مباشرة، هي ترجمة "دافيد فريدرشميجرلن"، الأستاذ في جامعة فرنكفورت، وقد ظهرت سنة 1772(9). إضافة لهذا الأخير تميَّز في دراسة العربيّة وثقافتها، من الألمان، كل من "برجتراسر" (1886- 1933)، "إنو ليتمان" (1875- 1958)، "جوزيف شاخت" (1902- 1969). وفي أواخر الثلاثينات وأوائل الأربعينات من القرن العشرين كان من الوافدين اليهود على القاهرة الفارّين من النازية الألمانية "بول كراوس" (1904- 1944) و"ماكس مايرهوف" (1874- 1945)، وقد اهتمّا بالفلسفة والعلوم الإسلامية. وعُيِّن إلى جانب هؤلاء في مجمعي اللُّغة العربيّة بالقاهرة ودمشق: كل من "هارتمان" (1851- 1918) و"أوجست فيشر" (1865- 1949) و"كارل بروكلمان" (1868- 1956) و"هلموت ريتر" (1892- 1971)... وقد تولّى المستشرق الألماني "فيلهيلم شبتا" (1853- 1883) سنة 1875 إدارة دار الكتب المصرية، وفهرس مخطوطاتها في نحو أربعين صفحة.
كل هذا فضلًا عمّا تُرجم في القرون الوسطى من مؤلفات العرب والمسلمين في الفلسفة والطب والفلك وغير ذلك من العلوم. وفيما يلي نماذج من هذه الترجمات:
ــ ترجمة مقامات الحريري إلى الفرنسية للمستشرق "سلفستر دي ساسي"، المطبوع في باريس 1812م؛ كما قام أيضًا بجمع جملة من المنتخبات العربيّة في كتاب سمّاه "الأنيس المفيد للطالب المستفيد"، وترجمه إلى الفرنسيّة.
ــ ترجمة السلوك لمعرفة دول الملوك (للمقريزي) للمستشرق الفرنسي "إتيان كترمير"، المطبوع في باريس 1845م.
ــ ترجمة رحلة ابن بطوطة إلى الإنجليزية، للمستشرق الإنجليزي "هاميلتون جب"، المطبوع في لندن 1958م.
ــ ترجمة كتاب ألف ليلة وليلة إلى الألمانية، للمستشرق "إينو ليتمن"، المطبوع في برلين 1928م.
خلاصة لما سبق، فإنَّ الدراسات التي تناولت اللُّغة العربيّة قديمًا وحديثًا، سواء منها العربيّة أو الاستشراقيّة، ركّزت على ارتباطها بالقرآن الكريم، ومن ثم اكتسبت العربيّة بُعدًا روحيًّا، لكنّ إشكالًا لدى بعض الدارسين ما زال مطروحًا؛ هو التفريق بين عربيّة القرآن باعتبارها لغة أعجز الله بها الناس قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) الإسراء، وعربيّة التواصل الحديثة. يشرح متولي الشعرواي هذه الآية قائلًا: "والتحدِّي معناه الإتيان بآية معجزة يعجز عنها المُعارض، لكن من جنس ما نبغ فيه المُعارض، فلا يتحدّاهم بشيء لا عِلْم لهم به... لذلك جاءت كل معجزات الرُّسل من جنس ما نبغ فيه القوم ليكون التحدِّي في محلِّه، ولا يعترضون عليه بأنه خارج عن نطاق علمهم ومقدرتهم، فكانت معجزة موسى -عليه السلام- العصا واليد، وهي من جنس ما نبغ فيه قومه من السِّحْر، وجاءت معجزة عيسى (عليه السلام)، إحياء الموتى بإذن الله، وإبراء الأكمة والأبرص؛ لأنَّ قومه نبغوا في الطب، وكانت معجزته صلى الله عليه وسلم في البلاغة والفصاحة التي نبغ فيها العرب(10).
عربيّة القرآن حاملة آيات الله توافق كل زمان ومكان، في حين عربيّة التواصل تخضع للتغيير والتبدُّل بحكم الاستعمال اليومي، وذلك بسبب المستجدّات العلميّة ومتطلّبات الإبداع الأدبي من مجاز واستعارة وانزياح... لذلك نكون أمام مستويين من العربيّة، عربيّة المقدَّس كا جاء بها القرآن، وعربيّة التواصل التي تطوّرت واغتنت بمفردات جديدة على مدى القرون، والثانية بمثابة الفرع من الأصل.
• عربيّة التَّواصل
تنظر اللسانيّات المعاصرة إلى اللُّغة باعتبارها نسقًا من الكلمات والرُّموز، وقد أعلن "فريدنان دي سوسير" منذ بداية أبحاثه اللسانيّة، قطيعة إبستمولوجية مع اللسانيات التاريخية، ودعا إلى دراسة اللُّغة في ذاتها ولحدّ ذاتها، وكان كتابه (منهج في اللسانيات العامة: cours de linguistique générale) واضحًا في هذه النقطة، حيث لا يجوز للمشتغل باللغات التمييز بينها.
ويشير الفاسي الفهري إلى المعنى نفسه في حديثه وملاحظاته حول الكتابة اللسانية حيث يقول: "ليست اللُّغة العربيّة كما يدّعي بعض اللغويين العرب لغة، متميّزة تنفرد بخصائص لا توجد في لغات أخرى. ومن ثمّة لا يمكن وصفها بالاعتماد على النظريات الغربيّة التي بنيت لوصف اللغات الأوروبية، بل العربيّة لغة كسائر اللغات البشرية، فاللُّغة العربيّة بصفتها لغة، تنتمي إلى مجموعة من اللغات الطبيعية وتشترك معها في عدد من الخصائص (الصوتية والتركيبية والدلالية)، وتضبطها قيود ومبادئ تضبط غيرها من اللغات"(11). لذلك فالعربيّة من المنظور اللساني، والتي نعتبرها عربيّة التواصل لغة طبيعية كباقي اللغات، ليست دون اللغات وليست فوق اللغات.
نعم اللُّغة العربيّة هي حامل support للهوية الدينية والحضارية والثقافية، لكن ذلك لا يسمح لبعض الباحثين بتمييز العربيّة وإقصاء اللغات الأخرى، والدعوة إلى عدم تعلُّمها مثلًا.
عربيّة التواصل إذن هي بمثابة بنت للغة القرآن، إنها واسعة الاستعمال في الأدب والتعليم والإعلام، وهي موضوع الدرس اللساني المعاصر في الثقافة العربيّة، هذا الدرس رهين بتجاوز تقديس اللُّغة، والسعي لإبراز جوانب الائتلاف والاختلاف بين الدَّرسَيْن؛ الدَّرس اللساني العربي الحديث، والدَّرس اللغوي القديم، سعيًا لإيجاد صلات ووشائج بينهما، بل والعمل على استثمار اللسانيات الحديثة بمختلف مدارسها لخدمة الدَّرس اللساني العربي، وخدمة العربيّة معجمًا ودلالةً وصوتًا وتركيبًا، بالعمل على حوسبة معجم اللُّغة العربيّة، بشكل يستجيب لملكة متكلم العربيّة المعاصر، على اعتبار أنَّ العربيّة التي قعّد لها سيبويه (ت180هـ) ''في الكتاب''، ليست لغة متكلم العربيّة الحالية. ويمكن تحديد الأبواب المحتاجة إلى تطوير العربيّة وفق مستجدّات الدرس اللّساني فيما يلي:
- توسيع وتجديد متن اللُّغة العربيّة.
- الاشتغال على قضايا المصطلح لمواكبة اللُّغة العربيّة للعلوم الحديثة.
- حوسبة معجم للّغة العربيّة.
- استثمار أفكار اللسانيات لتدريس اللُّغة العربيّة.
- استثمار غنى التراث اللغوي والبلاغي والنقدي العربي القديم لتطوير اللُّغة العربيّة.
خلاصة القول: إنَّ عربيّة القرآن ستظلّ معجزة لفظًا ومعنى، كما ستظلّ عربيّة التواصل لغة طبيعية، تتطوّر وتنمو وتضبطها قيود... وهما بمثابة الأم والبنت، أو الفرع والأصل. لكن، على الرغم من وضوح هذه الرؤية، إلا أنَّ الطريق يبدو أمام الباحثين اللسانيين العرب ما يزال شاقًّا لتطوير اللُّغة العربيّة وتأهيلها وتسهيل تعلُّمها، في ظلّ سوق لغوية عالمية تطبعها التنافسية، فالدول العظمى واعية بأنَّ اللُّغة مدخل أساس للحفاظ على وجودها ومصالحها السياسية والاقتصادية... اللُّغة ليست هوية وسيادة حسب، بل هي أيضًا أداة للتنافس المرجعي الفكري والثقافي والتموقع الاقتصادي والإعلامي والرقمي، علاوة على التموقع السياسي.. فاللُّغة ليست مشكلًا ثقافيًّا أو علميًّا أو تقنيًّا فقط، طبعًا هذه المشاكل لها أهميّتها، ولكنَّ المشكل بالدَّرجة الأولى سياسيّ، فالأمر يتعلق بسيادة الدولة، ولا نهوض ولا تنمية، دون تحقيق الكرامة للإنسان، وحق المواطن في لغته جزء من كرامته(12).
• الهوامش والمراجع:
• القرآن الكريم.
(1) ابن منظور، لسان العرب، طبعة دار المعارف، 2008م.، مادة (ق د س).
(2) تاريخ آداب العرب، الرافعي، (ط2، دار الكتاب العربي، بيروت: 1974م) 2/74. والشيح والقيصوم نباتان من نبات البادية، يضرب بهما المثل، يقال: فلان يمضغ الشيح والقيصوم، إذا كان عربيًّا خالص البداوة. انظر لسان العرب: (شيح، قصم).
(3) ابن جني، (أبو الفتح عثمان)، الخصائص، تحقيق: مازن المبارك، دار الفكر، دمشق، ج2، 1988م، 1/242.
(4) ابن يعيش، (موفق الدين)، شرح المفصل للزمخشري، (تـ643هـ)، تحقيق: د.أميل بديع يعقوب، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1422هـ/ 2001م، مقدمة المفصل.
(5) اللُّغة العربيّة بين حماتها وخصومها، أنور الجندي، مطبعة الرسالة، بيروت، ص25.
(6) لغة القرآن الكريم د.عبدالجليل عبدالرحيم، مكتبة الرسالة الحديثة، عمّان، 1981م، ص585.
(7) كارل بروكلمان، تاريخ الأدب العربي، ط1، دار المعارف، 1418هـ.
(8) جاك بيرك، القرآن وعلم القراءة، ترجمة منذر عياشي، ط1، دار التنوير، بيروت، 1996.
(9) موسوعة المستشرقين: د. أحمد بدوي، ط2، بيروت، دار العلم للملايين، 1989.
(10) تفسير خواطر، محمد متولي الشعراوي، www.elsharawy.com
(11) الفاسي الفهري، عبدالقادر، اللسانيات واللُّغة العربيّة- نماذج تركيبية ودلالية ، ج1، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 1985م، ص56.
(12) الفاسي الفهري، عبدالقادر (القرار اللغوي في المغرب لا يخضع للشروط الديموقراطية ولا العدالة اللغوية الإصلاح)، صحيفة "التجديد"، تاريخ الولوج 24 أيلول/ سبتمبر 2013م.