عِذاب الركابي
كاتب وناقد عراقي
athabalrekabi22@yahoo.com
هي حال الإنسان الأسود- الزنجي، وهو يقاسي في أمرّ سجون الحياة، متجرِّعًا صلف وغطرسة السيد الأوروبي- الأبيض، مبتكر إمبراطوريّة العبوديّة، ومؤسّس لممالك العنصريّة، بكل محميّاتها وجندها وأباطرتها، وهم شخوص من رملٍ وقش، تحت مجهر العدالة والحق..
"فستق عبيد"* نوعٌ من الكتابة- الضدّ.. نثرٌ خرافيّ، التاريخُ فيه يُحاكمُ نفسَه، بلْ حاكمٌ ومحكومٌ في الآن، والسَّردُ الشاهدُ الموثوق والأمثل، والتاريخُ والسَّردُ يجتمعانِ على مائدةٍ دسمةٍ من الأحداث، بين الواقع والخيال، وبين الحُلم والحقيقة، أجّجتها نيران الحروب والنِّزاعات والعصبيّات والصِّراعات المحتدمة من أجل الوجود، وقد أفرزت أبشع أنواع العبوديّة والتمييز العنصري المقيت، بطلها الأوحد الإنسان، مُوقدُ جمرها، ووقودها في الآن، الإنسان الأبيض بعنصريّتهِ وحقدهِ وكراهيته، وجذورها في أعماق ضميره ولحم دمه، عالم التخلُّف المتوحِّش الذي يرى نفسه متمدِّنًا..! والإنسان الملوَّن -الأسود- الزنجي، وهو بضميرٍ من قماش الفصول، الأنقى، وقد هذَّبتهُ وصقلتهُ المعاناة والقهر والإذلال والامتهان، هويّة حياته المفروضة، ولم يثنهِ كلّ ذلك أمام جبروت وقوّة وصلف الإنسان الأبيض، بلْ حفَرَت في لحم روحهِ جرحًا فاغرًا فاهُ، صارخًا طالبًا العدالة في الأرض، وقد "بدتْ عرجاءَ، ولكنها ستصلُ" بحسب تعبير "غارسيا ماركيز".
في "فستق عبيد" السردُ narrativ والساردُ- الناص textor متماهيان! يتقاسمان سحرَ حكاية الإنسان، ويطلّانِ على التاريخ من شرفة الكتابة "الانتزاع من المستحيل"- كما يُعبِّر "موريس بلانشو".. لا يشغلهما زهو خطى رواتِه، بلْ يذكران ويدخلان تفاصيله، متوَّجين بعطر كلماتٍ بلاغتها لا تعرفُ الترهُّلَ والخواء، مضيئان دهاليزه الأكثر ظلمة لإعادة كتابته، والإفادة من لحظاته. يقولُ "أوسكار وايلد": "نحنُ مدينون للتاريخِ بواجبٍ واحدٍ، وهو إعادة كتابته".
• "فستق عبيد" رواية شخصيّات وأصوات
وفق النسق البولوفوني، حيث تتعدّد الأصوات، والشخصيّات في أسلوب بديع، تأخذ كلّ شخصية مكانها، وكرسيّها الوثير في عمارة الرواية وهي في عدةِ أبوابٍ، وكل شخصيّة امتداد للأخرى، وكأنَّنا أمام أكثر من ساردٍ وإنْ بدت الخطوات متباينة مضطربة، فهي خلاصة تشظي روحٍ ظامئة إلى الحرية؛ سجيّة الإنسان الأولى، إذ أنّ "محبّة الحريّة صفة أصيلة في الإنسان" كما يقول "جون ديوي"، بل هي طريق للوجود.
"كامونقة ": أو "معتوق" الجدّ- الراوي أصل الحكاية، حكاية الأرض والإنسان والوطن، الحكاية الباذخة في الحكمة والصدق، والحلم، والانتماء، والحميميّة، والثراء الإنساني: "يمضي الجدُّ ساردًا، ويحدّق الآخرون باهتمام"(ص6).
"رحمة" أو "رفمة": ضمير الحكاية- السرد narrative، الشخصيّة الأعلى، وهي بشراسةِ ثمرةٍ تتفتَّحُ مزهوّة بلونها وطعمها.. وهي والجدّ "كامونقة" صراع زمنين قاحلين؛ زمن الجدّ المؤسَّس على حكاياتٍ بلا انتهاء، طالها الخيال والوهم، خلاصة تجربة مريرة دوّنها اللسان ولم يستطع الزمن محوها.. وزمن "رحمة" الحفيدة، ومحطّات بدت مظلمة رطبة، وهي تنظر إلى القادم الآتي، توهنُ خطواتِها عواصفُ ضجرٍ من حكايات الماضي- خلاصة ذاكرة الجدّ، وقد بدت لها، ليست أكثر من خداع كلمات، وهمًا، ولعبة ألفاظ.
"التيجاني": تاجر السمسم، وعاشق السفر والحياة، المزهوّ بنفسه، سلطان وقته بلا تاج ولا صولجان، ولا يعني لديه الربح والخسارة شيئًا، وهو لحظة أمان مؤقَّت لدى العبد- "كامونقة"، وقسط من الاستقرار في عبوديّة مرفّهة.
"عبدالله التعايشي": خليفة "المهدي" المبارك بحبّ أهل بلده، وارثُ شجاعة الخليفة، وشهامته، ووطنيّته، وتفانيه الروحي في مواجهة المستعمر الإنجليزي، والخلاص من حكمه الجائر، ولهُ ظلّه المقدّس برؤى شعبه، ونبض أرضه.
"الزاكي": الذي بدا في موقعهِ مستشار الخليفة "التعايشي"، ساعدهُ الأيمن، ومنزلته كمنزلة "إسماعيل" لـِ"إبراهيم " عليهما السلام.
"النجومي": أحد رجال "المهدي" الكبار الشجعان، ولهُ دور في فتح "الخرطوم"، وهو قائد الرجال المقاتلين في الأصقاع البعيدة، مجاهدًا وبطلًا.
"النهاضي": صائد العبيد، امتداد وتاريخ زمن العبوديّة، حيث الإنسان سلعة، بيع ومتاجرة، وربح وخسارة، وقهر وامتهان ولا وجود، ولا حقّ في الحياة.
"ساراماجو": صاحب المزرعة ومالك الأرض، تاجر السلاح والنبيذ والسُكَّر، الجشِع الطامع، أحد أباطرة العبوديّة، مَن يستعبد أناسًا يحملون مثله قلبًا وروحًا وجسدًا، ولا يختلفون عنه إلّا في اللون والوضع المعيشي.
"كارولينا": زوجة صاحب المزرعة، المتغطرسة، والمتجبِّرة، الأنموذج الأمثل لمَن يفعل الأسوأ في هذا العالم، كراهيّتها للأسْوَد "فيتامين" حياتها الذي تراه صالحًا مدى الحياة.
"سانشو": آخر الشخصيّات، والأصوات المؤثِّرة والفاعلة في نسيج الرواية، شقيق الزوجة "كارولينا"، فاضح في نواياه السيئة تجاه الكلّ، وفي شذوذه الجنسي المثلي، أحد رموز العبوديّة الباذخ في رخص جسده وحياته تلبيةً لرغباته وشهواته، وقد بدا بفقه السَّرد مملوكًا- مستعبدًا للآخر الزنجي لا مالكًا.. المتورّط في انهيار ثروة صهره آمر المزرعة "ساراماجو".
تلك أهمّ الشخصيّات الفاعلة والمؤثرة في سير الأحداث في "فستق عبيد" للكاتبة سميحة خريس، وقد بدا العالمُ من خلالها متاهة يستحيل الهرب منها -بحسب تعبير بورخيس في "الحكايات"- وكونٌ بالغ في ظلمتهِ، وحياة تشكو من الحياة!
• "فستق عبيد" حكاية ورواية بصريّة بامتياز
"الرواية مثل التصوير والموسيقى"، كما يرى "كونراد"، تتوّج جُمَلها الرشيقة، ومفرداتها البركانيّة الإيقاع، براعة الانتقال التلقائي بـ"النصّ المكتوب" إلى "النصّ البصري"، إذْ لا غموض في إيقاعه الباذخ في شاعريّته، يُقرأ ويُرى في الآن، وكلوحة تشكيليّة لا تبدو خطوطها وألوانها وظلالها الحزينة الجارحة مثبطة للعزيمة، بلْ موقظة حدسيّة وتأمليّة.
يقولُ هنري جيمس: "أهمّ نقطة على الإطلاق هي الحكاية"، وهي في "فستق عبيد" كلّ شيء! بعيدة الغور، عميقة الدلالات، جارحة، موقظة.. هي حكاية الحياة التائقة إلى الحياة.. حكاية الوجود المهدَّد بالغياب والتلاشي.. حكاية الإنسان مسروق الخطى والأحلام.. حكاية "الزول الحكاي"- "كامونقة"، اسم الأرض والوطن "دارفور- نيالا" في تضاريسها الحياتيّة القاسية، وأحلام أهلها السجينة، وحياتهم التي تشبه الموت.
"كامونقة" أصلُ الحكاية- الساردُ الأمهرُ في تفاصيل يتصدَّرها القهر والامتهان والجوع والظمأ.. تتعدّد أسماء الراوي "كامونقة، معتوق، سيّد" والإنسانُ واحدٌ، والروح صحراء قاحلة، والوجود غياب الغياب في زمن الاستعمار الإنجليزي.. وحكاية " كامونقة" بصريّة، برعت الكاتبة في إعطائها هذا الإيقاع والأداء والتكنيك السينمائي المثير في تفاصيله ولقطاته، ووحشيّة أبطاله، حكاية تُقرأ في كلّ اللغات، تختصر أزمان العبوديّة، والتجارة في البشر، وقد نبذها فقه الأديان والأخلاق، حيث يتسيَّد الرجل الأبيض الذي لا يرى إلّا نفسه في مرآة الحياة التي بَدَت مهشَّمة، ويصبح الإنسان الملوَّن- الأسود سلعةً تُباع وتُشترى، لا معنى لخطاه وأحلامه، تاريخ موحش للمعاناة والامتهان والغربة.
في "فستق عبيد" التاريخ يتكلّم، القاضي والمتَّهم وجهًا لوجه، متخذًا من السيرة الغيريّة مادة ناطقة ومصوّرة، تُقرأ وتُرى وهي تداهمُ بياض صفحاته، التاريخ سارد ومسرود معًا، لحظة لقاء فنّي تقني موضوعي عاليَ النغمة في الرواية، تاريخ فاضح في بشاعة صورِه، وسوداويّة عباراته، مزدحم بالآلام والجروح والغياب.
وبين "التيجاني" و"كامونقة" تفاهُم وتناغُم وانسجام، وأريحيّة متبادَلَة، تختفي -نوعًا ما- شروط السيِّد والعبد إثر حميميّة الأوَّل وفهمه لخادمه، وارتياح الثاني للحياة مع سيِّده؛ صورة لعبوديّة مرفَّهة، دون أغلال أو سوط، وهما بحكمة الرواية يبدوان كقائدٍ وتابعه.
والعبوديّة في "فستق عبيد" صورة موجعة، بكاميرا الذات الجريحة، صانعها الأمهر الإنسان الشرير الذي "ليس سوى ذئبٍ تجاه أخيه الإنسان"، كما يرى "هوبز".. وهي جرح غائر في أعماق "كامونقة"، وإنْ بَدَت للآخر الشرّير أيقونة، فهي مطفأة حزينة، وعبْر استرجاع حكي باعثة على السخط والغضب حتى الألم.. والتاريخُ يتحدَّث في لغةٍ بعدَ الكلماتِ، والسرد يسمع ويكتبُ ويصوِّرُ، يذكران معًا بالأحداث، وسلطات الإنسان الذئب، التاريخ يسردُ الوقائع وأسبابها، زمانها ومكانها، والسرد يذكّر بما تجاهلهُ التاريخ من دماء وعَرَق وخيباب، ويجسّدُ السردُ الصورة الحقيقيّة التي تُغيّب في صفحات التاريخ، صورة الإنسان.
في "فستق عبيد" الراوي- الإنسان الذي عاش العبوديّة والامتهان وهو في رحمِ أمّه المدعو "كامونقة" أو "معتوق" هو حالة إنسانيّة، يجسِّد الصورة الوحشيّة لظلم وامتهان الإنسان، والمتاجرة بإنسانيّته، ويضاف بشكلٍ جارحٍ مُستفِز إلى قائمة الأموات الذين تأخّر دفنهم كثيرًا، وهم يتنسَّمون هواء الحياة الفاسد، وقبورهم فوق أكفهم.. " كامونقة" يرى ويُصوّرُ ما لم يخطر ببال عبقريي الإخراج في الفنّ السابع، وهم يجسِّدون عبوديّة الإنسان وامتهانه في أصقاع متعدِّدة من العالم: "عن بُعدٍ كان يُمكن لـ"كامونقة" رؤية صفٍّ من الرجال عراة إلّا من قليلٍ يسترُ عوراتِهم، وقد أحنوا رؤوسهم المثقلة بالسلاسل والدوائر الخشبية تغلّ أعناقهم، بينما أدمت عراقيب أقدامهم دائرة حديدية غليظة تدعى المكية، تنتهي إلى سلاسل ثقيلة تجعل الحركة بطيئة"(ص30).
كانت أوَّل مكافأة، ثمن هذا الحلم الآسر، الذي قضّ مضجع الإنسان- العبد "كامونقة"، أن يصبح اسمه "معتوق" الإنسان- الحُرّ.. ذلك هو فقه وأصل الحكاية الذي أبهر الحفيدة "رحمة- رفمة" وعاد بها خيال الحكاية إلى الواقع، ومن رياح الوهم العاصفة بها إلى بلاغة حكايات الجدّ.. إلى نهر الحقيقة والواقع الذي كان منبعهُ ومصبّهُ تربة َروح الجدِّ "كامونقة ".. وقد عاشَ قلقَ جهاديْن عظيميْن، الجهاد في سبيل الحريّة، وجهاد العشق مع "اللمون" الأنثى، المرأة- الحلم- الحريّة.
وشوق "معتوق" إلى الجهاد، ثمرة الظمأ والشوق إلى الحريّة.. وعلى منطاد الحلم- الحريّة، يصبح "معتوق" ضمن رجال فارس الفرسان "النجومي" مجاهدًا ومقاتلًا بلباسهِ العسكريّ، وبندقيّته من نوع "رمنجتون"، وهو في طريقه مع "النجومي" لفتح مصر "باب من أبواب الجنّة"، ولم يعُد ضمن سريّة هذا المقاتل الشرس، بل ومن الذين يُعوَّل عليهم لاستكشاف ظل الأعداء، حين تُسنَد إليه مهمّة تجسُّسيّة، أولى المهام التي لا يقوى عليها إلا القليل من أيتام الحريّة.
"كامونقة- معتوق" والمصائب رفيقان أزليّان، وهو يعيش هزيمتينِ وخسارتينِ قاسيتينِ، خسارة المعركة- أولى خطواته في الجهاد التي قادها "النجومي" لفتح مصر، وما تكبّدته الحملة من خسائر في الرجال والعتاد، وارتفاع عدد الأسرى، وهزيمة روحيّة أمام الزوجة "اللمون" وهي تعاني آلام الحمل والجوع والظمأ، وأحلام طفلها "عبدالله" الذي وُلِدَ ضعيفًا لا يقوى حتى على البكاء، وسط لهيب معركة لا تُعرف نهايتُها!
و"معتوق" بين نارين لم ينطفئ لهيبهما، بين نار العودة إلى "التيجاني" تاجر السمسم في اضطراب خطى منهكة للروح والجسد، عودة إلى سابق حياته، وقد أحرق ورقتها الصفراء من تقويم الحياة، وهي تذكّر بالعبودية.. أو البقاء وفاءً لمبدأ اتَّخذهُ عطر حريّة لا ينفد، مع قائده "النجومي" الذي غدر بهِ وقتهُ، ولكنّه قرّر "لنْ يعود".. وبين العبودية والحريّة الحكمُ الفيصلُ.
الجدّ "معتوق" والحفيدة "رحمة " جدلُ الماضي والحاضر، والامتداد الطبيعي لزمن العبودية التي لا يميز سماءه سوى غيوم الضياع والامتهان والمتاجرة، والاستخفاف بما يملك الإنسان من أحاسيس تزداد فورانًا حين يعظم الظمأ إلى الحريّة، ويطلُّ وجه المخلوق الحجري "النهاضي" الصائد الأمهر للعبيد.. والعبوديّة في أبشع صورها الخياليّة السينمائيّة، أخلاق بشر في ضميرٍ كارتوني، وخطى إسفلتيّة، أفعال حالة تدنٍّ وقحٍ في ردهات هذا العالم- المتاهة.. و"رحمة" في صفقة بيع مجزية لتاجر العبيد الجزائري "رايمون"، للعيش حياة قاسية، امتداد لحياة الجدّ "معتوق"، بين الواقع الجائر- العبوديّة، وساعاته المضبوطة عقاربها على نبض الإنسان الأبيض، والتي تدور عكس زمن الإنسانيّة، والحفيدة بين إيعاز الحلم في أن تعيش كإنسانة، حين يصبح لها أولاد وأحفاد- بلا أسماء، ووطن- حلم، وتضاريس خريطته في ملامح وجهها الذي لوَّنتهُ شمس ورمال العبوديّة بكلّ ألوان الموت والفقد واليأس والغياب.
و"رحمة" وسيِّدها الأوربيّ "ساراماجو" ولحظات بينَ مدٍّ وجزرٍ، تنتهي بقتل أحاسيس إنسانة- امرأة- عبدة صغيرة، بعد نيلها قسطًا من حريّتها الجسديّة، وقد بدت لها زائفة، لا تتجاوز مساحة فراش الشَّهوة، وقد تحوَّلت ابتسامات سيِّدها قرينًا للمكر والخديعة، وهو يعود الآمر الناهي والسيد المُطاع، وهي العبدة التي لا وجود لها حتى في ركنٍ خانقٍ من أركان روحه البالية المقيتة.. ترفع العبوديّة رايتها خفّاقة مرّة أخرى، ولكن على بناء -بحكمة الرواية- يبدو متداعيًا.
• "فستق عبيد" سردٌ متقنٌ ونبأ عن الواقع
يجسّده أسلوب الكاتبة- الساردة، في نوع من الكتابة- الخلخلة، وهي توائم بين نغم القريحة وجنون الأصابع، وهما يتباريان في محاكمة التاريخ، وينصبان له مشنقة تحت شمس الواقع في اللازمن.. ويُحسب للكاتبة هذه المهارة والتفوُّق في الانتقال المدهش من حروف مزهوّة بفسفورها، وجملٍ مانحة في رشاقتها.. إلى صورٍ بصريّة للإنسان الأفريقي، يتوّج هذا الانتقال التكنيك والأداء السينمائي البالغ في تأثيره، بكل ما في الواقع من بشاعةٍ ورعبٍ.. هي حال الإنسان الأسود- الزنجي، وهو يقاسي في أمرّ سجون الحياة، متجرعًا صلف وغطرسة السيد الأوروبي- الأبيض، مبتكر إمبراطوريّة العبوديّة، ومؤسّس لممالك العنصريّة، بكل محميّاتها وجندها وأباطرتها، وهم شخوص من رملٍ وقش، تحت مجهر العدالة والحق، هم خارج التاريخ والزمن والحياة، أبناء حضارة سقطت برؤى كتّابها ومفكريها الكبار.
و"رحمة" عبْر استرجاع حكي، ومنولوج داخلي، مزيلٍ بعض صدأ الروح، وهي في سفرٍ حالمٍ بين أطياف الجدّ "معتوق"- لحظة الأمان المليئة بالقصص والعبر والحِكم، والأجواء في "فاتيما" التي لا مفرّ من فضائها إلّا الأحلام.. قد يخذلها قدرُها في الحلم، ولكن عليها أن تتمسَّكَ بهِ، منطاد نجاة مخمليّ، بعيدًا عن تهاويم وكوابيس خيال الجدّ الطيب "معتوق".. و"رحمة" ليست كغيرها من النساء الزنجيّات، هي بحكمة الرواية الضمير النقيّ الذي –لا محالة- يؤدّي بصاحبه إلى الهلاك والقلق والموت البطيء.. وليس من منقذٍ في "فاتيما" إلا الأحلام، المقرونة بهذا الإيقاع الفانتازي- الغرائبي المدهش الذي اندلق من قريحة الكاتبة بتلقائيّة محبّبة، فقط ليعمل كـ"مُقبِّل" وفاتح الشهيّة للمزيد من القراءة التأمليّة الفاحصة close reading.. وتقنيًّا الخروج من الواقع إلى ما فوق الواقع، وكأنّ بطلة سميحة خريس تعيش حالة بطل رواية "دميان" لـ"هرمان هسّه" وهو في الأحلام "يغدو أكثر حيويّة ممّا في الواقع"ص48.
الروائيّة سميحة خريس في "فستق عبيد" مؤرِّخة وساردة من طرازٍ رفيعٍ، كتبتِ التّاريخ بتأملٍ مُضنٍ، ليست كتابة تاريخ حسب، بل ولحظة اطمئنان إلى قراءته أكثر ممّا يُطمئنُّ إليه من خلال كتابات المؤرّخين، وهي تستندُ على مرجعيّة معرفيّة ثقيلة، وتمتلك صفة الكاتب- السارد الماهر في "رواية تاريخيّة- واقعيّة"، تستفيد من التّاريخ، تربض في إيقاعه، تراوغهُ بأصابع رماديّة، وتغريه في قريحة شاعريّة مموسقة، بأسلوب الواقع- الخيال، والخيال- الواقع فقط ليدلق من فمهِ الجُمَل البركانيّة التي تريد وتتأمَّل.. وهي توائمُ بينَ التاريخ والسرد- النثر الخرافيّ العابر للأزمان.. يتماهيان موضوعيًّا، ويقودُ أحدهما إلى الآخر دون إخلالٍ بالتكنيك الروائي الذي بدا لدى الكاتبة- الساردة الأهمّ.. والتّاريخ ليس سوى خيال- الواقع، حبكة متقنة، وقصّة موحية، يُمكن للرواي- السارد الضمني narrtur- implicste أن يتقمَّصَ دورَ المؤرِّخ إلى أبعد الحدود.
في هذه الرواية تؤسِّس الكاتبة لبساطة السرد، ودفء شاعريّته، وطلاقة لغته الواصفة الماتعة التي جاءت في تماثلٍ semmetria بين الأحداث والشخصيات، والجُمَل بكامل رشاقتها، جاءت أيضًا على قدر المعاني والأفكار والرُّؤى، وبراعة في المزج البديع بين لغة الكتابة السرديّة الساحرة والكلام العادي- الحكي التلقائي، كل ذلك توّج سردها بالإثارة excitation والدهشة، جوهر الجمال في الرواية.
لقد كانت سميحة خريس داخل كلّ شخصيّة من شخصيّات الرواية، استعارت لسان كلٍّ منهم، فقط لترسم صورة قاتمة مُستَفِزّة، تدين وتذكّر بعالم متشظٍ أو مشروخ.. وكانت قادرة أيضًا على بعث شخوصها أحياء، كما لم يفعل أحدٌ غيرها، يُمكنُ أن نقرأهم كلمات، ونراهم صورًا مرئيّة في الوقت نفسه. وكانت بارعة وهي تجسّد في الشخصيّة الرئيسة "كامونقة" أو "رحمة" المتماهيين إنسانيًّا وحياتيًّا، نموذج للاعتلال الإنساني الذي لا شفاء منه إلا بمحاكمة علنيّة للتّاريخ والعالم، وواقع يعدّ لهما مشنقة العدالة..!
- - - - - - - - - - - -
*"فستق عبيد" (رواية)، سميحة خريس، الآن ناشرون، 2017، الأردن، عمّان. الرواية الفائزة بجائزة كتارا للرواية 2017.