التَّشكيل الأردنيّ انطلاقات الحلم وتحقيق الطُّموحات

محمد العامري
شاعر وفنّان تشكيلي أردني
alameriart@yahoo.com
شهدَت مرحلة التسعينات نشاطًا مغايرًا وكبيرًا في مجالات الفنون عبْر إسهامات المؤسَّسات الأهليّة والحكوميّة، وفي العقدين الأخيرين استطاعت حركة الفنّ التشكيلي الأردني أنْ تتجاوز معيقات كثيرة، ليصبحَ هذا الفنّ محورًا أساسيًّا في توجُّهات الدولة الأردنيّة، الأمر الذي انعكس في إعطاء صورة حضاريّة عن الأردن عبْر الفعل الجمالي.
يَنْتَظِمُ الحراك التشكيليّ في الأردن في مسارات مركَّبة تتمحور حول الحيوات الذاتيّة والوافدة التي أسهمت في تغذية طموحات الدولة الأردنيّة لتشييد حالة ثقافيّة متصاعدة، تتواكب مع متطلّبات الدولة المدنيّة، وقد ساعد في ذلك رغبة الدولة في تسريع العجلة الثقافيّة وتغذيتها بكوادر مهاجرة في الغرب، وصولًا إلى الهجرات المتعاقبة على المملكة الأردنيّة الهاشميّة والتي بدأت في العام 1948، وسبقتها هجرات فرديّة؛ منها قدوم الفنان اللبناني عمر الأنسي والفنّان التركي ضياءالدين سليمان من فلسطين إلى الأردن حيث كان يعمل في الجيش العثماني آنذاك.
"تعود جذور التَّشكيل الأردني المعاصر إلى عقد العشرينات والثلاثينات من القرن الفارط، حيث قدُم أفراد من الخارج ليعيشوا في عمّان ويمارسوا الفن هناك بصورة فرديّة، وكان أوَّلهم عمر الأنسي (1901-1969م) وهو أحد الروّاد في بلده، وفي عام 1930 جاء الفنان ضياءالدين سليمان (1880-1954م) إلى عمّان، وهو فنّان تركي الأصل، وقد أقام أوّل معرض له في فندق فيلادلفيا عام 1938م، فكان أوَّل معرض فردي يُقام في الأردن"(*).
وتتابعت بعض الهجرات الفرديّة إبان نكبة فلسطين عام 1948م منهم جورج ألييف (1887-1970م) الذي وُلد في روسيا القيصريّة وعاش مع عائلة تحب الفن والثقافة، واعتمد في معاشه على دخل الدروس الخصوصيّة في الرسم واللغة الروسيّة، وكان لمرسمه في شارع السلط التأثير الأوّل على مجموعة من الهواة الذين يرتادونه؛ منهم نائلة ديب وهشام عزالدين والشريف عبدالحميد شرف، ويُعتقد بأنَّهُ الوحيد الذي قام بتدريس الرَّسم لبعض الهواة الأردنيين. كما "درّس عددًا من الفنانين الأردنيين، من بينهِم رفيق اللحام ومهنا الدرة. وفي هذه الفترة ظهر الفنان السوري إحسان إدلبي. وقد ساهم بعض الفنانين الهواة (أمثال سامي نعمة، حلمي حميد...) والذين كانوا يعرضون أعمالهم في المحلات العامة وصالونات الحلاقة، في تعريف المجتمع الأردنيّ باللوحة التشكيليّة، وكانت لهم أيضًا إسهاماتهم في الخط والتصميم، كما ساهم الفنان يعقوب سكر في تصميم العملة الأردنيّة وبعض الطوابع البريديّة، وبعد ذلك ساهم في هذا المجال أيضًا الفنان السوري رفيق اللحام"(**).
وقد شكَّل مؤتمر أريحا 1950 الفاصلة الأهمّ في ارتباط مصير الشعبين الفلسطيني والأردني في مصير واحد، وانعكس ذلك على مجمل المشهد الثقافي الأردني بما فيه الفنون التشكيليّة؛ وذلك بسبب انضمام الضفة الغربيّة إلى المملكة الأردنيّة الهاشميّة، فاستقرَّت مجموعة من الفنانين الفلسطينيين في الأردن وأسهمت بخبراتها في تحريك عجلة الفن التشكيلي الأردني، من بينهم: عفاف عرفات وجمال بدران وفاطمة المحب وسامية الزرو، وأسهموا في إدخال مادة التربية الفنيّة في المناهج التعليميّة الأردنيّة.
توالت بذور الأنشطة التشكيليّة كبدايات خجولة للهواة في العام 1951 عبْر المنتدى العربي الذي أسَّسه المرحوم إبراهيم القطّان، فأقام معرضًا بمشاركة كلّ من إحسان إدلبي، رفيق اللحام، مهنا الدرة، هشام حجاوي، فاليرا شعبان، ونهاية هاشم، وتلت ذلك ندوة الفن الأردنيّة في العام 1952، ويُعتبر هذا المنتدى أوَّل تجمُّع للفنّانين الهواة في الأردن من بينهم: جميل مدانات، عبدالله السعودي، عيسى أبوالراغب روبيكا بهو، نعيمة عصفور وليلى مغنم.
"وفي العام 1953 عرض رفيق اللحام وفاطمة المحب وجورج ألييف في الكلية العلميّة الإسلاميّة، كما أقيم في رام الله معرضًا مشتركًا للفنان إسماعيل شموط وسامية الزرو، وفي العام نفسه عرض أعضاء ندوة الفن الأردنيّة في معهد (النهضة العلمي)، حيث بلغ عدد المشاركين في هذا المعرض خمسين فنانًا"(**). بعد ذلك، أسَّس د.حنا كيالي معهد الموسيقى والرسم في عمّان بإشراف الإيطالي "أرماندو برون" ليلتحق به كل من مهنا الدرة ورفيق اللحام ووجدان علي وسهى نورسي ونائلة ديب ودعد التل، وكان المعهد أوَّل بوادر مأسسة تدريس الفنون في عمّان، وقد أُغلق بعد سفر الإيطالي "أرماندو" في العام 1961.
أصبح الفن من ضرورات الدولة الأردنيّة؛ حيث تمّ إرسال مجموعة من الفنانين الأردنيين لدراسة الفن في الخارج، وكان ذلك في أواخر الخمسينات من القرن الماضي منهم رفيق اللحام ومهنا الدرة وأحمد نعواش وكمال بلاطة. وفي العام 1966 تأسَّست دائرة الثقافة والفنون، وتلا ذلك هزيمة حزيران 1967، ما أدّى إلى رفد الساحة التشكيليّة الأردنيّة بأسماء جديدة جرّاء الهجرة القسريّة، وأسهم ذلك في تغيُّر المفردة التشكيليّة التي أصبحت منغمسة بالقضيّة الفلسطينيّة وطرائق المقاومة عبْر الفن والتي تعبِّر عن طبيعة المشاعر تجاه فلسطين، وبرزت أسماء جديدة منها علي سبيل المثال منى السعودي ونصر عبدالعزيز. وفي العام 1972، أسَّسَت دائرةُ الثقافة والفنون "معهد الفنون والموسيقى" بمبادرة من مهنا الدرة الذي رأس إدارته، وكذلك الفنان علي الغول، وشاركهم في فكرة التأسيس الفنان محمود صادق، وكان للمعهد الأثر الأكبر في تدريب كثير من الفنانين الأردنيين، وكذلك إسهامات الأميرة فخر النساء زيد في تعليم مجموعة من الفنانات هُنّ: الأميرة عالية بنت الحسين، هند الشريف ناصر، سهى شومان، جانسيت شامي، رباب منكو، أوفيميا رزق، جانيت جنبلاط، ماجدة رعد.
وفي العام 1977 تأسَّست رابطة الفنانين التشكيليّين الأردنيّين، التي شهدت مجموعة من المعارض التشكيليّة، ولم تزل تقدِّم الكثير من الأنشطة التي تضمّ مجموعة فنانين من الأجيال المختلفة. وفي العام 1979، تأسَّست الجمعيّة الملكيّة للفنون الجميلة برئاسة سمو الأميرة وجدان علي. ورافق ذلك ظهور أسماء جديدة منهم: كايد عمرو، عبدالرؤوف شمعون، عزيز عمورة، زكي شقفة، كرام النمري، نبيل شحادة... وغيرهم.
وكان للعام 1980 التحوُّل الأهمّ، حيث تمَّ استحداث كليّة للفنون الجميلة في جامعة اليرموك، إلى جانب افتتاح المتحف الوطني الأردني للفنون الجميلة الذي قدَّم مجموعة من المعارض الأردنيّة والأوروبيّة؛ مقدِّمًا بذلك وعيًا مختلفًا في طبيعة عروضه.
كما أنْشَأَت مؤسسةُ عبدالحميد شومان مؤسسةً ترعى الثقافة والفنون، وكان ذلك عام 1988، وبعد ذلك انتقلت الفنون التشكيليّة إلى مؤسسة دارة الفنون- مؤسسة خالد شومان عام 1992، والتي كان لها الدَّور الاحترافي الأبرز في تقديم العروض العالية، إضافة إلى مكتبة متخصِّصة في الفنون التشكيليّة.
·التحوُّلات العموديّة للتَّشكيل الأردنيّ
في عهد جلالة الملك عبدالله الثاني
شهدَت مرحلة التسعينات نشاطًا مغايرًا وكبيرًا في مجالات الفنون عبْر إسهامات المؤسَّسات الأهليّة؛ التي أخذت على عاتقها تسويق الفنون من خلال صالات عرض احترافيّة منها "غاليري دار المشرق" و"الأورفلي" و"فينان غاليري" و"نبض" و"بندك غاليري" و"غاليري عالية" الذي أغلق مبكرًا، و"غاليري رؤى" و"غاليري جودار" و"غاليري جدران" في منطقة العبدلي، وغاليري "أربع جدران" في فندق الشيراتون والذي أغلق لأسباب خاصة، و"غاليري زارة" و"غاليري طلّة اللويبدة" و"غاليري فخر النساء زيد" في المركز الثقافي الملكي، و"غاليري مهنا الدرة" في مديريّة الفنون والمسرح "وزارة الثقافة"، و"غاليري رأس العين" التابع لأمانة عمّان الكبرى؛ الأمر الذي أدّى إلى تحوُّل مهمّ في مسيرة الحركة التشكيليّة الأردنيّة، حيث استطاعت تلك المؤسسات بقدراتها الذاتيّة أنْ تسهم في تسويق العمل الفنّي الأردني والعربي على حد سواء، واستطاعت أن تكرِّس قيمة اقتناء الأعمال الفنيّة كجزء من الاستثمار في السلعة الثقافيّة.
وقد دأبت المؤسسات الاقتصاديّة الوطنيّة الرسميّة والأهليّة على اقتناء الأعمال الفنيّة، لتشكِّل كل مؤسسة مجموعتها الخاصّة من الأعمال الفنيّة الأردنيّة والعربيّة، وهي بمثابة متاحف خاصة لكل مؤسسة، منها على سبيل المثال الديوان الملكي العامر الذي يمتلك مجموعة مهمّة من الفن الأردني والعربي، ومؤسسة خالد شومان "دارة الفنون" التي تمتلك مجموعة مهمّة لتاريخ الفن العربي والأردني، إضافة إلى مجموعة البنك العربي الذي كانت له الرِّيادة في ذلك، وكذلك مجموعة وزارة الثقافة الأردنيّة التي استطاعت -على الرّغم من شحّ ميزانيّتها- أنْ تؤسِّس لمجموعة فنيّة تعكس من خلالها تحوُّلات اللوحة التشكيليّة الأردنيّة وتاريخها، وكذلك مجموعة بنك الإسكان، وبنك القاهرة عمّان، وبنك البتراء الذي تمَّت تصفية أعماله لظروف ماليّة، ومجموعة أخرى في البنك المركزي الأردني التابع لوزارة الماليّة، وأعتقد أنَّ ذلك جاء عبْر سعي صالات العرض الأهليّة للتَّعريف بضرورات الفنّ وقيمته في الاستثمار؛ كمجموعة بنك عودة التي أصبحت من المجموعات الفنيّة اللافتة.
·الملتقيات الفنيّة وتطوُّراتها الفاعلة في التَّشكيل الأردنيّ
من أهمّ منجزات العقدين الأخيرين توجُّه كثير من المؤسسات الماليّة والجمعيّات لتنظيم ملتقيات خاصّة بالتَّشكيل الأردني والعربي، وكان أوَّلها "سمبوزيوم" أقامته مديريّة المسرح والفنون في مقرّها في جبل اللويبدة في نهاية تسعينات القرن الفائت بإشراف مدير المديريّة الفنّان محمد العامري، وملتقى آخر أقامه الفنّان الرّاحل نادر عمران كجزء من مهرجان المسرح الذي كان يشرف على تنظيمه، وملتقى آخر أقامته رابطة الفنانين التشكيليين بعنوان "اللوحة والقصيدة" وأشرف على تنظيمه رئيس الرابطة آنذك الفنّان غازي انعيم. وبعد ذلك قام المتحف الوطني الأردني بتنظيم ملتقيات تختصّ بالنَّحت "ملتقى النَّحت العالمي"، وكانت تلك الملتقيات بدرواتها الست الأولى من نوعها في الأردن، لاسيّما وأنّها اختصَّت بالنَّحت الذي يعاني إلى يومنا هذا من نقص الاهتمام والعناية به، ووُزِّعت الأعمال النحتيّة كمادة جماليّة على مناطق متعدِّدة في عمّان. كما بادر بنك القاهرة عمّان بإقامة "سمبوزيوم" بنك القاهرة عمّان الدولي للفنون بدورته الأولى في العام 2015، ولم يزل مستمرًّا إلى يومنا هذا، ليشكِّل مثالًا طيِّبًا في تبنّي المؤسسات الماليّة ملتقيات تختصّ بالفنون التشكيليّة.
وتتابعت الملتقيات الفنيّة كالملتقى الذي يقيمه "غاليري البلقاء" إلى جانب منشوراته الفنيّة التي تختصّ بالفن التشكيلي والمكان، و"سمبوزيوم الروّاد" الذي تنظمه جمعية الروّاد للثقافة والفنون، وكذلك ظهور "سمبوزيوم أيلة للفنون التشكيليّة" التي تنظمه جمعية أيلة للثقافة والفنون في العقبة، إلى جانب مختبرات الفنون التشكيليّة التي تقيمها "جمعيّة عرزال للثقافة والفنون" في الأغوار الشماليّة من خلال ورش تدريبيّة متخصصة بإشراف فنانين أردنيين وعرب.
وكان للجامعة الأردنيّة "كلية الفنون والتصميم" الرِّيادة الأولى في إقامة ملتقيات فنيّة على مستوى عالمي من خلال قسم الفنون، حيث أقامت ملتقيين؛ جاء الأوّل بعنوان "الفن في مواجهة التطرُّف" والثاني بعنوان "القضيّة الفلسطينيّة إلى أين؟"، وهي الجامعة الأولى التي استطاعت أنْ تقدِّم خطابًا مغايرًا بما يخصّ الفنون، وأتاحت الفرصة لطلبة الفنون للاحتكاك بالفنانين المشاركين للاطِّلاع مباشرة على طبيعة أعمالهم، إضافة إلى الندوات الموازية لتلك الملتقيات التي أغنت الجانب النَّظري في ما يخصّ التَّجارب الفنيّة، حيث أصبحت المملكة الأردنيّة الهاشميّة محجًّا للفنانين العرب والأردنيين من خلال انتشار الملتقيات الفنيّة في معظم مناطق الأردن، وقد ساهمت تلك الملتقيات بإعطاء الفرصة لكثير من الفنانين الأردنيين للاحتكاك بالفنانين المشاركين الغربيّين والعرب، الأمر الذي انعكس على تجاربهم إيجابًا. كذلك حقَّقت الملتقيات مساحة مهمّة للحوار حول أسئلة الفن المعاصر ومصائره الجديدة في العالم، ولمسنا ذلك من خلال التنوُّع البائن في الاتِّجاهات الفنيّة، مثَّلت التمرُّد على العمل التقليدي في التعبير الفني، كـ"الفيديو آرت" والـ"إنستليشن" واستخدامات "الديجيتال" في الأعمال الفنيّة.
اختلفت التوجُّهات بشكل واضح في ما يخص الفنون، وأصبحت الثقافة الذوقيّة في تطوُّر مستمر، من خلال الانتشار الأفقي للأنشطة الفنيّة والاقتناء، حيث أسهمت وزارة الثقافة بذلك عبْر التعريف بالفن الأردني من خلال دعم شراء الأعمال الفنيّة ومشاركاتها الواسعة في المعارض العربيّة ونشر الكتب الفنيّة ووضع الأعمال الفنيّة على أغلفة مجلّاتها تحديًدا مجلة "أفكار"، ومن أهم المشاريع التوثيقيّة للوزارة "معجم الفنّانين التشكيليين الأردنيين".
·الجداريّات والمسابقات الفنيّة
انتَشَرَت الجداريّات الفنيّة في زمن اختيار عمّان عاصمة الثقافة العربيّة في العام 2002، وكان لذلك أثرٌ طيِّبٌ على الجمهور والفنّان في آن، هذا المشروع الذي طُرح عبْر مؤسسة أمانة عمّان الكبرى، فتزيَّنت كثير من جدران عمّان بتلك الإبداعات، وكذلك قام الديوان الملكي العامر بدعم إقامة جداريّة أمام مبنى رئاسة الوزارء للفنان إبراهيم الخطيب، إلى جانب دعمه للمبادرات الفنيّة المختصّة بالأطفال والمعوّقين.
وأخيرًا، نستطيع القول إنَّ حركة الفنّ التشكيلي الأردني استطاعت أنْ تتجاوز كثير من المعيقات؛ من خلال توجُّه الحكومة الأردنيّة في تطوير هذا القطاع المهمّ في الثقافة الأردنيّة، ليصبح محورًا أساسيًّا في توجُّهات الدولة الأردنيّة، الذي انعكس في إعطاء صورة حضاريّة عن الأردن عبْر الفعل الجمالي.
·الهوامش والمراجع:
(*)الفن المعاصر في الأردن، وجدان علي، منشورات الجمعيّة الملكيّة للفنون التشكيليّة، 1996.
(**)فنون تشكيلية، الوسوم، العدد السادس والسابع والعشرون، غـازي انعـيـم.