النظريةُ الأدبيّة ومشهديّة النقد في الأردن

 

مداخلة أ. ليث الرواجفة

ناقد وباحث 

تفرض دراسة (المشهد النقدي في الأردن) انتهاج الأركيولوجيّة التاريخيّة المُلازمة للمنهج الوصفي، وحين تلتزم أية دراسة بهذا المنهج فهي تبتعد عن الجنيالوجيا والحفريات، وتبتعد عن التاريخانيّة، ودراسة الأنساق الثقافيّة، والتفكيك بهدف التقويض وإعادة البناء وغيرها؛ فالدراسة الأركيولوجيّة –كما تجلت عند فوكو- تعتمد على الوصف والتحليل في حدود الآثار الظاهرة، أو البارزة للعيان. وفي موضوعنا غالبًا ما تكون هذه الآثار عبارة عن مؤلفات أو مقالات ودراسات نقدية، لكن في المقابل ولأنّنا نتحدث عن (النقد) وهو شيء من الصعب تعريفه والإمساك بحدوده، فإنَّ الحاجة تصبح ملحة إلى البحث في تاريخ (النظرية النقديّة) إلى جانب (نظرية الأدب) وفق منهجية فينومينولوجية ترصد خبرة النقد بالوعي والأشياء والذات؛ فنقّاد الأدب يناقشون ويتبنون وجهات نظر شديدة التباين حول النقد وكيف يجب أن يكون. وبات سؤال (ما هو النقد؟) معقدًا بالنسبة للنقّاد قبل أي طرف آخر، وذلك نظرًا لتشابكه مع ما يماثله من حوار مفتوح حول (ما هو الأدب)؟، ولذلك من الصعب جدًا الحديث عن (المشهد النقدي في الأردن) بمعزل عن التحقيب التاريخيّ المصاحب لنظرية الأدب، وفهم وظيفة الناقد وحضوره في المشهد الثقافي الأردني.

أبسط تعريفات الناقد الأدبي هو دارس الأدب، فــ(ما هو الأدب؟) تكمن الإجابة على هذا السؤال في (النظرية الأدبيّة) التي تقوم بدراسة أسس الأدب، وأقسامه، وموازينه، فمن مهام (نظرية الأدب) البحث عن نشأته وطبيعته ووظيفته، وتُعنى بالاهتمام في مقومات الأدب كحقيقة عامة في أي زمان أو مكان، وفي أية لغة كتب بها. وهنا يتولد سؤال آخر: (هل نظرية الأدب هي النقد؟) الإجابة بكل تأكيد لا؛ لأنَّ النقد يهتم بالنص ليصدر أحكامًا، أمَّا النظرية فإنَّها تتعامل مع حقيقة الأدب، فلا مجال للانفعال أو إصدار الأحكام المتصلة بالجودة أو الرداءة والبحث عن الجماليات والقبحيات كما ذهب (شكري الماضي). 

يستمد الأدب شرعية وجوده بصفته لغة، وبصفته أرقى أشكال التعبير عن الهُوية اللغويّة والذاتية للجماعة الإنسانيّة، والنقد يستمدُّ شرعيّة وجوده بصفته لغة علمية، ويمتلك أدوات قادرة على رصد اللغة والهُوية والذات في النصِّ الأدبي. والناقد الأردنيّ كان على وعيٍّ بكل هذه الحقائق والأسس منذ بدايات تأسيس المدرسة النقدية الأردنية، فتناولت الدراسات النقدية في الأردن قضايا ثلاث هي: نشأة الأدب، وطبيعة الأدب، ووظيفة الأدب. وقد تجاوز الناقد الأردنيّ المعاصر لمرحلة الحداثة وما بعد الحداثة الذوقية والذاتية والبحث في المضامين انطلاقًا من جوانب خارجة عن النص، فقد تحوّل النقد إلى إجراءات موضوعيّة علميّة تسعى إلى نقد النص من داخله بهدف فهم نظامه، وتأويل دلالاته وأنساقه الظاهرة والمضمرة وأثره في المتلقي وبنائه الفني والموضوعاتي.  

نستنتج من كل ما سبق حكمًا مقتضاه؛ إذا كان الأدبُ منظومةً لُغويّةً يجب الوعي بممارستها، فإنَّ النقد هو وعي هذا الوعي وذلك عن طريق فكّ الرموز اللغويّة وتحليل الكلمات المتواترة، أو التي لها دلالة عميقة في النص سواء وظفت بوعي أو بغير وعي. فالناقد قارئ القارئ، ويجب أن يظلَّ الفرد القارئ غاية النقد الأولى والأخيرة؛ ذلك لأنَّ قيمة النقد إنَّما تكمن في إثراء القراءة الفردية، وهو ما عملت عليه الصحف الأردنية وملحقاتها الثقافية، والمجلات، ودور النشر. 

عند إمعان النظر حول النقد الأدبي في الأردن نجد مرجعيات معرفية (أبستمولوجية) لهذا النقد؛ المرجعية الأولى تتمثل في الموروث التراثي والأرشيف الحضاري، والمرجعية الثانية التأثر بالنقد الغربي الحديث. وقد تلاشت المرجعية النقدية الأولى منذ بداية خمسينات القرن العشرين، وهي فترة مهمة جدًا لرصد تاريخ النظرية النقدية والتأسيس لها في الأردن، حيث كان للصحف والمجلات أدوارٌ مهمة، وأشهرها مجلة (القلم الجديد) لعيسى الناعوري؛ وهي أول مجلة أدبية أردنية تخطت الحدود المحلية واستطاعت الوصول إلى جميع الأقطار العربيّة وأوروبا. وقد كان لبعض الجهود الفردية دورًا محوريًا في تأسيس النقد الأدبي في الأردن مثل جهود يعقوب العودات (البدوي الملثم)، وعيسى الناعوري، وناصر الدين الأسد، ومحمود السمرة، وإحسان عباس، وغيرهم. وفي الستينيات صدرت مجلة (الأفق الجديد) التي أسهمت في مواكبة الإنتاج الأدبيّ في الأردن، وكان لبعض النقاد الأردنيين أدوار مهمة مثل أمين شنار وحسين عطوان وعبدالرحمن ياغي. وقد تأسست دائرة الثقافة والفنون وأصدرت مجلة (أفكار) في أوائل النصف الثاني من الستينات.

وفي عقدي الثمانينات والتسعينات شهد العالم ثورة معرفية متمثلة بالتكنولوجيا، وقد تأثر النقد في الأردن بهذه الثورة وزادت عملية التثاقف والتبادل المعرفي، وتطورت النظرية النقدية وأخذت تسير على نهج الدراسات الغربية التي ظهرت فيها القراءات التفكيكيّة والقراءات النصية ونظريات النص والتلقي والتأويل ونظريات الخطاب والدراسات الثقافية والسيميائيّة. وقد ظهر خلال العقدين نقادٌ مثل إبراهيم السعافين وأحمد الزعبي، وعبدالقادر الرباعي، وعلي الشرع، وإبراهيم خليل، ويوسف بكار، وأحمد المصلح، وعبدالله رضوان، وسليمان الأزرعي وغيرهم. 

درجت العادة على تقسيم النقد في الأردن حسب المنهج (مناهج سياقية/ نسقية)، ومن الأجدى إضافة تحقيب النظرية النقدية في الأردن تاريخيًّا، وذلك يصل بنا إلى ثلاث مراحل أساسية: المرحلة الأولى فترة ما قبل خمسينات القرن العشرين وهي مرحلة التأسيس، والمرحلة الثانية ما بعد خمسينات القرن العشرين وهي مرحلة ترسيخ الهوية النقدية المتأرجحة بين الأصالة والتحديث، والمرحلة الثالثة تتمثل في العقدين الأولين من الألفية الثالثة وهي مرحلة الانفتاح الكامل على النقد الغربي وتياراته ومدارسه ومناهجه ومذاهبه، وازدهار النقد الأكاديمي برعاية الجامعات وأقسام اللغة العربية وآدابها. 

تميز النقد الأدبي في الأردن خلال النصف الثاني من القرن العشرين حتى اليوم عما كان عليه من قبل؛ فهذا النقد عالج القضايا النقديّة التي يتم مناقشتها عربيًّا وعالميًّا، وسار في تلك الاتجاهات، فمثلًا تجاوز قضايا الشكل والمضمون وعمود الشعر والسرقات الأدبيّة، وأخذ يسبر الأصالة والمعاصرة والمنهج والمصطلح والبحث في الخيال والأسطوريات. ويجد دارس النقد الأدبي في الأردن بروز الاتجاهات النقديّة واضحًا جليًا في هذا النقد، بالرغم من تداخل المناهج عند الناقد الواحد. وعلى سبيل المثال وليس الحصر نجد كمال أبو ديب قد وضع الأسس النظرية والإجرائيّة للمنهج البنيوي في كتاب (جدلية الخفاء والتجلي). ونصرت عبد الرحمن قام بدراسة المذاهب النقدية الحديثة وأصولها الفكريّة ومرجعياتها الفلسفية في كتاب (في النقد الحديث)، وبسام قطوس عالج التفكيك وتعدد قراءات النص الواحد في كتاب (استراتيجيات القراءة- التأصيل الإجرائي)، وبرزت الأسلوبيّة الإحصائيّة عند مصلح النجار، والمنهج الأسلوبي عند ناصر شبانة، والنقد الثقافي بشقه الجمالي عند يوسف عليمات، ونظرية ما بعد الكولونيالية والسرديات الحديثة عند زهير عبيدات.    

وقد كان للترجمة دورٌ رئيس في إثراء النقد في الأردن والعالم العربي؛ فقد ترجم محمد عصفور كتاب (مفاهيم نقدية) ل"رينيه ويليك"، وكتاب (تشريح النقد) ل"نورث روب فراي"، وترجم فخري صالح كتاب (النقد والأيديولوجية) ل"تيري إيجلتون"، و(المبدأ الحواري) ل"تودوروف". وترجم كمال أبو ديب كتاب (الثقافة والإمبريالية) لإدوارد سعيد، ومن قبلهم جميعًا قد ترجم غالب هلسا كتاب (جماليات المكان) ل"جاستون باشلار".

الإشكالياتُ التي وقع فيها النقد الأدبي في الأردن هي الإشكاليات ذاتها التي واجهها النقد الأدبي العربي عمومًا، وهي قضايا متعلقة في تلقي النقد الغربي بمعزل عن جذوره الفلسفيّة التي أفرزته، والاعتماد على الترجمة وأحيانًا ترجمة الترجمة، إلى جانب تطوير النظرية النقدية وتحديدًا النقد الأكاديمي بمعزل عن الحياة الأدبية المعاصرة والمجاورة له، وإشكالية المصطلح النقدي وضعفه. هذه الإشكاليات وغيرها قد انعكست سلبًا على الأدب وهو موضوع النقد الرئيس، وهنا تتولد مجموعة أسئلة أبرزها: أين هو النقد الذي من شأنه أن ينقل سخط الجمهور القارئ إلى الذين ينتجون الأدب؟ أين هو النقد الذي من شأنه أن يصل بثقة ذلك الجمهور القارئ بالأعمال التي سيجدونها جديرة بالقراءة؟ وأين هو النقد الذي من شأنه أن يضفي المعنى على هذه الأعمال ذاتها، وعلى ردود الأفعال التي تثيرها، وعلى التغيرات التي تحدث على نحو واضح في نوعها الأدبي؟، وبعبارة أخرى؛ أين هو النقد العربي أو المحلي الذي يقوم بوظيفته الأساسيّة تجاه الأدب في المنطقة الجغرافية والبيئة الثقافية التي يوجد فيها (الوظيفة الاجتماعية للنقد)؟ الإجابة على هذه الأسئلة يضمن إعادة العلاقة المقطوعة بين الناقد والأديب والقارئ، وهي أركان أساسية في وجود الأدب. وهذه الفجوة باتت سحيقة ودليل ذلك أنَّ الحاجة ملحة لدراسات (نقد النقد) ليفهم النقاد النقد قبل أن يفهمه القارئ العادي، فتحولت اللغة النقدية إلى (ميتالغة) مغرقة في الجداول والمخططات والمنحنيات البيانية والمصطلحات والغرابة والإبهام والغموض أكثر من النص الأدبي المدروس، وأصبحت قراءة النص الأدبي أيسر من قراءة النقد.    

  ومن التحديات التي تواجه النقد في الأردن والعالم العربي؛ ما يُروّج حول النقد هو أنَّه مجال مفتوح لكل من هبّ ودبّ عدا الأدباء أنفسهم، ويبدو هذا المفهوم عن النقد أنَّه خاطئ؛ لأنَّ الناقد أديب مبدع يفضل هذا النشاط الفكري، والأديب يوجد داخله ناقد أو قارئ ضمني قبل أن يرسل نصه إلى المتلقي، وهذه الإشكالية لها تداعياتها؛ لأنَّ بعض الدراسات التي توهم بأنَّها نقديّة قد أسهمت في تشويه النصوص الأدبية، وروّجت لنصوص لا تحمل سمة الشعرية الأدبيّة، وزادت في تراجع الأدب ودور المثقف، وتراجع مستوى الأديب، وانحطاط الذوق العام.