اللُّغة العربيّة بين مجالَي المقدَّس والتَّواصل

منير بن رحال

باحث وأكاديمي مغربي

 

يَسْتعمِلُ اللُّغة العربيّة أكثر من 220 مليون شخص ينتشرون في أكثر من اثنين ‏وعشرين بلدًا، من العراق إلى أقصى جنوب الصومال والسودان، ومن الشواطئ ‏الأفريقيّة الشماليّة للمغرب إلى حدود أفريقيا جنوب الصحراء. لذلك فالعربيّة باعتبارها ‏لغة القرآن تمكَّنت من الانتشار على مدى القرون، وقد أصبحت اليوم لغة رسميّة في ‏عدد من الدول الإسلاميّة. ‏

 

يَقْسمُ اللغويّون المعاصرون العربيّة إلى ثلاثة أصناف رئيسة، وهي:‏

‏1.‏ العربيّة الكلاسيكية: وهي شكل اللُّغة العربيّة الموثَّقة بشكل حرفي في القرآن الكريم، ‏ويمكن أن نسمّيها (العربيّة القرآنيّة)، التي تستعمل في العبادات الإسلامية، كما نجدها ‏في التراث الشعري العربي القديم عمومًا.‏

‏2.‏ العربيّة الحديثة المعياريّة: تختلف عن العربيّة التراثيّة ‏في‎ ‎نحوها‎ ‎ومعجمها‎ ‎وصوتيّاتها؛ فعلى المستوى النحوي، لا تلتزم اللُّغة العربيّة الحديثة ‏المعيارية بالعديد من القواعد الأساسية مثل تقديم‎ ‎الفعل‎ ‎على‎ ‎الفاعل، وعلى مستوى ‏المعجم، تستقي العربيّة المعيارية مادتها من‎ ‎العاميّات‎ ‎المختلفة، إضافة‎ ‎إلى تعريب‎ ‎أو ‏استعارة ألفاظ أجنبيّة حديثة وقديمة في آن (لاتينية إنجليزية وفرنسية وغيرها)، إضافة ‏لإكساب كلمات عربيّة قديمة معانٍ جديدة مثلًا كلمة‎ ‎سيّارة، طائرة، حاسوب، هاتف... ‏أمّا على المستوى الصوتي فإنَّها تهمل الحركات؛ أي علامات التشكيل غالبًا، خاصّة ‏في آخر الكلمات. إنَّ هذه اللُّغة المعياريّة هي اللُّغة الرسميّة في العالم العربي، وهي ‏مستعملة في الأدب والتعليم وفي الخطاب الإعلامي المعاصر.‏

‏3.‏ العربيّة العاميّة "اللُّغة العاميّة": يتكلّمها أغلبية الناس كلهجتهم اليوميّة. وهي تختلف ‏من منطقة عربيّة إلى أخرى، بل تختلف العاميّات داخل البلد العربي الواحد.‏

فهل من فروق واضحة بين عربيّة القرآن حاملة الوحي الإلهي وعربيّة التواصل ‏المعبِّرة عن حياة الإنسان العربيّ المعاصر؟ هل يمكن دراستهما بالآليات اللسانيّة ‏الحديثة نفسها؟ ‏

سنتبنّى في هذا المقال تقسيمًا ثنائيًّا للُّغة العربيّة، نسمّي القسم الأول (عربيّة المقدَّس)، ‏ونقصد بها اللُّغة القرآنيّة، في مقابل عربيّة التَّواصل (العربيّة الحديثة المعياريّة) ‏التي يستعملها رجال الأدب والباحثون والمعلمون، إضافة إلى (العربيّة العاميّة) لغة ‏التَّواصل اليومي، والتي نسمّيها "اللّهجات العربيّة المختلفة" بين عموم الوطن العربي، ‏لكنَّها تستقي معجمها العام من أصل واحد.‏

عربيّة المقدَّس أو عربيّة القرآن ‏

اختار الله سبحانه وتعالى اللُّغة العربيّة لغة وبيانًا للقرآن الكريم، حيث ارتضاها أداة ‏لوحيِه المنزَّل على أكرم رسله محمد بن عبدالله، صلى الله عليه وسلم، وعربيّة اللُّغة ‏والبيان القرآني جاء النص عليها في مواضع متعدِّدة من القرآن، منها:‏

‏ قوله تعالى: ‏ الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ(1) إِنَّا أَنْـزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(2)‏‎ ‎ سورة يوسف.‏

وقوله أيضًا: ‏ حم(1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ(2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(3)‏‎ ‎ ‏ ‏سورة الزخرف.‏

وقوله أيضًا: ‏ وَإِنَّهُ لَتَنْـزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ(192) نَـزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ(193) عَلَى ‏قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ(194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ(195)‏ ‏ الشعراء.‏

وقال أيضًا: ‏ حم(1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا ‏لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(3) ‏ ‏ سورة فصلت.‏

وقوله تعالى: ‏ ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلّهم يتذكرون(27) ‏قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ(28)‏‎ ‎ الزمر.‏

وقوله تعالى: ‏ مِنْ قَبْلِهِ‎ ‎كِتَابُ‎ ‎مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا ‏لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ(12)‏‎ ‎ ‏ الأحقاف.‏

وقوله تعالى: ‏ وَكَذَلِكَ أَنْـزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ ‏يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا ‏ سورة طه113.‏

وقوله تعالى: ‏ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ ‏وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ(103) ‏ ‏ سورة النحل.‏

وقوله تعالى: ‏ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ ‏الْجَمْعِ لاَ رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ(3)‏‎ ‎ سورة الشورى.‏

إنَّ هذه الآيات تبيِّن صراحةً أنّ الله اختار اللسان العربيّ حاملًا لوحي القرآن، ومنه ‏اكتسبت لغة العرب قدسيّتها. فما معنى القدسيّة؟ ‏

يقول ابن منظور في لسان العرب، التَّقْدِيسُ: تنزيه اللَّه عزّ وجلّ. وفي التهذيب: القُدْسُ ‏تنزيهًا للَّه تعالى، وهو المتَقَدَّس القُدُّوس المُقَدَّس. ويُقال: القُدُّوس فَعُّول من القُدْس، ‏وهو الطّهارة، والتَقْدِيس: التَّطْهِير والتَّبْريك. وتَقَدَّس أَي تطهَّر. وفي التنزيل: ونحن ‏نُسَبِّحُ بحمدك ونُقَدِّس لك، ورُوحُ القُدُس: جبريل، عليه السلام.‏

وقوله عزّ وجلّ: (وهذا كتابٌ مُصَدِّقٌ لسانًا عربيًّا)؛ أَي مُصَدِّقٌ للتوراة، المعنى ‏مُصَدِّقٌ عربيًّا، وذكَرَ لسانًا توكيدًا كما تقول جاءني زيد رجلًا صالحًا، المعنى مصدّق ‏النبي، صلى الله عليه وسلم، أَي مصدَّق ذا لسان عربي(1).‏

ومنه نخلص إلى كون العربيّة أخذت قدسيّتها من الوحي، فصارت منزَّهة مطهَّرة، لا ‏يجوز التعبُّد بغيرها للمسلمين.‏

لكن، هل كون العربيّة حاملة القرآن، يمكن أن يحول دون دراستها؟ ألا يشكل ‏الموقف التقديسي للغة تجميدًا لها في قوالب محدَّدة؟ ‏

مع كونها كائنًا حيًّا تعيش مع الإنسان، تتطوَّر بتطوُّره وتتأخَّر بتأخُّره؟

‏ كيف تستمرّ العربيّة حيّة وتنافس في عصر الاتِّصال والتكنولوجيات المتطوِّرة؟

صحيح أنَّ القرآن الكريم أعطى للُّغة العربيّة قوةً ورُقِيًّا ما كانت لتصل إليهما لولاه، ‏بما وهبها الله من المعاني الفيّاضة، والألفاظ المتطوِّرة والتراكيب الجديدة، والأساليب ‏العالية الرفيعة، وفي هذا يقول العلّامة الرافعي: "نزل القرآن الكريم بهذه اللُّغة على ‏نمط يعجز قليله وكثيره معًا، فكان أشبه شيء بالنور في جملة نسقه إذ النور جملة ‏واحدة(...)، وإنَّما كان ذلك، لأنه صفى اللُّغة من أكدارها، وأجراها في ظاهره على ‏بواطن أسرارها..."(2). وسبق ابن جنّي الرافعي في هذا التقديس للغة القرآن حين ‏قال: "لو أحسَّ العجم بلطف صناعة العرب في هذه اللُّغة، وما فيها من الغموض ‏والرقّة، لاعتذرت من اعترافها بلغتها"(3).‏

وفي السياق نفسه يقول الزمخشري: "اللهَ أحمدُ أنْ جعلني من علماءِ العربيّة، وجبلني ‏على الغضب للعرب والعصبيّة"(4).‏

ليس علماء العربيّة حسب مَن أقرّوا بفرادة العربيّة، بل اعترف عدد من المستشرقين ‏بقوَّتها وحيويَّتها وسرعة انتشارها، وفي هذا السياق يقول "أرنست رينان": "من ‏أغرب ما وقع في تاريخ البشر، وصعب حلّ سرِّه، انتشار اللُّغة العربيّة، فقد كانت ‏هذه اللُّغة غير معروفة بادئ بدء، فبدأت فجأة في غاية الكمال، سلسة أيّ سلاسة، ‏غنيّة أيَّ غنى، كاملة بحيث لم يدخل عليها إلى يومنا هذا أيُّ تعديل مهمّ، فليس لها ‏طفولة ولا شيخوخة، ظهرت لأوّل أمرها تامّة مستحكمة، من أغرب المدهشات أنْ ‏تنبت تلك اللُّغة القوميّة وتصل إلى درجة الكمال وسط الصحارى عند أمّة من الرُحَّل، ‏تلك اللُّغة التي فاقت أخواتها بكثرة مفرداتها ودقة معانيها، وحسن نظام مبانيها، وكانت ‏هذه اللُّغة مجهولة عند الأمم، ومن يوم علمت ظهرت لنا في حلل الكمال إلى درجة ‏أنها لم تتغيّر أيّ تغيير يُذكر، حتى إنه لم يُعرف لها في كل أطوار حياتها لا طفولة ولا ‏شيخوخة، ولا نكاد نعلم من شأنها إلا فتوحاتها وانتصاراتها التي لا تُبارى..."(5).‏

‏"جورج سارنوت" بدوره يقول: "ولغة القرآن على اعتبار أنها لغة العرب كانت بهذا ‏التجديد كاملة، وقد وهبها الرسول (صلى الله عليه وسلم) مرونة جعلتها قادرة على أن ‏تدوّن الوحي الإلهي أحسن تدوين بجميع دقائق معانيه ولغاته، وأن يعبّر عنه بعبارات ‏عليها طلاوة وفيها متانة، وهكذا يساعد القرآن على رفع اللُّغة العربيّة إلى مقام المثل ‏الأعلى في التعبير عن المقاصد"(6).‏

أمّا فضل القرآن على العربيّة فيقول فيه "بروكلمان": "بفضل القرآن بلغت العربيّة من ‏الاتساع مدى لا تكاد تعرفه أي لغة أخرى من لغات الدنيا، والمسلمون جميعًا مؤمنون ‏بأنَّ اللُّغة العربيّة هي وحدها اللّسان الذي أحلّ لهم أن يستعملوه في صلواتهم، وبهذا ‏اكتسبت اللُّغة العربيّة منذ زمان طويل مكانة رفيعة فاقت جميع لغات الدنيا الأخرى ‏التي تنطق بها شعوب إسلامية"(7).‏

اهتمام المستشرقين الفرنسيين بعربيّة القرآن كان ومنذ وقت مبكر وما زال، وقد لفتوا ‏جميعهم الانتباه إلى مميزات عربيّة القرآن، ومن أهم هؤلاء نذكر "جاك بيرك، القرآن ‏وعلم القراءة"(8)، وقد سار في الاتِّجاه نفسه "لويس ماسنيون"، و"ريجيس بلاشير"، ‏و"روجيه أرنالديز"، و"مكسيمرودونيسون"، و"كلود كاهين"، و"شارل بيلا"، و"هنري ‏لاوست"، و"لويس غارديه"، و"هنري كوربان"... وغيرهم.‏

أمّا المستشرقون الألمان فتركَّز دورهم في جمع المخطوطات ونشرها وفهرستها. مع ‏اهتمام خاص بالجانب الفيلولوجي والصرفي والأدبي، وعناية خاصة بوضع معاجم ‏في اللُّغة العربيّة، كما درسوا جوانب الفكر العربي الإسلامي القديم خاصة. وكان ‏الانشغال بالنص القرآني ميزة بارزة في جهود الألمان دون باقي المستشرقين حيث ‏يذكر عبدالرحمن بدوي أنَّ أقدم ترجمة ألمانية عن النص العربي للقرآن مباشرة، هي ‏ترجمة "دافيد فريدرشميجرلن"، الأستاذ في جامعة فرنكفورت، وقد ظهرت سنة ‏‏1772(9). إضافة لهذا الأخير تميَّز في دراسة العربيّة وثقافتها، من الألمان، كل من ‏‏"برجتراسر" (1886- 1933)، "إنو ليتمان" (1875-‏‎ ‎‏1958)، "جوزيف شاخت" ‏‏(1902-‏‎ ‎‏1969). وفي أواخر الثلاثينات وأوائل الأربعينات من القرن العشرين كان ‏من الوافدين اليهود على القاهرة الفارّين من النازية الألمانية "بول كراوس" (1904-‏‎ ‎‏1944) و"ماكس مايرهوف" (1874-‏‎ ‎‏1945)، وقد اهتمّا بالفلسفة والعلوم ‏الإسلامية. وعُيِّن إلى جانب هؤلاء في مجمعي اللُّغة العربيّة بالقاهرة ودمشق: كل من ‏‏"هارتمان" (1851-‏‎ ‎‏1918) و"أوجست فيشر" (1865- 1949) و"كارل ‏بروكلمان" (1868- 1956) و"هلموت ريتر" (1892-‏‎ ‎‏1971)... وقد تولّى ‏المستشرق الألماني "فيلهيلم شبتا" (1853-‏‎ ‎‏1883) سنة 1875 إدارة دار الكتب ‏المصرية، وفهرس مخطوطاتها في نحو أربعين صفحة.‏

كل هذا فضلًا عمّا تُرجم في القرون الوسطى من مؤلفات العرب والمسلمين في ‏الفلسفة والطب والفلك وغير ذلك من العلوم. وفيما يلي نماذج من هذه الترجمات:‏

ــ ترجمة مقامات الحريري إلى الفرنسية للمستشرق "سلفستر دي ساسي"، المطبوع ‏في باريس 1812م؛ كما قام أيضًا بجمع جملة من المنتخبات العربيّة في كتاب سمّاه ‏‏"الأنيس المفيد للطالب المستفيد"، وترجمه إلى الفرنسيّة.‏

ــ ترجمة السلوك لمعرفة دول الملوك (للمقريزي) للمستشرق الفرنسي "إتيان ‏كترمير"، المطبوع في باريس 1845م.‏

ــ ترجمة رحلة ابن بطوطة إلى الإنجليزية، للمستشرق الإنجليزي "هاميلتون جب"، ‏المطبوع في لندن 1958م.‏

ــ ترجمة كتاب ألف ليلة وليلة إلى الألمانية، للمستشرق "إينو ليتمن"، المطبوع في ‏برلين 1928م.‏

خلاصة لما سبق، فإنَّ الدراسات التي تناولت اللُّغة العربيّة قديمًا وحديثًا، سواء منها ‏العربيّة أو الاستشراقيّة، ركّزت على ارتباطها بالقرآن الكريم، ومن ثم اكتسبت العربيّة ‏بُعدًا روحيًّا، لكنّ إشكالًا لدى بعض الدارسين ما زال مطروحًا؛ هو التفريق بين عربيّة ‏القرآن باعتبارها لغة أعجز الله بها الناس ‏ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَنْ يَأْتُوا ‏بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ‏(88)‏‎ ‎الإسراء، ‏وعربيّة التواصل الحديثة. يشرح متولي الشعرواي هذه الآية قائلًا: "والتحدِّي معناه ‏الإتيان بآية معجزة يعجز عنها المُعارض، لكن من جنس ما نبغ فيه المُعارض، فلا ‏يتحدّاهم بشيء لا عِلْم لهم به... لذلك جاءت كل معجزات الرُّسل من جنس ما نبغ فيه ‏القوم ليكون التحدِّي في محلِّه، ولا يعترضون عليه بأنه خارج عن نطاق علمهم ‏ومقدرتهم، فكانت معجزة موسى -عليه السلام- العصا واليد، وهي من جنس ما نبغ ‏فيه قومه من السِّحْر، وجاءت معجزة عيسى (عليه السلام)، إحياء الموتى بإذن الله، ‏وإبراء الأكمة والأبرص؛ لأنَّ قومه نبغوا في الطب، وكانت معجزته صلى الله عليه ‏وسلم في البلاغة والفصاحة التي نبغ فيها العرب(10). ‏

عربيّة القرآن حاملة آيات الله توافق كل زمان ومكان، في حين عربيّة التواصل ‏تخضع للتغيير والتبدُّل بحكم الاستعمال اليومي، وذلك بسبب المستجدّات العلميّة ‏ومتطلّبات الإبداع الأدبي من مجاز واستعارة وانزياح... لذلك نكون أمام مستويين من ‏العربيّة، عربيّة المقدَّس كا جاء بها القرآن، وعربيّة التواصل التي تطوّرت واغتنت ‏بمفردات جديدة على مدى القرون، والثانية بمثابة الفرع من الأصل.‏

عربيّة التَّواصل ‏

تنظر اللسانيّات المعاصرة إلى اللُّغة باعتبارها نسقًا من الكلمات والرُّموز، وقد أعلن ‏‏"فريدنان دي سوسير" منذ بداية أبحاثه اللسانيّة، قطيعة إبستمولوجية مع اللسانيات ‏التاريخية، ودعا إلى دراسة اللُّغة في ذاتها ولحدّ ذاتها، وكان كتابه (منهج في ‏اللسانيات العامة: ‏cours de linguistique générale‏) واضحًا في هذه ‏النقطة، حيث لا يجوز للمشتغل باللغات التمييز بينها.‏

ويشير الفاسي الفهري إلى المعنى نفسه في حديثه وملاحظاته حول الكتابة اللسانية ‏حيث يقول: "ليست اللُّغة العربيّة كما يدّعي بعض اللغويين العرب لغة، متميّزة تنفرد ‏بخصائص لا توجد في لغات أخرى. ومن ثمّة لا يمكن وصفها بالاعتماد على ‏النظريات الغربيّة التي بنيت لوصف اللغات الأوروبية، بل العربيّة لغة كسائر اللغات ‏البشرية، فاللُّغة العربيّة بصفتها لغة، تنتمي إلى مجموعة من اللغات الطبيعية وتشترك ‏معها في عدد من الخصائص (الصوتية والتركيبية والدلالية)، وتضبطها قيود ومبادئ ‏تضبط غيرها من اللغات"(11). لذلك فالعربيّة من المنظور اللساني، والتي نعتبرها ‏عربيّة التواصل لغة طبيعية كباقي اللغات، ليست دون اللغات وليست فوق اللغات.‏

نعم اللُّغة العربيّة هي حامل ‏support‏ للهوية الدينية والحضارية والثقافية، لكن ذلك ‏لا يسمح لبعض الباحثين بتمييز العربيّة وإقصاء اللغات الأخرى، والدعوة إلى عدم ‏تعلُّمها مثلًا.‏

عربيّة التواصل إذن هي بمثابة بنت للغة القرآن، إنها واسعة الاستعمال في الأدب ‏والتعليم والإعلام، وهي موضوع الدرس اللساني المعاصر في الثقافة العربيّة، هذا ‏الدرس رهين بتجاوز تقديس اللُّغة، والسعي لإبراز جوانب الائتلاف والاختلاف بين ‏الدَّرسَيْن؛ الدَّرس اللساني العربي الحديث، والدَّرس اللغوي القديم، سعيًا لإيجاد صلات ‏ووشائج بينهما، بل والعمل على استثمار اللسانيات الحديثة بمختلف مدارسها لخدمة ‏الدَّرس اللساني العربي، وخدمة العربيّة معجمًا ودلالةً وصوتًا وتركيبًا، بالعمل على ‏حوسبة معجم اللُّغة العربيّة، بشكل يستجيب لملكة متكلم العربيّة المعاصر، على اعتبار ‏أنَّ العربيّة التي قعّد لها سيبويه (ت180هـ) ''في الكتاب''، ليست لغة متكلم العربيّة ‏الحالية. ويمكن تحديد الأبواب المحتاجة إلى تطوير العربيّة وفق مستجدّات الدرس ‏اللّساني فيما يلي:‏‎ ‎

‏-‏ توسيع وتجديد متن اللُّغة العربيّة.‏

‏-‏ ‏ الاشتغال على قضايا المصطلح لمواكبة اللُّغة العربيّة للعلوم الحديثة.‏

‏-‏ حوسبة معجم للّغة العربيّة.‏

‏-‏ استثمار أفكار اللسانيات لتدريس اللُّغة العربيّة.‏

‏-‏ استثمار غنى التراث اللغوي والبلاغي والنقدي العربي القديم لتطوير اللُّغة العربيّة.‏

خلاصة القول: إنَّ عربيّة القرآن ستظلّ معجزة لفظًا ومعنى، كما ستظلّ عربيّة ‏التواصل لغة طبيعية، تتطوّر وتنمو وتضبطها قيود... وهما بمثابة الأم والبنت، أو ‏الفرع والأصل. لكن، على الرغم من وضوح هذه الرؤية، إلا أنَّ الطريق يبدو أمام ‏الباحثين اللسانيين العرب ما يزال شاقًّا لتطوير اللُّغة العربيّة وتأهيلها وتسهيل تعلُّمها، ‏في ظلّ سوق لغوية عالمية تطبعها التنافسية، فالدول العظمى واعية بأنَّ اللُّغة مدخل ‏أساس للحفاظ على وجودها ومصالحها السياسية والاقتصادية... اللُّغة ليست هوية ‏وسيادة حسب، بل هي أيضًا أداة للتنافس المرجعي الفكري والثقافي والتموقع ‏الاقتصادي والإعلامي والرقمي، علاوة على التموقع السياسي.. فاللُّغة ليست مشكلًا ‏ثقافيًّا أو علميًّا أو تقنيًّا فقط، طبعًا هذه المشاكل لها أهميّتها، ولكنَّ المشكل بالدَّرجة ‏الأولى سياسيّ، فالأمر يتعلق بسيادة الدولة، ولا نهوض ولا تنمية، دون تحقيق الكرامة ‏للإنسان، وحق المواطن في لغته جزء من كرامته(12).‏

 

الهوامش والمراجع:‏

القرآن الكريم.‏

‏(1)‏ ‏ ابن منظور، لسان العرب، طبعة دار المعارف، 2008م.، مادة (ق د س).‏

‏(2)‏ ‏ تاريخ آداب العرب، الرافعي، (ط2، دار الكتاب العربي، بيروت: 1974م) 2/74. ‏والشيح والقيصوم نباتان من نبات البادية، يضرب بهما المثل، يقال: فلان يمضغ ‏الشيح والقيصوم، إذا كان عربيًّا خالص البداوة. انظر لسان العرب: (شيح، قصم).‏

‏(3)‏ ‏ ابن جني، (أبو الفتح عثمان)، الخصائص، تحقيق: مازن المبارك، دار الفكر، دمشق، ‏ج2، 1988م، 1/242.‏

‏(4)‏ ‏ ابن يعيش، (موفق الدين)، شرح المفصل للزمخشري، (تـ643هـ)، تحقيق: د.أميل ‏بديع يعقوب، ط1، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 1422هـ/ 2001م، مقدمة ‏المفصل.‏

‏(5)‏ ‏ اللُّغة العربيّة بين حماتها وخصومها، أنور الجندي، مطبعة الرسالة، بيروت، ‏ص25.‏

‏(6)‏ ‏ لغة القرآن الكريم د.عبدالجليل عبدالرحيم، مكتبة الرسالة الحديثة، عمّان، ‏‏1981م، ص585.‏

‏(7)‏ ‏ كارل بروكلمان، تاريخ الأدب العربي، ط1، دار المعارف، 1418هـ.‏

‏(8)‏ ‏ جاك بيرك، القرآن وعلم القراءة، ترجمة منذر عياشي، ط1، دار التنوير، ‏بيروت، 1996.‏

‏(9)‏ ‏ موسوعة المستشرقين: د. أحمد بدوي، ط2، بيروت، دار العلم للملايين، 1989.‏

‏(10)‏ تفسير خواطر، محمد متولي الشعراوي، ‏www.elsharawy.com

‏(11)‏ الفاسي الفهري، عبدالقادر، اللسانيات واللُّغة العربيّة- نماذج تركيبية ودلالية ، ‏ج1، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 1985م، ص56.‏

‏(12)‏ الفاسي الفهري، عبدالقادر (القرار اللغوي في المغرب لا يخضع للشروط ‏الديموقراطية ولا العدالة اللغوية‎ ‎الإصلاح)، صحيفة "التجديد"، تاريخ الولوج 24 ‏أيلول/ سبتمبر 2013م.‏