‏"فستق عبيد" للكاتبة سميحة خريس تماهي التاريخ والسَّرد.. وطلاقة اللُّغة الواصفة

 ‏عِذاب الركابي

كاتب وناقد عراقي

athabalrekabi22@yahoo.com

 

هي حال الإنسان الأسود- الزنجي، وهو يقاسي في أمرّ سجون الحياة، متجرِّعًا صلف ‏وغطرسة السيد الأوروبي- الأبيض، مبتكر إمبراطوريّة العبوديّة، ومؤسّس لممالك ‏العنصريّة، بكل محميّاتها وجندها وأباطرتها، وهم شخوص من رملٍ وقش، تحت ‏مجهر العدالة والحق.. ‏

 

‏"فستق عبيد"* نوعٌ من الكتابة- الضدّ.. نثرٌ خرافيّ، التاريخُ فيه يُحاكمُ نفسَه، بلْ حاكمٌ ‏ومحكومٌ في الآن، والسَّردُ الشاهدُ الموثوق والأمثل، والتاريخُ والسَّردُ يجتمعانِ على ‏مائدةٍ دسمةٍ من الأحداث، بين الواقع والخيال، وبين الحُلم والحقيقة، أجّجتها نيران ‏الحروب والنِّزاعات والعصبيّات والصِّراعات المحتدمة من أجل الوجود، وقد أفرزت ‏أبشع أنواع العبوديّة والتمييز العنصري المقيت، بطلها الأوحد الإنسان، مُوقدُ جمرها، ‏ووقودها في الآن، الإنسان الأبيض بعنصريّتهِ وحقدهِ وكراهيته، وجذورها في أعماق ‏ضميره ولحم دمه، عالم التخلُّف المتوحِّش الذي يرى نفسه متمدِّنًا..! والإنسان الملوَّن ‏‏-الأسود- الزنجي، وهو بضميرٍ من قماش الفصول، الأنقى، وقد هذَّبتهُ وصقلتهُ ‏المعاناة والقهر والإذلال والامتهان، هويّة حياته المفروضة، ولم يثنهِ كلّ ذلك أمام ‏جبروت وقوّة وصلف الإنسان الأبيض، بلْ حفَرَت في لحم روحهِ جرحًا فاغرًا فاهُ، ‏صارخًا طالبًا العدالة في الأرض، وقد "بدتْ عرجاءَ، ولكنها ستصلُ" بحسب تعبير ‏‏"غارسيا ماركيز".‏

في "فستق عبيد" السردُ ‏narrativ‏ والساردُ- الناص ‏textor‏ متماهيان! يتقاسمان ‏سحرَ حكاية الإنسان، ويطلّانِ على التاريخ من شرفة الكتابة "الانتزاع من المستحيل"- ‏كما يُعبِّر "موريس بلانشو".. لا يشغلهما زهو خطى رواتِه، بلْ يذكران ويدخلان ‏تفاصيله، متوَّجين بعطر كلماتٍ بلاغتها لا تعرفُ الترهُّلَ والخواء، مضيئان دهاليزه ‏الأكثر ظلمة لإعادة كتابته، والإفادة من لحظاته. يقولُ "أوسكار وايلد": "نحنُ مدينون ‏للتاريخِ بواجبٍ واحدٍ، وهو إعادة كتابته".‏

‏"فستق عبيد" رواية شخصيّات وأصوات

‏ وفق النسق البولوفوني، حيث تتعدّد الأصوات، والشخصيّات في أسلوب بديع، تأخذ ‏كلّ شخصية مكانها، وكرسيّها الوثير في عمارة الرواية وهي في عدةِ أبوابٍ، وكل ‏شخصيّة امتداد للأخرى، وكأنَّنا أمام أكثر من ساردٍ وإنْ بدت الخطوات متباينة ‏مضطربة، فهي خلاصة تشظي روحٍ ظامئة إلى الحرية؛ سجيّة الإنسان الأولى، إذ أنّ ‏‏"محبّة الحريّة صفة أصيلة في الإنسان" كما يقول "جون ديوي"، بل هي طريق ‏للوجود.‏

‏"كامونقة ": أو "معتوق" الجدّ- الراوي أصل الحكاية، حكاية الأرض والإنسان ‏والوطن، الحكاية الباذخة في الحكمة والصدق، والحلم، والانتماء، والحميميّة، والثراء ‏الإنساني: "يمضي الجدُّ ساردًا، ويحدّق الآخرون باهتمام"(ص6).‏

‏"رحمة" أو "رفمة": ضمير الحكاية- السرد ‏narrative، الشخصيّة الأعلى، وهي ‏بشراسةِ ثمرةٍ تتفتَّحُ مزهوّة بلونها وطعمها.. وهي والجدّ "كامونقة" صراع زمنين ‏قاحلين؛ زمن الجدّ المؤسَّس على حكاياتٍ بلا انتهاء، طالها الخيال والوهم، خلاصة ‏تجربة مريرة دوّنها اللسان ولم يستطع الزمن محوها.. وزمن "رحمة" الحفيدة، ‏ومحطّات بدت مظلمة رطبة، وهي تنظر إلى القادم الآتي، توهنُ خطواتِها عواصفُ ‏ضجرٍ من حكايات الماضي- خلاصة ذاكرة الجدّ، وقد بدت لها، ليست أكثر من خداع ‏كلمات، وهمًا، ولعبة ألفاظ.‏

‏"التيجاني": تاجر السمسم، وعاشق السفر والحياة، المزهوّ بنفسه، سلطان وقته بلا تاج ‏ولا صولجان، ولا يعني لديه الربح والخسارة شيئًا، وهو لحظة أمان مؤقَّت لدى العبد- ‏‏"كامونقة"، وقسط من الاستقرار في عبوديّة مرفّهة.‏

‏"عبدالله التعايشي": خليفة "المهدي" المبارك بحبّ أهل بلده، وارثُ شجاعة الخليفة، ‏وشهامته، ووطنيّته، وتفانيه الروحي في مواجهة المستعمر الإنجليزي، والخلاص من ‏حكمه الجائر، ولهُ ظلّه المقدّس برؤى شعبه، ونبض أرضه.‏

‏"الزاكي": الذي بدا في موقعهِ مستشار الخليفة "التعايشي"، ساعدهُ الأيمن، ومنزلته ‏كمنزلة "إسماعيل" لـِ"إبراهيم " عليهما السلام.‏

‏"النجومي": أحد رجال "المهدي" الكبار الشجعان، ولهُ دور في فتح "الخرطوم"، وهو ‏قائد الرجال المقاتلين في الأصقاع البعيدة، مجاهدًا وبطلًا.‏

‏"النهاضي": صائد العبيد، امتداد وتاريخ زمن العبوديّة، حيث الإنسان سلعة، بيع ‏ومتاجرة، وربح وخسارة، وقهر وامتهان ولا وجود، ولا حقّ في الحياة.‏

‏"ساراماجو": صاحب المزرعة ومالك الأرض، تاجر السلاح والنبيذ والسُكَّر، الجشِع ‏الطامع، أحد أباطرة العبوديّة، مَن يستعبد أناسًا يحملون مثله قلبًا وروحًا وجسدًا، ولا ‏يختلفون عنه إلّا في اللون والوضع المعيشي.‏

‏"كارولينا": زوجة صاحب المزرعة، المتغطرسة، والمتجبِّرة، الأنموذج الأمثل لمَن ‏يفعل الأسوأ في هذا العالم، كراهيّتها للأسْوَد "فيتامين" حياتها الذي تراه صالحًا مدى ‏الحياة.‏

‏"سانشو": آخر الشخصيّات، والأصوات المؤثِّرة والفاعلة في نسيج الرواية، شقيق ‏الزوجة "كارولينا"، فاضح في نواياه السيئة تجاه الكلّ، وفي شذوذه الجنسي المثلي، ‏أحد رموز العبوديّة الباذخ في رخص جسده وحياته تلبيةً لرغباته وشهواته، وقد بدا ‏بفقه السَّرد مملوكًا- مستعبدًا للآخر الزنجي لا مالكًا.. المتورّط في انهيار ثروة صهره ‏آمر المزرعة "ساراماجو".‏

‏ تلك أهمّ الشخصيّات الفاعلة والمؤثرة في سير الأحداث في "فستق عبيد" للكاتبة ‏سميحة خريس، وقد بدا العالمُ من خلالها متاهة يستحيل الهرب منها -بحسب تعبير ‏بورخيس في "الحكايات"- وكونٌ بالغ في ظلمتهِ، وحياة تشكو من الحياة!‏

‏"فستق عبيد" حكاية ورواية بصريّة بامتياز

‏"الرواية مثل التصوير والموسيقى"، كما يرى "كونراد"، تتوّج جُمَلها الرشيقة، ‏ومفرداتها البركانيّة الإيقاع، براعة الانتقال التلقائي بـ"النصّ المكتوب" إلى "النصّ ‏البصري"، إذْ لا غموض في إيقاعه الباذخ في شاعريّته، يُقرأ ويُرى في الآن، ‏وكلوحة تشكيليّة لا تبدو خطوطها وألوانها وظلالها الحزينة الجارحة مثبطة للعزيمة، ‏بلْ موقظة حدسيّة وتأمليّة.‏

يقولُ هنري جيمس: "أهمّ نقطة على الإطلاق هي الحكاية"، وهي في "فستق عبيد" كلّ ‏شيء! بعيدة الغور، عميقة الدلالات، جارحة، موقظة.. هي حكاية الحياة التائقة إلى ‏الحياة.. حكاية الوجود المهدَّد بالغياب والتلاشي.. حكاية الإنسان مسروق الخطى ‏والأحلام.. حكاية "الزول الحكاي"- "كامونقة"، اسم الأرض والوطن "دارفور- نيالا" ‏في تضاريسها الحياتيّة القاسية، وأحلام أهلها السجينة، وحياتهم التي تشبه الموت.‏

‏"كامونقة" أصلُ الحكاية- الساردُ الأمهرُ في تفاصيل يتصدَّرها القهر والامتهان ‏والجوع والظمأ.. تتعدّد أسماء الراوي "كامونقة، معتوق، سيّد" والإنسانُ واحدٌ، ‏والروح صحراء قاحلة، والوجود غياب الغياب في زمن الاستعمار الإنجليزي.. ‏وحكاية " كامونقة" بصريّة، برعت الكاتبة في إعطائها هذا الإيقاع والأداء والتكنيك ‏السينمائي المثير في تفاصيله ولقطاته، ووحشيّة أبطاله، حكاية تُقرأ في كلّ اللغات، ‏تختصر أزمان العبوديّة، والتجارة في البشر، وقد نبذها فقه الأديان والأخلاق، حيث ‏يتسيَّد الرجل الأبيض الذي لا يرى إلّا نفسه في مرآة الحياة التي بَدَت مهشَّمة، ويصبح ‏الإنسان الملوَّن- الأسود سلعةً تُباع وتُشترى، لا معنى لخطاه وأحلامه، تاريخ موحش ‏للمعاناة والامتهان والغربة.‏

في "فستق عبيد" التاريخ يتكلّم، القاضي والمتَّهم وجهًا لوجه، متخذًا من السيرة الغيريّة ‏مادة ناطقة ومصوّرة، تُقرأ وتُرى وهي تداهمُ بياض صفحاته، التاريخ سارد ومسرود ‏معًا، لحظة لقاء فنّي تقني موضوعي عاليَ النغمة في الرواية، تاريخ فاضح في ‏بشاعة صورِه، وسوداويّة عباراته، مزدحم بالآلام والجروح والغياب.‏

وبين "التيجاني" و"كامونقة" تفاهُم وتناغُم وانسجام، وأريحيّة متبادَلَة، تختفي -نوعًا ‏ما- شروط السيِّد والعبد إثر حميميّة الأوَّل وفهمه لخادمه، وارتياح الثاني للحياة مع ‏سيِّده؛ صورة لعبوديّة مرفَّهة، دون أغلال أو سوط، وهما بحكمة الرواية يبدوان كقائدٍ ‏وتابعه.‏

والعبوديّة في "فستق عبيد" صورة موجعة، بكاميرا الذات الجريحة، صانعها الأمهر ‏الإنسان الشرير الذي "ليس سوى ذئبٍ تجاه أخيه الإنسان"، كما يرى "هوبز".. وهي ‏جرح غائر في أعماق "كامونقة"، وإنْ بَدَت للآخر الشرّير أيقونة، فهي مطفأة حزينة، ‏وعبْر استرجاع حكي باعثة على السخط والغضب حتى الألم.. والتاريخُ يتحدَّث في ‏لغةٍ بعدَ الكلماتِ، والسرد يسمع ويكتبُ ويصوِّرُ، يذكران معًا بالأحداث، وسلطات ‏الإنسان الذئب، التاريخ يسردُ الوقائع وأسبابها، زمانها ومكانها، والسرد يذكّر بما ‏تجاهلهُ التاريخ من دماء وعَرَق وخيباب، ويجسّدُ السردُ الصورة الحقيقيّة التي تُغيّب ‏في صفحات التاريخ، صورة الإنسان. ‏

في "فستق عبيد" الراوي- الإنسان الذي عاش العبوديّة والامتهان وهو في رحمِ أمّه ‏المدعو "كامونقة" أو "معتوق" هو حالة إنسانيّة، يجسِّد الصورة الوحشيّة لظلم وامتهان ‏الإنسان، والمتاجرة بإنسانيّته، ويضاف بشكلٍ جارحٍ مُستفِز إلى قائمة الأموات الذين ‏تأخّر دفنهم كثيرًا، وهم يتنسَّمون هواء الحياة الفاسد، وقبورهم فوق أكفهم.. " كامونقة" ‏يرى ويُصوّرُ ما لم يخطر ببال عبقريي الإخراج في الفنّ السابع، وهم يجسِّدون ‏عبوديّة الإنسان وامتهانه في أصقاع متعدِّدة من العالم: "عن بُعدٍ كان يُمكن لـ"كامونقة" ‏رؤية صفٍّ من الرجال عراة إلّا من قليلٍ يسترُ عوراتِهم، وقد أحنوا رؤوسهم المثقلة ‏بالسلاسل والدوائر الخشبية تغلّ أعناقهم، بينما أدمت عراقيب أقدامهم دائرة حديدية ‏غليظة تدعى المكية، تنتهي إلى سلاسل ثقيلة تجعل الحركة بطيئة"(ص30).‏

كانت أوَّل مكافأة، ثمن هذا الحلم الآسر، الذي قضّ مضجع الإنسان- العبد "كامونقة"، ‏أن يصبح اسمه "معتوق" الإنسان- الحُرّ.. ذلك هو فقه وأصل الحكاية الذي أبهر ‏الحفيدة "رحمة- رفمة" وعاد بها خيال الحكاية إلى الواقع، ومن رياح الوهم العاصفة ‏بها إلى بلاغة حكايات الجدّ.. إلى نهر الحقيقة والواقع الذي كان منبعهُ ومصبّهُ ‏تربة َروح الجدِّ "كامونقة ".. وقد عاشَ قلقَ جهاديْن عظيميْن، الجهاد في سبيل ‏الحريّة، وجهاد العشق مع "اللمون" الأنثى، المرأة- الحلم- الحريّة.‏

وشوق "معتوق" إلى الجهاد، ثمرة الظمأ والشوق إلى الحريّة.. وعلى منطاد الحلم- ‏الحريّة، يصبح "معتوق" ضمن رجال فارس الفرسان "النجومي" مجاهدًا ومقاتلًا ‏بلباسهِ العسكريّ، وبندقيّته من نوع "رمنجتون"، وهو في طريقه مع "النجومي" لفتح ‏مصر "باب من أبواب الجنّة"، ولم يعُد ضمن سريّة هذا المقاتل الشرس، بل ومن ‏الذين يُعوَّل عليهم لاستكشاف ظل الأعداء، حين تُسنَد إليه مهمّة تجسُّسيّة، أولى المهام ‏التي لا يقوى عليها إلا القليل من أيتام الحريّة.‏

‏"كامونقة- معتوق" والمصائب رفيقان أزليّان، وهو يعيش هزيمتينِ وخسارتينِ ‏قاسيتينِ، خسارة المعركة- أولى خطواته في الجهاد التي قادها "النجومي" لفتح مصر، ‏وما تكبّدته الحملة من خسائر في الرجال والعتاد، وارتفاع عدد الأسرى، وهزيمة ‏روحيّة أمام الزوجة "اللمون" وهي تعاني آلام الحمل والجوع والظمأ، وأحلام طفلها ‏‏"عبدالله" الذي وُلِدَ ضعيفًا لا يقوى حتى على البكاء، وسط لهيب معركة لا تُعرف ‏نهايتُها!‏

و"معتوق" بين نارين لم ينطفئ لهيبهما، بين نار العودة إلى "التيجاني" تاجر السمسم ‏في اضطراب خطى منهكة للروح والجسد، عودة إلى سابق حياته، وقد أحرق ورقتها ‏الصفراء من تقويم الحياة، وهي تذكّر بالعبودية.. أو البقاء وفاءً لمبدأ اتَّخذهُ عطر ‏حريّة لا ينفد، مع قائده "النجومي" الذي غدر بهِ وقتهُ، ولكنّه قرّر "لنْ يعود".. وبين ‏العبودية والحريّة الحكمُ الفيصلُ.‏

الجدّ "معتوق" والحفيدة "رحمة " جدلُ الماضي والحاضر، والامتداد الطبيعي لزمن ‏العبودية التي لا يميز سماءه سوى غيوم الضياع والامتهان والمتاجرة، والاستخفاف ‏بما يملك الإنسان من أحاسيس تزداد فورانًا حين يعظم الظمأ إلى الحريّة، ويطلُّ وجه ‏المخلوق الحجري "النهاضي" الصائد الأمهر للعبيد.. والعبوديّة في أبشع صورها ‏الخياليّة السينمائيّة، أخلاق بشر في ضميرٍ كارتوني، وخطى إسفلتيّة، أفعال حالة تدنٍّ ‏وقحٍ في ردهات هذا العالم- المتاهة.. و"رحمة" في صفقة بيع مجزية لتاجر العبيد ‏الجزائري "رايمون"، للعيش حياة قاسية، امتداد لحياة الجدّ "معتوق"، بين الواقع ‏الجائر- العبوديّة، وساعاته المضبوطة عقاربها على نبض الإنسان الأبيض، والتي ‏تدور عكس زمن الإنسانيّة، والحفيدة بين إيعاز الحلم في أن تعيش كإنسانة، حين ‏يصبح لها أولاد وأحفاد- بلا أسماء، ووطن- حلم، وتضاريس خريطته في ملامح ‏وجهها الذي لوَّنتهُ شمس ورمال العبوديّة بكلّ ألوان الموت والفقد واليأس والغياب.‏

‏ و"رحمة" وسيِّدها الأوربيّ "ساراماجو" ولحظات بينَ مدٍّ وجزرٍ، تنتهي بقتل أحاسيس ‏إنسانة- امرأة- عبدة صغيرة، بعد نيلها قسطًا من حريّتها الجسديّة، وقد بدت لها زائفة، ‏لا تتجاوز مساحة فراش الشَّهوة، وقد تحوَّلت ابتسامات سيِّدها قرينًا للمكر والخديعة، ‏وهو يعود الآمر الناهي والسيد المُطاع، وهي العبدة التي لا وجود لها حتى في ركنٍ ‏خانقٍ من أركان روحه البالية المقيتة.. ترفع العبوديّة رايتها خفّاقة مرّة أخرى، ولكن ‏على بناء -بحكمة الرواية- يبدو متداعيًا.‏

‏ ‏

‏"فستق عبيد" سردٌ متقنٌ ونبأ عن الواقع

يجسّده أسلوب الكاتبة- الساردة، في نوع من الكتابة- الخلخلة، وهي توائم بين نغم ‏القريحة وجنون الأصابع، وهما يتباريان في محاكمة التاريخ، وينصبان له مشنقة ‏تحت شمس الواقع في اللازمن.. ويُحسب للكاتبة هذه المهارة والتفوُّق في الانتقال ‏المدهش من حروف مزهوّة بفسفورها، وجملٍ مانحة في رشاقتها.. إلى صورٍ بصريّة ‏للإنسان الأفريقي، يتوّج هذا الانتقال التكنيك والأداء السينمائي البالغ في تأثيره، بكل ‏ما في الواقع من بشاعةٍ ورعبٍ.. هي حال الإنسان الأسود- الزنجي، وهو يقاسي في ‏أمرّ سجون الحياة، متجرعًا صلف وغطرسة السيد الأوروبي- الأبيض، مبتكر ‏إمبراطوريّة العبوديّة، ومؤسّس لممالك العنصريّة، بكل محميّاتها وجندها وأباطرتها، ‏وهم شخوص من رملٍ وقش، تحت مجهر العدالة والحق، هم خارج التاريخ والزمن ‏والحياة، أبناء حضارة سقطت برؤى كتّابها ومفكريها الكبار.‏

‏ و"رحمة" عبْر استرجاع حكي، ومنولوج داخلي، مزيلٍ بعض صدأ الروح، وهي في ‏سفرٍ حالمٍ بين أطياف الجدّ "معتوق"- لحظة الأمان المليئة بالقصص والعبر والحِكم، ‏والأجواء في "فاتيما" التي لا مفرّ من فضائها إلّا الأحلام.. قد يخذلها قدرُها في الحلم، ‏ولكن عليها أن تتمسَّكَ بهِ، منطاد نجاة مخمليّ، بعيدًا عن تهاويم وكوابيس خيال الجدّ ‏الطيب "معتوق".. و"رحمة" ليست كغيرها من النساء الزنجيّات، هي بحكمة الرواية ‏الضمير النقيّ الذي –لا محالة- يؤدّي بصاحبه إلى الهلاك والقلق والموت البطيء.. ‏وليس من منقذٍ في "فاتيما" إلا الأحلام، المقرونة بهذا الإيقاع الفانتازي- الغرائبي ‏المدهش الذي اندلق من قريحة الكاتبة بتلقائيّة محبّبة، فقط ليعمل كـ"مُقبِّل" وفاتح ‏الشهيّة للمزيد من القراءة التأمليّة الفاحصة ‏close reading‏.. وتقنيًّا الخروج من ‏الواقع إلى ما فوق الواقع، وكأنّ بطلة سميحة خريس تعيش حالة بطل رواية "دميان" ‏لـ"هرمان هسّه" وهو في الأحلام "يغدو أكثر حيويّة ممّا في الواقع"ص48.‏

الروائيّة سميحة خريس في "فستق عبيد" مؤرِّخة وساردة من طرازٍ رفيعٍ، كتبتِ ‏التّاريخ بتأملٍ مُضنٍ، ليست كتابة تاريخ حسب، بل ولحظة اطمئنان إلى قراءته أكثر ‏ممّا يُطمئنُّ إليه من خلال كتابات المؤرّخين، وهي تستندُ على مرجعيّة معرفيّة ثقيلة، ‏وتمتلك صفة الكاتب- السارد الماهر في "رواية تاريخيّة- واقعيّة"، تستفيد من التّاريخ، ‏تربض في إيقاعه، تراوغهُ بأصابع رماديّة، وتغريه في قريحة شاعريّة مموسقة، ‏بأسلوب الواقع- الخيال، والخيال- الواقع فقط ليدلق من فمهِ الجُمَل البركانيّة التي تريد ‏وتتأمَّل.. وهي توائمُ بينَ التاريخ والسرد- النثر الخرافيّ العابر للأزمان.. يتماهيان ‏موضوعيًّا، ويقودُ أحدهما إلى الآخر دون إخلالٍ بالتكنيك الروائي الذي بدا لدى ‏الكاتبة- الساردة الأهمّ.. والتّاريخ ليس سوى خيال- الواقع، حبكة متقنة، وقصّة ‏موحية، يُمكن للرواي- السارد الضمني ‏narrtur- implicste‏ أن يتقمَّصَ دورَ ‏المؤرِّخ إلى أبعد الحدود.‏

في هذه الرواية تؤسِّس الكاتبة لبساطة السرد، ودفء شاعريّته، وطلاقة لغته الواصفة ‏الماتعة التي جاءت في تماثلٍ ‏semmetria‏ بين الأحداث والشخصيات، والجُمَل ‏بكامل رشاقتها، جاءت أيضًا على قدر المعاني والأفكار والرُّؤى، وبراعة في المزج ‏البديع بين لغة الكتابة السرديّة الساحرة والكلام العادي- الحكي التلقائي، كل ذلك توّج ‏سردها بالإثارة ‏excitation‏ والدهشة، جوهر الجمال في الرواية.‏

لقد كانت سميحة خريس داخل كلّ شخصيّة من شخصيّات الرواية، استعارت لسان ‏كلٍّ منهم، فقط لترسم صورة قاتمة مُستَفِزّة، تدين وتذكّر بعالم متشظٍ أو مشروخ.. ‏وكانت قادرة أيضًا على بعث شخوصها أحياء، كما لم يفعل أحدٌ غيرها، يُمكنُ أن ‏نقرأهم كلمات، ونراهم صورًا مرئيّة في الوقت نفسه. وكانت بارعة وهي تجسّد في ‏الشخصيّة الرئيسة "كامونقة" أو "رحمة" المتماهيين إنسانيًّا وحياتيًّا، نموذج للاعتلال ‏الإنساني الذي لا شفاء منه إلا بمحاكمة علنيّة للتّاريخ والعالم، وواقع يعدّ لهما مشنقة ‏العدالة..! ‏

‏- - - - -  - - - -  - - -‏

‏*"فستق عبيد" (رواية)، سميحة خريس، الآن ناشرون، 2017، الأردن، عمّان. الرواية ‏الفائزة بجائزة كتارا للرواية 2017.‏