تأمُّلات في طبيعة المعرفة والوجود

مجدي ممدوح

كاتب أردني

majdimam@hotmail.com

 

يمتلك العلم وثوقيّة موضوعيّة لا يمكن إنكارها. أمّا الأيدولوجيا فتمتلك وثوقيّة ذاتيّة تجعل ‏معتنقيها يتشبّثون بها، بينما تمتلك الفلسفة معرفة شموليّة تدَّعي أنَّها هي وحدها القادرة على رؤية ‏الفيل بصورة كليّة، وهناك تجارب علميّة أثبتت وجود إدراكات عقليّة مباشرة ليس لها علاقة ‏بالقنوات الحسيّة، فكيف يمكننا أن نجزم بيقينيّة أيّ معرفة؟

 

لا يُمكنُ الجزْم بيقينيّة أيّ معرفة، فالمعرفة اليقينيّة الوحيدة التي لا يمكن التَّشكيك بيقينيّتها هي ‏المعرفة الذاتيّة، أي معرفة الإنسان لذاته، حيث تكون المعرفة هنا مباشرة دون وسائط، ممّا ينفي ‏وجود أيّ لبس أو غش أو خداع. وعدا عن هذه المعرفة، فإنَّ معرفتنا لما هو خارج ذاتنا تبقى ‏معرفة غير مباشرة وعرضة لكلّ أصناف التشكيك واللايقين، فمعرفتنا للعالم الخارجي تمرُّ عبْر ‏قنوات متعدِّدة قبل أن تصل إلى الدماغ وتصبح جاهزة للتمثُّل العقلي. ومن المحبط أنَّ المعرفة ‏التي نتحصَّل عليها من العالم الخارجي تتعرَّض للكثير من التغييرات أثناء رحلتها من الحواس ‏إلى العقل، وهذا يقودنا للتساؤل المشروع: هل أنَّ معرفتنا عن العالم الخارجي مطابقة لصورة ‏العالم الخارجي كما هو في حقيقته، أم أنَّ الصورة التي نرسمها للعالم هي من اختراعنا نحن، أم ‏أنّها مزيجٌ من صورة حقيقيّة وصورة متخيَّلة؟ وكم هي نسبة الحقيقي إلى المتخيَّل في هذه ‏الصورة؟ وهل أنَّ هذه الصورة يمكن التعويل عليها في تشكيل معرفة حقيقيّة عن العالم؟ وهل ‏بالإمكان معرفة الإضافات التي تجري من قِبَل ذواتنا على الصورة الحقيقيّة للعالم لكي يتسنّى لنا ‏التخفُّف من هذه الإضافات من أجل الوصول إلى صورة صادقة للأشياء كما هي في ذاتها دون ‏زيادة أو رتوش أو تعديلات، هل هذا ممكن؟

يمكن تشبيه الأمر بوجود حاجز زجاجي سميك بيننا وبين العالم، ولا فرصة لدينا للنَّظر إلى العالم ‏إلّا من خلاله. وهذا الحاجز ليس شفّافًا مثل الزجاج العادي، بل يقوم بإعادة تشكيل الصور تكبيرًا ‏وتصغيرًا وإزاحة وغير ذلك من العمليّات. من المؤكَّد أنَّنا لا نملك أيّ فرصة ولو ضئيلة لإدراك ‏العالم بصورته الأصليّة.‏

القارئ لتاريخ الفلسفة ربَّما يُصاب باليأس الكامل والإحباط من إمكانيّة معرفة كنه الأشياء. وقد ‏أجمع أغلب الفلاسفة أنَّ كل معارفنا هي عبارة عن صور ذهنيّة للأشياء ولا تمتّ بصلة لصورة ‏الأشياء كما هي في ذاتها. هذا الوضع محبط للغاية ولا يمكن أن يؤسِّس لمعرفة يقينيّة عن العالم. ‏وما زاد الوضع سوءًا هو اختلاط الانطباعات الذاتيّة الصَّرفة مع المعرفة الموضوعيّة، حتى ‏ليبدو من المستحيل الفصل بينهما. فالعقل الإنساني يمتلك، بالإضافة إلى قدرته في التقاط ‏الإشارات التي تأتيه من الخارج، قدرةً تركيبيّةً تخلط ما هو حقيقي بما هو وهمي. مثال ذلك أنَّ ‏العقل الإنساني يرى الحصان في العالم الخارجي ويكوِّن صورة كاملة عنه من خلال الإشارات ‏البصريّة والسمعيّة والشميّة وغيرها من الإحساسات، وبرى أيضًا الإنسان ويكوِّن صورة ذهنيّة ‏عنه بالطريقة نفسها. ولكن القدرة التركيبيّة في العقل تستطيع مثلًا أن تركِّب مخلوقًا جديدًا له ‏جسم الحصان ورأس الإنسان. ومع أنَّ هذا المخلوق لا وجود له البتّة في العالم الخارجي إلّا أنَّ ‏العقل قادر على خلقه متى شاء. ويبدو أنَّ الإنسان قد قام بالفعل بهذا التركيب وخلق لنا مخلوقًا ‏أسطوريًّا هو القنطور. وهناك مَن يؤمن بوجود هذا المخلوق الأسطوري. وهذا يخلق بالفعل ‏وضعًا مربكًا في ما يخصّ تصوُّرنا للعالم.‏

نحن بحاجة دائمة إلى بوصلة تقودنا إلى تشكيل معارف حقيقيّة مطابقة للواقع بعيدًا عن التَّشويه. ‏وربَّما تكون هذه البوصلة عبارة عن منهج يقودنا بأمان إلى تشكيل معارف حقيقيّة موثوقة. ‏والقارئ لتاريخ الفلسفة يدرك أنَّ هذا المنهج المثالي لم يوجد في يوم من الأيام، فهناك مناهج ‏متعدِّدة ومتضاربة يدَّعي كلّ منها أنه هو المنهج الأمثل، وهذا التَّضارُب والتعدُّد ربما يقودنا إلى ‏أنْ نفقد الثقة بها جميعًا ونظلّ ندور وندور في حلقة مفرغة بحثًا عن منهج. ‏

ربَّما في غمرة يأسنا وإحباطنا من العثور على منهج يرينا العالم كما هو في حقيقته، ننساق إلى ‏إغراء التصوُّف. ويدَّعي المتصوِّف أنه قادر على تمثُّل أشياء العالم الخارجي بشكل مباشر دون ‏أيّ وسائط بما في ذلك العقل. وهذا يضعنا في إشكاليّة كبرى حول مفهوم الذات، فنحن في نقاشنا ‏السابق افترضنا أنَّ الذات هي العقل نفسه، هي الذات العارفة. ولكن المتصوِّف لا يرى في العقل ‏إلّا أداة تستعملها الذات لإدراك العالم. كما أنَّ الصوفيّ ينطلق من قناعة أنه يمتلك قدرة على ‏المعرفة المباشرة دون وساطة العقل والحواس. بل هو يمتلك آليّات خاصّة سريّة يقوم من خلالها ‏بتحييد وتعطيل العقل والحواس، من أجل الوصول إلى المعرفة الحقّة. وهذا يضعنا في خضمّ ‏إشكال غير قابل للحلّ. والسؤال هو: هل هناك حقًّا معرفة غير عقليّة. وما شكل هذه المعرفة، ‏وكيف يمكن التحصُّل عليها. وما يزيد الوضع تعقيدًا أنَّ الفلسفة تكلَّمت أيضًا عن المعرفة ‏الحدسيّة المباشرة. والحدس لا يختلف كثيرًا عن التصوُّف، وإنْ كان الحديث عن الحدس في ‏الفلسفة يتَّخذ الجانب العقليّ، فهو حدسٌ عقليّ. ولكن المقلق في مفهوم الحدس هو طبيعته المباشرة ‏التي لا تحتاج إلى برهان أو استدلال. فهل هناك معرفة صوفيّة بالفعل؟ وهل هناك معرفة ‏حدسيّة بالمعنى الذي قالت به الفلسفة؟ ‏

الحقيقة أنَّ نظريّة المعرفة المعاصرة لا تفسح مجالًا لهذا النوع من المعارف. فالعلوم لا تعترف ‏إلّا بالمعارف التي يمكن التحصُّل عليها بأساليب تجريبيّة خالصة، حيث قامت العلوم الحديثة على ‏فكرة مؤدّاها أنه لا يوجد مصدر للمعرفة سوى القنوات التي تأتينا من الحواس الخمس، أو التي ‏تسجِّلها أجهزتنا. فهل نحن بحاجة لأن نراجع الأسس التي قامت عليها نظريّتنا في المعرفة، ‏خاصة وأنَّ هناك تجارب علميّة أثبتت وجود إدراكات عقليّة مباشرة ليس لها علاقة بالقنوات ‏الحسيّة. حيث أثبتت التجارب التي أجريت على ظاهرة "التلبثة" أنَّ هناك انتقالًا حُرًّا للمعلومات ‏من عقل شخص إلى شخص آخر دون المرور بالقنوات الحسيّة المعروفة، ويبدو أنَّ هذه التجارب ‏هي تجارب علميّة رصينة وتمَّ توثيقها وفق الشروط العلميّة المتعارف عليها من حيث الدقة ‏والموضوعيّة والقابليّة للتثبُّت والتكراريّة. إنَّ هذه الظاهرة تدفعنا إلى التفكير في ضرورة توسيع ‏نظريّة المعرفة وعدم حصرها في القنوات الحسيّة الخمس فقط. وربما يقود هذا إلى تحسين ‏معرفتنا عن العالم الخارجي. ‏

لقد تولدت الكثير من المعارف عند الإنسان من خلال تفاعله مع العالم الخارجي. ولكنَّنا لا ‏نستطيع أن نضع هذه المعارف في مستوى واحد من حيث مصداقيّتها. ويمكن الحديث عن ثلاث ‏قارات من المعرفة تختلف في ما بينها اختلافًا بيِّنًا هي: العلم والأيدولوجيا والفلسفة. ويبدو أنَّ ‏العلم يمتلك وثوقيّة موضوعيّة لا يمكن إنكارها. والأيدولوجيا تمتلك وثوقيّة ذاتيّة تجعل معتنقيها ‏يتشبّثون بها، والفلسفة تمتلك معرفة شموليّة تدَّعي أنَّها هي وحدها القادرة على رؤية الفيل ‏بصورة كليّة. إنَّ هذه الأشكال من المعرفة والمتباينة فيما بينها نتجت عن اتِّباع مناهج وطرق ‏مختلفة في تشكيل المعرفة. ونحن دائمًا يحق لنا التساؤل: هل هناك طريق ملكي للمعرفة؟ ‏