قراءة في كتاب ‏ ‏"في الاستبداد" بحث في التراث الإسلامي

 تأليف د. كمال عبداللطيف

يوسف عبدالله محمود

كاتب أردني

mahmodyousef214@gmail.com ‎

 

في كتابه يعاين المؤلف كثيرًا من جوانب الخطاب السياسي التراثي العربي، الذي انبنى مع ‏الدولة السلطانيّة المتعاقبة على حكم الجماعة الإسلاميّة في التاريخ الإسلامي.ويوجَّه نقدًا ‏لاذعًا لكُتّاب السلاطين ولفقهاء العصور القديمة الذين ارتبطوا بأنظمة شغلت المحكومين من ‏المسلمين بالتَّفاصيل على حساب الجوهر، وبالتَّقاليد والطُّقوس على حساب قِيَم العدالة.‏

 

‏"لا نتصوَّر معركة الإصلاح السياسي في العالم العربي اليوم من المعارك البسيطة، إنَّها ‏معركة قائمة منذ ما يزيد عن قرنين من الزَّمان. إنَّ أنظمة الاستبداد وخطابات الاستبداد لا ‏تزال بدَوْرها تعاند وتمانع، متحصِّنة بلغة عتيقة وممارسات تكشف ضرورة مواصلة الجهد ‏النقدي في النَّظر والعمل، للتمكُّن من مغالبتها وتفكيكها، لنتمكَّن من انخراط أكثر إيجابيّة في ‏الحاضر الكونيّ"(ص11). ‏

بهذه المفردات العميقة الدّلالات صَدّر الأكاديمي والمفكر البارز د.كمال عبداللطيف كتابه ‏الموسوم بـِ"في الاستبداد- بحث في التراث الإسلامي" والصادر عن "منتدى المعارف"، ‏بيروت 2011. ‏

في كتابه يعاين المؤلف كثيرًا من جوانب الخطاب السياسي التراثي العربي، إن في مستوى ‏الشكل أو في طبيعة المحتوى أو في الغاية والهدف، وكذا في جدليّات العلاقة التي بنت هذا ‏الخطاب مع الدولة السلطانيّة المتعاقبة على حكم الجماعة الإسلاميّة في التاريخ الإسلامي. ‏

ويخلص المؤلف إلى أنَّ كاتب الخطاب السلطاني في العصور الإسلاميّة القديمة كان حريصًا ‏على تبرير استبداديّة الدولة السلطانيّة؛ باعتبارها الأداة السياسيّة المناسبة للتاريخ. مِن هنا ‏كان على العامّة "تجنُّب نقد السُّلطة أو الخروج عليها". حرص هذا الخطاب على "نشر ‏أخلاق الطاعة والصبر بحجّة المحافظة على النظام والتغلُّب على أزمنة الفتن"(في الاستبداد، ‏ص12). ‏

وحين يقارن د.كمال عبداللطيف هذا الخطاب السلطاني التراثي بخطاب النَّهضة العربيّة ‏الإصلاحي، يكتشف أنَّ هذا الخطاب الأخير "لم يتمكَّن من بناء مشروع في النَّظر السياسي، ‏مشروع يقطع مع خطابات شرعنة الاستبداد السائدة في تراثنا، كما يمارسها الفاعلون ‏ويتمثّلها المنظّرون المنافحون عن السلطة والإصلاح السياسي في الحاضر"(ص13). ‏

في مقارنته بين الخطاب السلطاني التراثي وخطاب النهضة العربيّة الإصلاحي، يتوصَّل ‏الباحث -وهو محق كما أرى- إلى أنَّنا "لا نمارس في خطابنا السياسي اليوم إلّا ما مورس ‏قبلنا في أزمنة أخرى"(ص15). وينتقد الباحث مواقف الذين "يرومون استعمال الرأسمال ‏التراثي لمخاصمة مشروع الحداثة والتحديث"(ص17). ‏

في كتابه اتِّجاه لإنجاز عمليّة مسح عامّة للآداب السلطانيّة، منذ نصوصها الأولى التي ‏تبلورت في القرن الثاني للهجرة، إلى النصوص التي تمَّت إعادة إنتاجها في الحقب ‏المتواصلة من تاريخ الدولة السلطانيّة في تاريخ الإسلام. ‏

ومن بين المفاهيم التي أتاحت للمؤلف إمكانيّة التقدُّم في قراءة (الآداب السلطانيّة) "مفهوم ‏الأيديولوجيا، والتاريخ، والنظام المعرفي، والنقد التاريخي، ثم مفهوم الاستمراريّة في تاريخ ‏الفكر، ومفهوم القطيعة ثم مفهوم المثاقفة"(ص21). ‏

يشير الكاتب إلى أنَّ معاينته للخطابات السياسيّة في تاريخ الفكر الإسلامي أثمَرَت الوقوف ‏على جملة من أنظمة القول، بوَّبَها على الرّغم من تداخلها وترابطها في ما يلي: ‏

‏1.‏ خطاب المأثور الديني المعياري (القرآن والسُّنّة). ‏

‏2.‏ الخطاب الفقهيّ. ‏

‏3.‏ الخطاب الكلاميّ. ‏

‏4.‏ الخطاب السياسي الفلسفيّ. ‏

‏5.‏ الخطاب التاريخيّ. ‏

‏6.‏ الخطاب السياسيّ الرمزيّ. ‏

‏7.‏ خطاب التَّدابير السياسيّ المباشر (الخُطَب والرَّسائل والأختام). ‏

 

في قراءته لخطاب الآداب السلطانيّة العربيّة أشار المؤلف إلى وظيفتها الأيديولوجيّة، وهي ‏وظيفة "لا تهتمّ برفع المغالطات"، إنَّها تبرِّر النَّهج السلطانيّ. "إنَّ وراء سياسة التدبُّر ووراء ‏النُّصح والموعظة مواقف في التَّبرير السياسي المدعِّم لاختيارات سلطويّة ‏محدَّدة"(ص288). ومن خلال قراءته لهذه الآداب السلطانيّة يشير إلى "الميتافيزيقيا الدينيّة، ‏المتحكِّمة في نواة التبرير المركزيّة، الموجّهة لآليّة التفكير فيها"(ص288). ‏

في هذا السياق يتساءل د.كمال عبداللطيف مستغربًا وهو يقع في دراسته على كثير من ‏النصوص التي تبرِّر "الاستبداد" الذي مارسه خلفاء وولاة مسلمون، وبخاصّة في العصرين ‏الأموي والعباسي، هل يمكن أن نقول بعد كل هذا إنَّ الدين في الدولة السلطانيّة يُعتبر جزءًا ‏من المشروع السياسي السلطاني؟ لكن، ومع الأسف، فإنَّ هذا المشروع لم يكن غالبًا منزَّهًا ‏وبعيدًا عن الاستبداد. ‏

لقد حرص هذا المشروع السياسي السلطاني على تكريس "الطاعة" المدعِّمة للاستبداد ‏السلطاني السائد، بالاستناد إلى قراءة معيَّنة للإسلام "تضع الملوك في مرتبة الرُّعاة والآباء ‏والمستخلفين المستأمَنين على مصير العباد"(ص293). ‏

يستشهد المؤلف بنصوص كتَبَها كُتّابٌ مقرَّبون من السلاطين كابن المقفع والطرطوشي الذي ‏كتب في مقدمة كتابه "السَّراج": "اعلموا أنَّ في وجود السلطان في الارض حكمة لله تعالى ‏عظيمة، ونعمة على العباد جزيلة"(ص293). ‏

ينتقد د.كمال عبداللطيف "مستوى علاقة الديني بالسياسي في الآداب السلطانيّة". ينتقد ‏‏"إضفاء الشرعيّة الدينيّة على الملوك والسلاطين". "إنه في الأغلب الأعمّ مجرّد قناع تستعمله ‏السلطة ويزكّيه الفقيه"(ص294). ‏

أمّا الحديث الذي يكرِّره الفقيه أو الكاتب عن "المعيار الأخلاقي وهو يدبج خطابه السلطاني، ‏فإنَّ استحضاره ليس إلّا "لتقنيع الممارسة السياسيّة الهادفة إلى دعم السلطة ‏واستمرارها"(ص295). ‏

‏"إنَّ جعل الدين والسياسة معًا تابعين للحاكم المفرد، يقلّص من المجال الديني واختصاصات ‏سلطة الدين، لا لصالح ما هو مدني، كما يبدو للوهلة الأولى، بل لإحكام قبضة الحاكم ‏المطلق"(ص298). ‏

وفي استعراضه للمرجعيّة الأخلاقيّة، ومرجعيّة التدبير العقلاني وتبرير الاستبداد، يقول ‏المؤلف: "إنَّ هذه المرجعيّات سترهن السياسة بالأخلاق الدينيّة، كما سترهنها بالأقنعة ‏الأخلاقيّة وتربطها أيضًا بالأخلاق العقلانيّة، وانطلاقًا من هذا التركيب ستنطق الآداب بعكس ‏ما تقوم به الأنظمة السلطانيّة، ليظلَّ مفعول الوعظ والنصيحة مجرَّد أدب يحيل إلى تجربة ‏في النَّظر وفي التاريخ، من دون أن يكون هنا تطابق بين محتوى الآداب وفعل الدولة ‏السلطانيّة القهريّة والاستبداديّة التي عرفها هذا التاريخ"(ص300). ‏

نخلص من كل ما ذُكر إلى أنَّ الصِّراع الأيديولوجي السياسي الذي ساد العصور العربيّة ‏والإسلاميّة بعد عصر النبوّة أباح كلّ ما يمكن من امتلاك السُّلطة واستمرارها بالمحافظة ‏عليها، حتى وإنْ اقتضى الأمر التَّفريط في الأخلاق والتشبُّث بالأقنعة الأخلاقيّة. ‏

ومرة أخرى أقول إنَّ المبدأ الأيديولوجي ظلَّ مهيمنًا على الآداب السلطانيّة، وكما يشير ‏المؤلف "فإنَّ الأيديولوجيا كآليّة في التفكير نستطيع من خلالها فكّ كثير من ألغاز ومعميات ‏الآداب السلطانيّة، خلْطها واختلاطها، استمرارها وتكراريّتها، توظيفها لأنماط فكريّة متعدِّدة ‏ومتناقضة، تسييسها للمتعالي وإعلائها من شأن السياسي"(ص306). ‏

وفي ختام دراسته يقول المؤلف وهو يستعرض خطاباتنا السياسيّة الحاضرة: "لم تُتَح لنا بعد، ‏تصفية حسابنا مع أشكال السلطة السلطانيّة التي لا تزال حيّة في خطاباتنا السياسيّة وفي ‏مؤسَّسات دولتنا". ‏

يبقى أن أقول إنَّ دراسة هذا المفكِّر، وهي تحفر في تراثنا العربي والإسلامي، وجَّهَت نقدًا ‏لاذعًا لكُتّاب السلاطين ولفقهاء العصور القديمة الذين ارتبطوا بأنظمة مستبدَّة شغلت ‏المحكومين من المسلمين بالتَّفاصيل والجزئيّات على حساب الجوهر، وبالتَّقاليد والطُّقوس ‏على حساب قِيَم العدالة. ‏

انتقد د.عبداللطيف استعمال الدين كأداة سيطرة يستخدم القمع في أحيان كثيرة لترسيخ قِيَم ‏الطاعة والاستسلام. ومن خلال قراءته للخطاب السياسي في تراثنا القديم، يرى أنَّ توظيف ‏الدين توظيفًا أيديولوجيًّا وجعْله يقوم على "المطلق" -وهذا ما سعى إليه فقهاء تلك الأزمنة- ‏برَّر للحكّام استبدادهم ومعارضتهم الشديدة لكلّ مَن يخالفهم في الرأي بدعوى أنه يثير ‏‏"الفتنة"، ويحرِّض على سلطة الحاكم التي تزعم أنَّها تحكم باسم الله مستعينةً بفقهاء وكُتّاب ‏همّهُم التقرُّب من السلطة. ‏

ومع الأسف فإنَّ علاقة الحاكمين بالمحكومين، وفي أغلب الدول العربيّة، لا تقوم حتى الآن ‏على الشفافية والنزاهة. وما زالت هذه العلاقة -كما يرى المؤلف- "تتم بتوسُّط لغة الآداب ‏السلطانيّة، وما زالت السلطة تنظر إلى نفسها من نفس زاوية نظر الحاكم السلطان، الآمر ‏الناهي، الآمر الذي لا رادّ لأمره، ولا ضابط قانوني ومؤسَّسي لقراره وحكمه ‏وسطوته"(ص316). ‏

اعتمدت الأنظمة الحاكمة في تسويغ أدائها السياسي على مبادئ كبرى هي: ‏

‏-‏ الملك مقدَّس. ‏

‏-‏ الطاعة أمر ديني.‏

‏-‏ التدبير عناية ورعاية(ص316). ‏

والسؤال الذي يطرح نفسه هو هل تغيَّرت الحال اليوم عمّا مضى؟ هل خفَّت حدَّة الاستبداد ‏في بلداننا العربيّة والإسلاميّة؟ ‏

الواقع لم تخفّ، فحضور المفاهيم السياسيّة السلطانيّة ما زال حاضرًا. الطقوس السياسيّة ‏المصاحبة لهذه المفاهيم يتم التمسُّك بها. حداثة العصر لم تتغلغل في البنية العربيّة فما زال ‏الاستبداد ينخر هذه البنية، ويحول دون إصلاحها. ‏

إنَّ هذا الباحث، وعلى امتداد دراسته، ظلَّ وفيًّا للمقدِّمات والأدوات المنهجيّة التي استعان بها ‏أثناء صياغة بعض الفرضيّات ومقاربة بعض الإشكالات. أمّا هاجسه الأساس في البحث ‏‏"فقد تمثَّل في الاستناد إلى المُعاينة قبل إصدار الأحكام، التشخيص وإعادة التشخيص قبل ‏القراءة، والمغامرة باستخلاص النتائج، وبلورة الخلاصات"(ص332). ‏

يُحمد له استماعه المتواصل لإيقاع خطاب النصوص المدروسة، ومن ثم إيقاع تاريخها، قبل ‏أن يُصدر أحكامه عليها، وتلك لعمري منهجيّة علميّة نأت به "عن مغالطات التَّمجيد التي يلجأ ‏إليها بعض الباحثين" وهم يدرسون التراث العربي والإسلامي القديم، مُغدقين المديح على ‏بعض معالمه، يفعلون ذلك ظنًّا منهم أنهم "يمنحون تراثنا استثناءً يضعه في مرتبة خارج ‏مراتب الفكر السياسي في التاريخ"(ص334).