المقامة الكورونيّة


 د.غسان إسماعيل عبد الخالق
 سارد وناقد وأكاديمي أردني.

حدّثني صاحبي فقال: أعيشُ - كما تعلم- وحيدًا، في شقّتي الصغيرة التي ظفرتُ بها، بعد سنوات من الكدّ في صُحُف العرب. ومع أن وحدتي تثقل كاهلي أحيانا _ وخاصّةً في أيام البرد _ إلا أنَّ الأصدقاء المتزوّجين طالما غبطوني على هذه الوحدة التي لا تُقدر بثمن كما يقولون، وخاصّةً بعد أن تقاعدتُ وتفرّغتُ للقراءة والكتابة والتأمّل والمشي؛ فأنامُ وقتما أشاءُ، وأستيقظُ وقتما أشاءُ، وأقرأ وقتما أشاءُ، وأكتبُ وقتما أشاءُ، ولا أحرم نفسي من مأكل أو مشرب أو ملبس مهما غلا الثمن. وباختصار شديد؛ فأنا بحّارٌ محظوظ، تحطّمت سفينته، على شاطئ جزيرة استوائيّة، تفيض بكل ما لذّ وطاب إلا مزاحمة البشر!
وأردف قائلًا: فلما جدّ من أمر الكورونا ما جدّ، ولاذ الناس بدورهم وفاؤوا لعائلاتهم، وجدتني أغبطُ أصدقائي على ما حباهم اللهُ من نعيم الزّوجات والأبناء طوال شهور من صمت الشوارع وسكون الليالي وضجيج عقارب الساعة في شقّتي. وكم اتهمتهم بالجحود كلّما هاتفوني وشكوا لي ما يكابدونه من ضيق وعَنَت، بسبب اضطرارهم- صباحَ مساءَ- لاحتمال صخب الزوجات في المطابخ وتصايح الأولاد في الغرف. وكم وددتُ لو أنَّهم يعرفون ما أقاسيه من أرَقٍ وقلَقٍ جرّاءَ استغراقي في مشاهدة العديد من الأفلام التي تنبّأت بنهاية العالم، وصوّرت على نحو قاسٍ، صراعات مَن تبقّى مِن البشر، على الهواء والماء وجذور النبات، حتى صرتُ أستعيدُ كثيرًا من أحداث هذه الأفلام في أحلامي، فأفِزّ من نومي لاهثًا مرعوبًا معروقًا.
وأضاف قائلًا: ثم حدث ما لم يكن في الحسبان ولم يخطر يومًا ببالي على مرّ الزمان؛ فقد سُمح للناس بالخروج للتسوّق وقضاء الحاجات، ووجدتني - رغم اكتفائي- أندفعُ مثل إعصارٍ إلى الشارع، وأسابقُ الجميع إلى الدكاكين والمعارض؛ وأشتري من الخبز واللحم والجبن ما لا طاقة لي بحمله، وبقدرة قادر أوصلته إلى شقّتي وحشرته حشرًا في ثلاّجتي. ثم رحت أتفقّد رفوف المطبخ وأدوّن كل ما حسبته ناقصًا أو شارفَ على النقصان، واندفعت في اليوم التالي إلى الدكاكين والمعارض، وصُلت وجُلت، ثم حملتُ غنائمي إلى شقّتي، ورحت أرصّها في رفوف المطبخ حتى لم يبق فيها متّسع.
وتنهّد قائلًا: لكنَّ الحكومةَ سرعان ما أعلنت حظر التجوّل مجدّدًا، فأغلقت الدكاكين أبوابها، وخَلَت الشوارع، وادلهمّت الليالي، وعربدت عقارب الساعات. وما راعني من نفسي إلا أنني رُحت أُحصي ما لديّ من طعامٍ وشراب، وأحسبُ ما تبقّى لي من وجبات، وأعدّ ما أملكه من عُلب السجائر، حتى قرّ قراري على أن أجعلَ كلَّ وجبةٍ وجبتين، وأن لا أُسرف في شرب الماء الصحي، وأن أقتصدَ في تلقيم غلاّية القهوة. بل إنّني رحتُ أُحصي ما لديّ من أقلام وأوراق، فعزمت على استخدام القلم الأقلّ حبرًا حتى ينضب، كما رُحت أكتبُ على وَجْهي الصفحة، وأُكثر من السطور المتلاحقة، حتى كادت بعض الصفحات تتحوّل إلى برقيات طويلة مشفّرة. وهكذا فقد تقمّصتُ - شيئًا فشيئًا- شخصيةَ الناجي الوحيد وآخر رجل على وجه البسيطة؛ فاستغرقت في إحصاء كل ما لديّ من ملابس، وتفقّدتُ الأبواب والنوافذ، وتأكّدتُ من صعوبة اقتحامها؛ كأنَّني أحرسُ آخرَ معقلٍ لحضارة البشر. ولم يفتني- طبعًا- التقليل من استخدام الكهرباء والتدفئة، وواظبتُ على مهاتفة حارس العمارة لأتأكّدَ من حجم مخزوني من الماء والسولار. وكم وددتُ لو أنّني أحتفظُ ببعض العصي لأمتشقها تباعًا، وأتجوّل بها في أرجاء شقّتي، لأدُبّ الذعر في قلب كل من تسوّل له نفسه الاقتراب من قلعتي!
فقلتُ له: والأصدقاء؟ ألم يهاتفوك ليطمئنوا على أحوالك؟
فقال: بلى... بلى، لكنّني أذكى من أن أُستدرج للإجابة عن أسئلتهم الماكرة بخصوص صحّتي وما يمكن أن أحتاج له من مأكل ومشرب؛ فأنا أُدركُ أنَّهم يحاولون معرفةَ ما لديّ من احتياطات، وربما حدّث أحدهم نفسه بأن يتسلّل إلى حصني الحصين بطريقةٍ ما، كي يستوليَ على كنزي المكنوز! وكم أندم كلّما تذكّرت أنّني تهوّرت ودفعتُ لبعضهم نُسخًا من مفتاح شقّتي في ذلك الزمان الذي سبق هذا الزمان. وكم وددتُ لو أنّني أظفر بصانع أقفالٍ ليصنعَ لي رتاجًا ومفتاحًا جديدين لباب الشقّة.
فقلتُ له: ولكن حظر التجوال زال الآن، وقد عاد الناسُ لأعمالهم كما ضاقت الشوارع بالمركبات!
فقال: هيهات هيهات؛ كأنّك لم تقرأ أو تسمع ما يُكتب في الصحف ويُقال في المحطّات؛ فالعالَمُ - يا صاحبي- لن يعودَ إلى ما كان مهما بدا لك من علامات الاطمئنان!
فقلتُ: وما الحلُّ إذن؟
قال: انج سعد فقد هلك سعيد!
فقلت: ولكنّك كنت من دعاة التفاؤل والإقبال على الحياة مهما كانت الصعوبات والتحديات!
فقال: كلام الماضي تمحوه بلاغةُ الحاضر؛ فهذا ليس زمن خزعبلات (الشيخ والبحر) بل هو زمن (دارون) و(نيتشه) والعولمة المتوحشة!
فقلت: كل هذا وأنت تعيشُ وحدك في شقّة ظريفة مترعة بما لذّ وطاب... فماذا كنت ستفعل وتقول لو أنك تُعيل أسرةً كبيرةً مثلي؟
فقال: آهااااا... ها أنت تشرع - مثل غيرك من الأصدقاء- في نصب شراكك حولي، ولا تدّخر وسعًا لاستعطافي، ظنًّا منك بأنّني قد أضعفُ وألينُ؛ فأقاسمك في مأكلي ومشربي وملبسي، ولكن هذه الألاعيب لم تعد تنطلي عليّ، وليتك تتفضّل وتدفع ثمن القهوة التي احتسيناها في هذا المقهى، بناءً على إلحاحك في دعوتي للقائك كي تطمئن عليّ؛ وإنَّ غدًا لناظره قريب!