د. سهيل عبد اللطيف الفتياني
كاتب وأكاديمي أردني
ينهض مشروع يوسف الخال النَّقدي على إعادة نظر شاملة في شتى القضايا الثقافيّة، وفي مقدِّمتها اللُّغة التي تشكل "المحور الرئيس لكل نظريَّته الشعريّة، فكلّ ما ارتآه ضروريًّا لدفع الشعريّة العربيّة في طريق الحداثة يصبُّ بشكل أو بآخر في خانة اللُّغة". ويبدو لنا مسكونًا بهاجس اللُّغة، ونجده يعلن بأنَّ "موضوع اللُّغة يثيرني إلى أبعد حدّ". وهذا ما يسوّغ استمراره بالتَّبشير بآرائه اللغويّة حتى اللّحظة الأخيرة.
أفصح الشّاعر يوسف الخال عن موقفه من اللُّغة العربيّة في محاضرته (نحن والعالم الحديث) ضمن مؤتمر روما عام 1961، فقد عدَّ مسألة اللُّغة من أبرز الصُّعوبات التي تواجه الأدب العربيّ، وتقف حاجزًا أمام تحديثه؛ وذلك بسبب الازدواجيّة التي تعانيها، إذ إنَّنا "نفكِّر بلغة، ونتكلَّم بلغة، ونكتب بلغة"، ممّا يعني -على الصَّعيد العمليّ- انفصال الأدب العربي عن لغة الحياة اليوميّة.
ويذهب إلى أنَّ اللُّغة العربيّة التقليديّة أو (الفصحى)؛ بقواعدها المتوارثة الجامدة غير قادرة على التعبير عن الحياة المعاصرة، فهي لا تفرز إلّا "أدبًا مصطنعًا محدودًا لا يتجاوب مع نفس القارئ ولا يعكس حياته، ويجده بعيدًا عن قضاياه ومشاكله"، ولذلك فإنَّها بما تنطوي عليه من أساليب عقيمة "لم تعُد تصلح للتعبير الكامل الطليق عن خوالج النّفس"، ولا عن التجربة الحديثة بأبعادها المختلفة، ونجده يصرِّح بنبرة يقينيّة: "أعطوني أسلوبًا شعريًا أو نثرًا جديدًا باللُّغة الفصحى يتجاذب مع الحياة، ويصدق في تعبيره عنها، وأنا أكون في طليعة التائبين"(1). لذلك يذهب إلى توجيه الاتِّهام الصريح للعربيّة بأنّها تتحمَّل المسؤولية الكاملة عن تخلُّف الأدب العربي، و"تتآمر على إبقاء الأساليب الشعريّة عتيقة".
استنادًا إلى الطرح السابق، يعاني الأدب العربي المعاصر، والشعر بخاصة، من فقدان الحداثة؛ بسبب أزمة التوصيل الناشئة عن جمود اللُّغة وتوقُّفها عن التطوُّر الطبيعي، إذ إنها عاجزة عن التعبير عن تجربة الشاعر الحديث من جهة، وعن الوصول إلى القارئ من جهة أخرى؛ ممّا يضعنا في النتيجة أمام ما أُطلق عليه (جدار اللُّغة) الذي يمثل برأيه الحدّ الفاصل بين الشعر العربي التقليدي والحديث. وهو ما يفضي في النتيجة إلى ضرورة التوقُّف عن استخدام الفصحى في الأدب، إذ من العبث الاستمرار في استخدامها نظرًا لعدم صلاحيتها.
تندرج مسألة اللُّغة لدى الخال في فهمه الشامل للحداثة من حيث هي رؤية جديدة وعقليّة حديثة. وهو ما يقتضي نهوض نظرة حديثة إلى اللُّغة قوامها أنَّنا "لا نكون حديثين بلغة قديمة"(2). وهذه المسألة اللغويّة، برأيه، تحتاج إلى وعي، وهذا الوعي يمثل مؤشرًا على المضيّ في طريق الحداثة. وحيث إنَّ هذا الأمر غير متحقِّق في الثقافة العربيّة، فهذا يعني بالضرورة استحالة تطوُّر العربيّة الفصحى وبصورة نهائيّة، ونجده يعلن "أنّنا استنفدنا، أو كدنا نستنفد، منذ أبي نواس، إمكان تطويع اللُّغة الفصحى لحاجة التّعبير الحيّ النّابض عن خلجات نفوسنا وتأمُّلات عقولنا"(3).
تبعًا لذلك، فإنه لا يرى جدوى في شتى المحاولات الرامية إلى تطوير اللُّغة، سواء عن طريق المجامع اللغوية أو المؤتمرات العلميّة، ونجده يقف موقف الرفض التام من كل محاولات تبسيط الفصحى وتقريبها من العاميّة؛ كما فعل بعض كتّاب القصّة والرواية والمسرحية حين أدخلوا اللُّغة المحكيّة في الحوار، وكما هي الحال في محاولة توفيق الحكيم في استخدام ما أسماه (لغة ثالثة) استخدمها في بعض مسرحياته ورواياته. ويرى الخال أنَّ مثل هذه المحاولة "تحايل على المشكلة لا حلّ حقيقيّ لها، فالحلّ الحقيقي أن نأخذ اللُّغة المحكيّة كما هي ونكتبها في أسلوب أدبي"(4).
• اللُّغة العربيّة الحديثة
ينطلق الخال في دعوته إلى تبنّي اللُّغة المحكيّة أو (اللُّغة العربيّة الحديثة) كما يحب أن يطلق عليها، من مبدأ جوهري مفاده ضرورة ارتباط الأدب بالحياة من خلال "أدب حديث بلغة حديثة نابعة من الحياة اليومية"، وقد عدّ هذه المسألة من المحاور الرئيسة للشعر الحديث، كما أعلنها في محاضرة النّدوة اللبنانية حيث ألحّ على ضرورة "إبدال التّعابير والمفردات القديمة التي استنزفت حيويَّتها بتعابير ومفردات جديدة مستمرّة في صميم التجربة"(5)، ولهذا فهو يرى أنَّ هذه اللُّغة الحديثة حاجة أدبيّة ملحّة للاستجابة للتغيُّرات الطارئة على الحياة والتعبير عنها، ولهذا أطلق نبوءته بأنّها لغة الحاضر والمستقبل، وأنّ استخدامها في الكتابة كما في الحديث أمر محتوم، وبتحقيق هذا الهدف يتم تجاوز جدار اللُّغة الذي يقف في رأيه في وجه أدب عربي حيّ مبدع حديث.
وبغية الخروج من هذه الإشكاليّة، وعلى ضوء الفشل الواضح للفصحى في التعبير عن الحياة، كما يزعم الخال، تبدو المحكيّة أو اللُّغة العربيّة الحديثة "الخيار الوحيد أمام الأدب العربي للخروج النّهائي من أزمته"، ونجد إشادة واضحة بهذه اللُّغة الحديثة، "فهي لغة حيّة متطورّة قادرة على التجدّد والإبداع، وليست لغة منحطّة عن لغة الكتابة وإنّما هي لغة متطورة عنها، لها مفرداتها، ولها عبقريتها، وكل إمكاناتها"،كما أنّها على عكس الفصحى طرحت عنها القواعد القديمة المرهِقة واتَّخذت قواعد حديثة سهلة بسيطة كافية للفهم والتفهُّم.
يُشار إلى أنَّ طرح الخال اللغوي كان محكومًا بجملة من البواعث والمؤثرات الثقافية والاجتماعية، لعلّ من أبرزها تأثُّره بالسيّاق الثقافي السياسي في لبنان خاصة مع بروز نزعة قوميّة محليّة تدعو إلى الخصوصية التاريخية والحضارية وتجد في اللُّغة المحليّة أحد مكوّنات الهوية الذاتية. ونجده، في هذا الصدد، متأثرًا بدعوة (إليوت) -والمدرسة التصويرية عمومًا- التي تقوم على فكرة مفادها أنّ على الشعر ألّا يبتعد ابتعادًا كبيرًا عن اللُّغة العاديّة التي نستعملها ونسمعها، وفي تأكيده على ضرورة الاستفادة من موسيقى الشّعر منها. كما تأثر بـالشاعر (ييتس) في دعوته إلى الإفادة من بساطة الكلام المحكي.
وأغلب الظنّ أنّ الخال كان مطّلعًا في بحثه اللغوي، وإنْ لم يشِر صراحةً، على تجارب بعض المستشرقين في آرائهم حول العربيّة، وإلى دعوتهم الصريحة الى اعتماد العامية بدلًا من الفصحى خاصة في الأدب. وما يدعونا إلى هذا الاعتقاد التَّشابه الواضح في بعض جوانب نظريَّته وما طرحه بعض المستشرقين حول عيوب اللُّغة الفصحى، وضرورة إحلال العاميّة بديلًا لها في الأدب.
بعد هذا العرض الموجز لموقف الخال من الفصحى والمحكيّة، لا بدّ من بعض الملاحظات نوجزها في النقاط التالية:
أوَّلًا: نجد بدايةً أنّه يحاول أن يمنح دعوته لإلغاء الفصحى وإحلال المحكيّة بدلًا منها طابعًا علميًّا، حيث توصَّل بالاستناد إلى مبدأ الصّيرورة إلى اعتبار "اللُّغة العربيّة الحديثة "تطوُّرًا طبيعيًّا للّغة الفصحى"، وقدّم جملة أدلّة من تاريخ اللُّغة العربيّة على إمكانيّة هذا التطوّر. إلّا إنّه يقرِّر، بشكل قاطع، عدم إمكانيّة تطوُّرها وتحديثها، بسبب حرص العقل العربي على تجميدها. وبإمكاننا أن نتساءل هنا: إذا كانت الصيرورة تقتضي التطوُّر، وما دام أنَّ الواقع التاريخي للّغة العربيّة يؤكّده وبخاصة أنّ المحكيّة ذاتها، كما قرَّر، نابعة عن هذا التطوُّر، فلماذا لا تتطوَّر العربيّة إذا توافر الوعي الكافي للعقل العربي بضرورة التطوّر والتحديث اللغوي للخروج من أزمة الأدب وتجاوز المعيقات؟ لذا، نرى بأنَّ الخال، من الناحية المنهجيّة، يتعامل مع مبدأ الصيرورة بازدواجيّة، ويوظِّفه لخدمة أيدولوجيّته النقديّة، فيجيز لنفسه أن يوظفه أويعطّله كما يريد.
ثانيًا: يحمّل الخال اللُّغة العربيّة المسؤولية المطلقة عن تخلُّف الأدب العربي. ولا شك أنّ في هذا الحكم إغفالًا واضحًا لمسؤولية المبدع ودوره في عملية تطوُّر الأدب واللُّغة ذاتها. فما دام أنّ الشعر، كما يقول: "حياة اللُّغة، فلولاه لا تتجدّد اللُّغة ولا تنمو ولا تبقى، فهو دائمًا يخلقها كتابيًّا ويخلقها المتكلمون به كلاميًّا، فلماذا تتحجَّر العربيّة ما دام أنّ الشاعر قادر على تجاوز جدار اللُّغة وتفجير طاقتها؟
ثالثًا: قد يكون فيما طرحه الخال حول أزمة التوصيل التي تعانيها العربيّة جانب من الوجاهة، فقد يحسّ الشاعر العربي في بعض الأحيان بعدم قدرته على التعبير عن تجربته وإيصالها إلى القارئ بسهولة ويسر، بسبب عامل اللُّغة. ولكن في المقابل نتساءل إذا كانت اللُّغة المحكيّة التي يقترحها بعيدة عن السّقم والنقص، وتستطيع بالتالي التعبير الكامل عن التجربة الحديثة؟ ولعلّنا نجد منه إجابة غير مباشرة عن هذا التساؤل في تعليقه على شعر (ميشال طراد) باللهجة المحكيّة، فقد توصّل إلى أنّ هذا الشعر يتمتع بالخصائص السّلبية نفسها التي يعانيها الشعر التقليدي في لبنان: فهو "تقليدي، وصفي، انعزالي، رمزي تجريدي وأخيرًا تفاؤلي"، ممّا يعني أنّ العاميّة تعاني مشكلة التوصيل ذاتها.
وليست هذه الأزمة التي تعانيها العربيّة استثنائيّة، وإنَّما هي حالة شائعة في كل آداب العالم ويواجهها شعراء الغرب أنفسهم فهم "إذ يستخدمون اللغات الحيّة لمجتمعاتهم يواجهون في إنجازاتهم الحديثة، التي يصبو إليها بعض الشعراء العرب، إلى مشكلة الإيصال ذاتها، وأنّ الجدال ظلّ حاميًا دائمًا حول الهوّة المتّسعة بينهم وبين الجمهور الغربي". والفرق بين طرح الخال ودعوة هؤلاء أنها "لم تطرح إلغاء اللُّغة الكتابية وإحلال الكلام المحكي محلّها، فهم قد نادوا بضرورة الاقتراب من الكلام المحكي وليس بإحلاله محلّ لغة الكتابة كما فعل الخال".
ولعلّ الخال في تبنّيه المحكيّة قد اختار الحلّ الأسهل لخروج الشعر العربي من أزمته، ولذلك لم يحاول أن يتوقف عند أزمة التوصيل في أصلها، خاصة وهي على غاية من الاشتباك والتّعقيد، وليست اللُّغة سوى أحد محاورها، ومع ذلك، فقد اعتقد أنّ إلغاء الفصحى في الأدب والاقتصار على اللُّغة المحكيّة سيخلِّص الأدب من الازدواجيّة اللغويّة، ولكنه لم يكن يعلم أنّه بهذا التوجُّه "عقَّد المسألة بدل المساعدة في حلّها"(6).
وعلى العموم، لم يُكتب لدعوته اللغويّة النجاح والسيرورة. ولعلّ تطرُّفه في موقفه إزاء الفصحى، ورفضه إعطاء فرصة لها في الأدب، ساهم بشكل كبير في رفضها في الأوساط النّقديّة، ومنها تجمُّع "شعر" كما اتَّضح في (جدار اللُّغة). وظلت مغامرة فرديّة معزولة، استمرَّ في تبنّيها حتى آخر لحظة.
• الهوامش:
(1) يوسف الخال، دفاتر الأيام، ص12-13.
(2) لقاء مع يوسف الخال، مواقف،ع13-14، نيسان 1971، ص68.
(3) يوسف الخال، الأديب العربيّ في العالم الحديث، ص39.
(4) يوسف الخال، مستقبل الشعر في لبنان، ص344.
(5) الخال، دفاتر الأيام، ص11.
(6) ماجد السامرائي، تجليات الحداثة، ص35.