تمظهرات الذات بين الحكاية والشهادة في "فتنة البوح" لـِ"مريم جبر"‏

فاطمة بن محمود

رئيسة جمعية الكاتبات المغاربيات/ تونس‏‎ 

poete2fatma@gmail.com

 

توقعُنا الكاتبة مريم جبر في مشكلة تجنيس هذه النصوص/ القصص التي تنفتح على أكثر من ‏نمط أدبي، ولتجاوز مشكلة تجنيس محتوى هذا الكتاب، أرى أنَّها في هذا الكتاب تشتغل على ‏ثيمة البوح كتقنية تنفتح فيها على أنماط أدبيّة مختلفة؛ النص القصصي والشهادة، بمعنى أنَّها ‏تعتمد البوح للتعبير عن مواضيع مختلفة.‏

 

‏"فتنة البوح"* كتاب للدكتورة الأردنيّة مريم جبر فريحات، يحتوي على 26 نصًّا يجمع بينها ‏بوح شفيف، تقدِّمها الكاتبة من خلال نصوص قصصيّة تتراوح أقصرها بين الصفحتين ‏وأطولها بين العشر صفحات.‏

•إشكاليّة التَّجنيس

‏ تعترضنا مشكلة تجنيس هذا الكتاب، فالمؤلفة تقدِّم محتوياته على أساس أنَّها نصوص ‏قصصيّة ولم تقُل إنَّها قصص. فما الفرق بين النص القصصيّ والقصة؟

النص القصصيّ هو النص الأدبيّ الذي يهتمّ أساسًا بالتَّعبير عن مشاعر كاتِبِه وأحاسيسه ‏ورؤاه، ويمكن للنص الأدبيّ أن يأخذ شكل قصة أو رواية أو مسرحية أو شعر، كما يمكن أن ‏ينفتح على غيره من الأنماط التعبيريّة مثل الخاطرة والمقال.. في حين أنَّ القصة نص أدبي ‏قصير يدور حول حدث واحد يجتمع حوله عدد قليل من الشخصيّات وعادة تحمل فكرة تريد ‏إيصالها للقارئ.‏

هذا الكتاب لا يضمّ نصوصًا أدبيّة مفتوحة على كل التَّعبيرات الإبداعيّة، وأيضًا ليست قصصًا ‏بالمعنى التقليديّ، حيث كل قصة تدور حول موضوع محدَّد وملزَم بشخصيّات بعيْنها. إنَّما ‏‏"نصوص" و"قصصيّة" فهي نصوص من جهة أنَّها تنفتح على التعبير الأدبي الذي يعكس ‏مشاعر وأحاسيس مختلفة لكاتِبِه، ومن جهة أخرى تعتبرها المؤلفة قصصًا لأنها تشترك في ‏ثيمة البوح، ويضمّ شخصيّات قليلة هي الساردة التي نجدها نفسها في كل القصص، وتوجِّه ‏خطابها إلى شخص قد يكون الحبيب أو امرأة أخرى.‏

•البوح، المفهوم والدلالة

الخيط الناظم لكل هذه النصوص القصصيّة هو البوح، والبوح لغةً مِن (بَاح يبوح بَوْحًا)، ‏نقول: باح فلان بالسرّ أي أظهره. البوح إذن هو الكشف وإظهار ما هو مخفي (من معجم اللغة ‏العربية المعاصر).‏

إذن، البوح الذاتي بوح المرء بأفكاره ومشاعره دون قصد أو وعي، ويعتمد الطبيب النفساني ‏على معالجة مريضه باعتماد طريقة البوح؛ أي بالكشف عن مكنوناته ومشاعره. أدبيًّا لا نجد ‏الحديث عن البوح إلّا من خلال السيرة الذاتيّة وكتابة اليوميّات التي يتنزّل في إطارها أدب ‏الاعتراف الذي يعمده الكاتب للكشف عمّا خفي من حياته من مشاعر وتجارب مختلفة، والتي ‏باطِّلاعنا عليها يمكن أن نكشف عن طبيعة الحراك الاجتماعي الذي عاشه الكاتب.‏

مريم جبر في كتابها القصصي تقدِّم ما تعتبره حكايات وتقول إنَّها شهادة، نعلم أنَّ الحكاية هي ‏قصة تقليديّة تحتوي عادة على عبرة أخلاقيّة في حين أنَّ الشهادة الأدبيّة تبدو ملتبسة بطبعها ‏لأنها تمثل نقلًا لأحداث واقعيّة تتضمّن موقف ما، وهذا يعني أنَّ الشهادة الأدبيّة هي بين ‏السيرة الذاتيّة والرأي الشخصيّ. ومرّة أخرى توقعُنا الكاتبة مريم جبر في مشكلة تجنيس هذه ‏النصوص/ القصص التي تنفتح على أكثر من نمط أدبي، وربّما في قصصها تحكي شهادتها ‏عن ذات جريحة وقلقة وتعبِّر عن انتماء إلى مجتمع محافظ، وتنتمي إلى زمن متغيِّر يشهد ‏تحوُّلات متناقضة، فهو يعيش زمن الانفجارات العلميّة من جهة وانتشار الإرهاب والتطرُّف ‏الديني، إضافة إلى زمن العولمة وما يشهده من هيمنة المواطن العالمي الذي يقابله اندثار ‏الإنسان. ‏

‏ انطلاقًا ممّا تقدَّم، ولتجاوز مشكلة تجنيس محتوى هذا الكتاب، أرى أنَّ مريم جبر في هذا ‏الكتاب القصصي تشتغل على ثيمة البوح كتقنية تنفتح فيها على أنماط أدبيّة مختلفة؛ النص ‏القصصي والشهادة، بمعنى أنَّها تعتمد البوح للتعبير عن مواضيع مختلفة تتراوح بين الحب ‏والشوق والحنين والهجر والخيانة والخذلان والفرح واليأس..‏

•الذات وتجلِّياتها

طرح برهان غليون في كتابه "مجتمع النخبة" مجموعة من الأسئلة تتمحور حول مدى نجاح ‏الفكر العربي في التكيُّف مع التيارات النظريّة القادمة من الغرب، وتساءل إن كانت ساهمت ‏في تدهور وضعه وتفكُّك وحدته وعمّقت مشاكله، وهي أسئلة تجعلنا مباشرة في مواجهة أزمة ‏الذات العربيّة، هذه الأزمة التي يعيشها المثقف العربي والتي تزداد عمقًا لدى المبدع لأنه ‏يصطدم بسلطة الرقابة الاجتماعيّة والسياسيّة التي تعيق حريّته الإبداعيّة، ويزداد الوضع ‏تدهورًا لدى المرأة المبدعة التي إضافة إلى سلطة الرقابة الاجتماعيّة والسياسيّة، فإنَّها تتحمّل ‏وزر سلطة الموروث الاجتماعي المتغلغل في مجتمعاتنا، والتي تُخضع المرأة لدوْرٍ نمطيٍّ ‏يجعل من جرأتها تهوُّرًا ومن اندفاعها تسيُّبًا، ويشتدّ هذا الوضع في المجتمعات التقليديّة التي لا ‏تمنح المرأة صوتها للتعبير، لذلك تحاول هذه المرأة المثقفة والمبدعة أن تجد طريقة لتقول ‏ذاتها.‏

الكاتبة مريم جبر بما هي امرأة تعيش في مجتمع تقليدي يحتكم إلى سلطة ذكوريّة، ومثقَّفة ‏تعيش صِدامًا حضاريًّا، لذلك يصبح البوح كتقنية أدبيّة طريقة تعبير عن أزمة ذات. ‏

في كتابها "فتنة البوح" نجد شخصيّة الساردة التي تمثِّل خيطًا ناظمًا يجمع كل النصوص ‏القصصيّة في الكتاب تعبِّر عن العوالم الجوانيّة لمريم جبر، أي تكشف عن مشاعرها المختلفة ‏ورؤاها المتعدِّدة، لذلك أجد الذات الساردة في كل هذه القصص تعيش أزمة تواصل مع ذاتها ‏من جهة، ومع الآخر من جهة أخرى.‏

‏-‏أزمة الذات مع ذاتها:‏

‏ اعتماد الساردة على تقنية البوح في حدّ ذاتها تعني أنّ كل الوسائط التعبيريّة الأخرى مقطوعة ‏لديها، لذلك نفهم اقتصارها على البوح الذي يعكس محدوديّة اختياراتها الأدبيّة كمبدعة في ‏مجتمع تقليدي، إضافة إلى كبح جماح المغامرة والفضول لديها لعلّه يجعلها تتحفَّظ عن ‏التَّجريب في القصة والرواية وهي تعلم أنَّ عين الرقيب الاجتماعي والناقد الأدبي نفسه يقرآن ‏للمرأة نصّها ليبحثا عن سيرتها الذاتيّة، ويلبسانها شخصيّة أبطالها، فإنْ كانت البطلة متمرِّدة أو ‏جامحة أو عاقّة سيعتبران المؤلفة كذلك. وقد عانت المرأة المبدعة كثيرًا من عيون الرَّقيب ‏والناقد اللذان يتصيّدان أخطاءها وعثراتها، ويتلصّصان على شخوصها، ويحاكمانها أخلاقيًّا ‏على كل الأحداث والمواقف في قصصها ورواياتها، لذلك نفهم أنَّ مريم جبر لم تنفتح على ‏القصة والرواية، واختارت البوح تقنية تعبير تواجه بها القارئ وتعتمدها كتقنية تعبير في ‏كتابها الثاني "نقطة عطر".‏

اختارت الكاتبة عتبة "ما قبل التقديم" لتبرز تمثُّلها لمحيطها الاجتماعي والأدبي اللذان يمثلان ‏ضغطًا عليها كمبدعة، لذلك نجدها تقول: "ثمّة مواضعات كثيرة أرغب هنا في تجاوزها ‏لأجنِّب هذا الأثر عبء تمرير الحالة الأنثويّة الخاصة بالفتاة القرويّة التي احتفت وحدها ‏بما جمعته في غفلة عن العيون والآذان"(ص3).‏

‏-‏أزمة الذات مع الآخر: ‏

‏ تبدو أزمة المرأة في هذه النصوص القصصيّة من خلال المشاعر المتقلّبة التي تعيشها من ‏حنين وشوق وحرقة الهجر ووجع الخيانة وغيرها، بحيث لا مجال لاطمئنان النَّفس ولا لراحة ‏البال.‏

الآخر/ الرجل: الذي تغيب ردود فعله، بمعنى أنَّ الغياب الفادح للرجل في هذه النصوص ‏يجعل من مساحة الفراغ ثقيلة على المرأة الساردة، عمليًّا لا نجد حضورًا للآخر الرجل إلا في ‏مناسبات قليلة يحضر فيها في صورة الصديق، هذا الحضور لا يدفع بالأحداث، وإنَّما يغذّي ‏انفعالات المرأة وهواجسها، ويزيد من ضغوطاتها، بمعنى أنَّ هذا الحضور المبتسر للآخر ‏يأتي ليزيد في تأزيم الوضع النفسي المرأة/ الساردة. ‏

لعلَّ غياب الآخر يجعله موازيًا لحالة موت، لذلك تقول: "أحتاج كثيرًا من الفلسفة وقليلًا من ‏الألم لأنجز مشروع موتك"(ص9).‏

‏"فانسحب يحمل في جلده جثة رجل مات بلا أسباب، وبقايا امرأة نظرَت إليه ‏شزرًا"(ص41).‏

الآخر/ المرأة: انشغلت المرأة/ الساردة بحضور المرأة داخل هذه النصوص، ولكن نجد أنَّ ‏هذه الأخيرة لم تكن سندًا للساردة تخفِّف عنها أزمتها وتساهم في توسيع آفاقها، وإنَّما حضرت ‏من خلال تجارب نفسيّة قاسية مثل الخيانة، وهذا يزيد من تأزُّم الذات. بهذا المعنى تبدو المرأة ‏ضدًّا للمرأة في هذه النصوص، وهذا يعني أنَّها تزيد في وتيرة الألم وحالة التشظّي التي تعيشها ‏المرأة بما يجعل من حالة البوح حالةً نفسيّةً متأزمة. ‏

‏"كلما ألحّت عليّ تلك المرأة بسؤالها عن نهاية علاقتنا- المرأة هي التي تسأل دائمًا عن ‏نهاية العلاقة.. كلّما أفرّ هاربًا خشية أن أموت بين يديها أو على يديها"(ص42).‏

‏ إذا اعتبرنا أنَّ الذات تعيش أزمة نفسيّة وذهنيّة مع الآخر الرجل، ومع الآخر المرأة، فإنَّ ‏الوضع يصبح بمثابة مأزق وجودي على اعتبار أنَّ المرأة لا تجد خلاصها في ضدّها (الرجل) ‏ولا في شبيهها (المرأة)، والتي تسمّيها في النصوص الأخيرة (فاطمة) تحضر لتزيد من وتيرة ‏الألم، تقول الساردة: ‏

‏"ورأيتهم يرجمونني بك يا فاطمة(..) ورأيتهم يسلخون جلدي يا فاطمة"(ص103).‏

وبالتالي نجد المرأة في حالة تأزُّم حادّة تحوِّلها إلى طاقة سلبيّة تزيد من وحدتها، بمعنى أنَّ ‏البوح كأداة تعبير تتحوّل إلى تركيبة نفسيّة وذهنيّة تعبر على نظام معرفي يرتبط بمجتمع ‏ذكوري، يبدو هذا مأزق حقيقي عندما ننزّله في هذه المرحلة التي نعايش فيها مجتمعات ‏معاصرة متطورة تقضي على كل تمايز بين المرأة والرجل، وعلى كل تناقض بين المرأة ‏وذاتها، وهذا ما يجعل من الكاتبة تعبِّر عن حالة تأزُّم شديدة.‏

•الخلفيّات المعرفيّة

أجدُ أنَّ الكاتبة مريم جبر تستلهم من قصص شهرزاد وشهريار وتعيد كتابتهما على طريقتها، ‏وتشير في كتابها إلى ذلك، كيف؟

يُعتبر كتاب ألف ليلة وليلة من التراث العالمي الملهم الذي أثار إعجاب الناس منذ أكثر من ‏خمسة عشر قرنًا، وكان مصدر إلهام للكثير من المبدعين من المسرحيين والتشكيليين والأدباء، ‏وبذلك كسّر هذا الكتاب الحدود بين الأنماط الإبداعيّة، ووسّع من مجال التخيُّل كما عمَّق من ‏مجالات التدبُّر لدى الإنسان، في هذا الكتاب الأدبي لمريم جبر تبدي تأثُّرها بألف ليلة وتقول ‏إنَّها تعيد مراجعة تلك العلاقة الساحرة بين شهرزاد وشهريار على طريقتها. تقول الساردة في ‏أكثر من موضع تستحثُّ البوح لينساب: "حدثي يا شهرزاد"، وحتى تزيد من توتر اللحظة ‏الدرامية تقول: "هل فاتك يا سيدي أنّ الليلة الأخيرة قد انقضت"(ص86).‏

أعتقد أنَّ المثير في ألف ليلة وليلة أنَّ كلًّا من شهريار وشهرزاد يمثلان مأساة في حدّ ذاتهما ‏لأنّهما تورّطا في علاقة جعلت منه قاتلًا ومنها أسيرة، والقصص الساحرة أصبحت بمثابة ‏إدانة لهما، ولعلَّ مريم جبر في هذه التجربة العاطفيّة التي تعيشها وتنقلها في هذا الكتاب/ البوح ‏للآخر قد عمَّقت لديها الشعور بأزمة القِيَم، وبأنَّ تجربتها العاطفيّة قد تحوّلت إلى مأزق ‏وجودي تشعر فيه باستلاب تام لأنَّها أصبحت بدوْرها أسيرة لهذا البوح الذي امتلكها ولم ‏يحرِّرها من علاقة كان من المفترض أن تحقِّق من خلالها اكتمالها وإنسانيّتها، فيُعترف بها ‏ككائن مُحبّ، تقول الساردة: "هذا الرُّعب يساوي الحُبّ"(ص88).‏

‏ أن يتحوَّل الحب، بما هو علاقة إنسانيّة من المفترض أن تحقق امتلاء الإنسان وتوازنه، إلى ‏مأساة تجترح من الآلام وتتحوّل إلى دراما ومأساة في زمن يشهد فيه العالم تحوُّلات سياسية ‏واقتصادية وعلمية وثقافية تقود العالم الذي تحوَّل إلى قرية نحو مرحلة جديدة من تاريخه، ‏والتي تبدو فيها الحياة مرقمنة وفاخرة ولكنها دون روح، ودون قيم ترد للإنسان إنسانيّته، ‏لذلك يأتي هذا البوح ليدين هذا العصر ويؤكد أنّ جوهر الإنسان في ردّ الاعتبار للحب وتحديد ‏قيمة الحياة في القدرة على الحب. وإذا كانت شهرزاد قد وجدت خلاصها في القصص ‏المشوّقة التي ترويها فإنَّ مريم جبر تجد خلاصها في اللغة التي تكتب بها والتي تمثل كل ‏حياتها، فهي تولد وتموت داخلها؛ تقول: "هي اللغة: شاهدة روحي وشاهدة قبري من هنا ‏ابتدأت وإلى هنا انتهيت"(ص57).‏

•مصادر التغذية

في كتابها فتنة البوح تحيلنا الكاتبة مريم جبر إلى معاجم مختلفة تغذي نصوصها القصصيّة:‏

أ - حضور المعجم الصوفي:‏

أن نتحدَّث عن تجربة حُبّ، فنطعّمها بالمعجم الصوفي، يعني أنّنا نرتقي بها، ونحوّل هذه ‏التجربة الوجدانيّة إلى تجربة إنسانيّة عميقة وعالية، وندخل بها مدارج المعرفة ونسمو بها إلى ‏أعلى الدرجات. والعاشق الذي يتأثّر بالتصوُّف يعني أنه توغَّل في عوالم القلب حتى يصبح ‏المعشوق هدفًا لذاته. يقول ابن الفارض: ‏

‏"لها صلواتي في المقام أقيمها ‏

وأشهد فيها أنها لي وصلت".‏

إضافة إلى تكرُّر مفردات تحيلنا على المعجم الصوفي مثل الروح، الغياب، الطين، الحلم، ‏الرُّؤى، الدهشة... فإنَّ الساردة في هذا الكتاب تصوغ لغتها برهافة وتجعلها تحلّق في عوالم ‏روحيّة خالصة تعكس تأثُّرها بالمناخ الصوفي، وتكشف عن طبيعة علاقتها الروحيّة بالأشياء ‏من حولها، تقول:‏

‏"ما دام الإنسان يموت فكيف ننتظر من المعدن أن يدوم"(ص55)/ "ما زلتُ أغمض عينيّ ‏لكي أراك"(ص56)/ "كلام أبيض على ورق أبيض في شرفة بيضاء"(ص52).‏

لذلك يبدو التواصل مع الآخر روحي أكثر منه مادي، تقول: "صوتك يكسرني"(ص80).‏

الكاتبة مريم جبر تبدو متأثرة بالعوالم الصوفيّة، ولعلها إذ تؤكد أنَّ الحب ينتهي تجربة صوفيّة ‏في زمن العولمة، وربّما في ذلك نوع من المغالاة في التجارب العاطفيّة، التي تقابل مغالاة ‏أخرى يعيشها العالم تتمثل في ارتفاع منسوب الإرهاب بما يمثله من قدرة على إنتاج العنف. ‏

ب - هيمنة اللغة الشعريّة:‏

‏ لاحظتُ بعض الومضات الشعريّة مبثوثًا في النصوص الأدبيّة القصصيّة لهذا الكتاب، فكأنَّ ‏الساردة وهي تبوح بمكنونات صدرها تتعثَّر بالشعر، وتقوله من حيث لا تدري، لعلّه يعكس ‏شفافية اللحظة التي تكتبها وصدقها في التعبير عمّا تعيشه، كما يعبِّر عن رهافة اللغة التي ‏تستعملها، بل إنَّ هذه المقاطع لو أعيد ترتيبها نتحصَّل على قصائد شعريّة فيها صورة جميلة ‏وإيقاع داخلي مدهش، من ذلك: ‏

‏"أقاسمكَ الورق وأنسج لنا بيتًا بلا جدران تحمل إطارات فارغة، ولا أبواب تحتفي ‏بعتباتها"(ص39).‏

‏"كان ثمة امرأة بلا أبواب ولا أعتاب.. كان ثمة ركض سرّي باتجاه ما يُرى.. وما كان ‏ثمّة بيت.. أمّا الوجوه والخطوات فلم تفْضِ لما أريد.. فاحتميتُ بثرثرتي ومضيت.. للآن ‏مضيت"(ص37).‏

‏"أمزِّق صفحات كتاب يدقّ فيه البطل جدار ألمه طويلًا ولا أحد يردّ"(ص48).‏

ج - حضور الحِكمة:‏

أيضًا لاحظتُ حضور الحكمة في هذه النصوص القصصيّة، وهو ما يعكس الخلفيّة الثقافيّة ‏الثريّة للكاتبة والتي يدعمها تكوينها الأكاديمي، وهذا يعني ثراء مدوّنتها المعرفيّة والحياتيّة، ‏ربّما نوع من الحكمة التي نجدها مبثوثة في مفاصل عديدة في نصوصها القصصيّة مثال:‏

‏"بياض الورق أصعب من بياض العمر"(ص57).‏

‏"المشي يصنع الطريق"(ص62).‏

‏"الورق يتقن صناعة الطريق كما تفعل الخطوات"(ص66).‏

‏"الحقيقة تكمن دومًا خارج ما تظهره السبورة"(ص67).‏

•الخصائص الأسلوبيّة

‏ تلتقي أحلام مستغانمي ومريم جبر في كتابة "الكيتش" بما هو لعب داخل اللغة، وقدرة على ‏ترويض المفردات وشحنها بانزياحات مختلفة تخلق عوالم دلاليّة واسعة. في خصوص مريم ‏جبر وانطلاقًا من ها الكتاب الذي نحن بصدده "فتنة البوح" أو كتابها "نقطة عطر" تعتمد لغة ‏رهيفة تطغى عليها روح الشعر من خلال استعمال تراكيب انزياحيّة توسّع الأبعاد الدلاليّة ‏للغة، لذلك تتخلى الكاتبة مرات عديدة عن اللغة العاديّة النمطيّة التي تستعمل في الكتابة ‏الأدبيّة، ونجدها تميل ناحية الشعر فتشكل صورًا إيحائيّة ومجازيّة عديدة مثال: ‏

‏"أمدّ إليك جسور قلقي"(ص50)/ "فتحت عينيّ على ضوضاء روحي والمدينة صامتة مثل ‏عينيها"(ص44)/ "نهار من قلق، يحرسك خوفي"(ص47)/ "صفحات مضيئة وكلمات ‏سوداء"(ص52)/ "بئرًا من أسئلة"(ص 53)/ "إنَّ هنالك خارج الوقت امرأة أوقدت لعينيه ‏نار لغتها ولهما أوقدت طقوس صلاة لا تنتهي بميقات ولا تتوقف لتعب"(ص55)/ "أثرثر ‏طويلًا لكي أكسر ضجيج صمتك"(ص64)‏

 

في الختام، ‏

‏ انطلاقًا ممّا تقدَّم، هل ستحتفظ مريم جبر بهذا الأسلوب في الكتابة الذي يتعرَّض لهجوم شديد ‏من طرف بعض النقاد؟ هل ستحافظ على تقنية البوح التي ربما تُوسم كتاباتها القصصيّة، أم ‏أنها ستجرِّب تقنيات أدبيّة أخرى توسّع من خلالها مجال همومها الإبداعيّة وهواجسها الإنسانيّة ‏لتفرد لها خصوصيّة أدبيّة تميِّزها عن غيرها؟

‏- - - - - - ‏

‏* منشورات وزارة الثقافة، عمّان/ الأردن لسنة 2007.‏