د. إيهاب محمد زاهر
مدرِّس في قسم التاريخ/ الجامعة الأردنيّة
ehabzaher40@yahoo.com
لم يكن الخيّام ريبيًّا في مضامين المعرفة، بل وجد ضالّته المنشودة في منهج الريبيّين الذي وجد فيه سبيلًا إلى نقد المعرفة الوثوقّية بكلّ اتجاهاتها وممثِّليها، ودعوة إلى مراجعة الطُّرُق المنتهجة في بناء تلك المعرفة من خلال الكشف عن أخطائها وتناقضاتها الداخليّة.
عاش الشاعر والكاتب عمر الخيّام في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، حيث شهد في هذه الحقبة الصراع الفكري وانحسار النشاط العقلي الحُرّ لحساب النشاط "الخرافي"؛ فازدهرت ظاهرة التَّنجيم في العصر السلجوقي حتى كان لكلّ سلطان أو ملك فريقه الخاص من المنجِّمين الذين يستعين بهم في استشعار الحوادث والتنبُّؤ بالمستقبل، ولعلّ هذا يشير في وجه من وجوهه إلى قلق الجهاز السياسي السلجوقي على مكانته غير المستقرّة داخل الشَّرق الإسلاميّ.
إنّ وضعًا سياسيًّا وفكريًّا مثل الذي وصفنا حريٌّ بدفع الفلاسفة إلى التقيّة أو العزلة خشية تهمة الإلحاد التي طالت الكثيرين منهم مثل عمر الخيّام، "وانتهى بالتالي ذلك العهد الذي كان فيه محمد بن زكريا الرّازي يحدِّث بأفكاره الفلسفيّة بصراحة تامّة وحتّى إّنّه يدير في (الرّي) مجالس المناظرة بحضور الحاكم والقاضي والعلماء جاعلًا العقل وحده الدليل للبشريّة".
والحديث عن أزمة المعرفة عند الخيّام يطرح علينا السؤال الآتي: إذا كان من البديهي أن يكون الخيّام مستاءً من الحال التي صارت إليها المعرفة في عصره، فهل تقدّم ببديل عنها؟
في البداية، نحن هنا لا نظفر في رباعيّات الخيّام بنسق معرفي متكامل؛ لأنّ مجال الشعر يضيق عن ذلك ومع ذلك، نعثر في الرباعيّات على أسئلة ملحّة تتردَّد على امتدادها يوجِّهها الخيّام إلى كلّ الأنماط المعرفيّة السائدة في عصره ومن أهمّها: هل في إمكان الإنسان أن يعرف؟ هل معارفه واضحة بديهيّة؟ هل عمليّة الوصول إلى المعرفة هيّنة؟ هل يملك الإنسان المهارات الكافية للوصول إلى المعرفة؟ ثم ما جدوى المعرفة أصلًا؟
إنّ هذه الأسئلة التي تلحّ على الخيّام تدفع بقارئه إلى القول إنّ هدف الرباعيّات كان نقد المعرفة السائدة في عصره والكشف عن أسسها الواهية. ومن ثمّ التَّأسيس لمعرفة جديدة. إذْ كتب في إحدى رباعيّاته:
"لا أنـــــــــــا عالــــــــم ولا أنــــتَ ســـــرّ الـ
دَّهـــــــــر أو حــــــــلّ مشكــــــل منه دقــــــا
نتظـــــــــنّى خلـــــف الستـــــــار فـــــــإنْ زا
ل فــــــلا أنـــــــتَ أو أنــــــــا ثــــــــــم نبقى".
يقوم المعنى في هذه الرباعيّة على الرَّبط بين ثلاثة أطراف أوّلها "الأنا"، ضمير يعود على الخيّام دون التباس، في حين يظلّ "الأنت" غائمًا يحيل على مُخاطَب يتعدّى حضوره ذهن الخيّام إلى واقع عيني، ونضطرّ هنا إلى التأويل استنادًا أوّلًا على أنَّ المُخاطَب يجب أن يكون مختلفًا عن المخاطِب باعتبار أنّنا نُخرج هذه الرباعيّة من صنف "المونولوج" أو الأدب "الاستبطاني" الذي سيتجلّى أكثر في رباعيّات أخرى، وهذا الواقع العيني الذي ينتمي إليه المخاطَب نرجِّح أن يكون عصر المخاطِب؛ أي عصر الخيّام نفسه. هنا يأخذ ضمير "الأنتَ" معنى الإطلاق، بمعنى أنّه لا يقصد طرفًا بعيْنه، بل كلّ الاتِّجاهات التي "تدَّعي" المعرفة، ونحن نعلم أنّ كلّ التيارات الفكريّة "الرّسميّة" على الأقلّ قد بلغت في العصر الخيّامي درجة من الوثوقيّة أباحت لها اعتبار المُخالِف كافرًا؛ فـ"أنتَ" هنا قد تشمل كلّ التيّارات المعرفيّة الوثوقيّة دون تحديد. أمّا الخطاب فيتحدَّد بالنَّفي عبْر الأداة "لا" التي تتكرَّر ثلاث مرّات تأكيدًا لهذا النَّفي المطلق لإمكانيّة المعرفة التي يخصِّصها الشاعر من خلال ذِكْر موضوعها وهو الدَّهر. وعلى الرّغم من تعريفات هذه الكلمة (الدَّهر) المختلفة، إلّا أنّنا نكتفي هنا بالقول إنّه مجال ينتمي إلى عالم ما وراء الطبيعة. من هنا يمكن أن نترجم هذه الرباعيّة بالقول إنّ "الأنا هي عمر الخيّام والأنت كلّ الاتِّجاهات الفكريّة الوثوقيّة: لا يمكننا أن نعرف أيّ شيء عن عالم الميتافيزيقا وهذا الأمر هو الذي سوّغ للكثيرين اعتبار عمر الخيّام شاعرًا لا أدريًّا، فأديب التّقى مثلًا يقول في مقدّمة ترجمة النجفي لرباعيات الخيّام: "إنّ الخيّام في مسائل (ما وراء الطبيعة) أي في مسائل الوجود المطلق و(حقائق الأشياء) و(حقيقة الروح) و(المبدأ والمعاد) من صنف الفلاسفة اللا أباليّين Agnostiques الذين يعترفون بالجهل ويرون أنّ طاقة البشر لا تستطيع أن تحيط بمثل هذه المسائل"(عمر الخيام- الرباعيات، ص24). في حين ينفي عنه عبدالمنعم الحفني "تهمة" اللا أدرية ويعتبرها تُناقض القول إنّ الخيّام كان علّامة في الرياضيّات متسائلًا: كيف يكون كذلك وهو لا يدري؟"(عمر الخيام والرباعيات، ص188)، أمّا نحن فنختلف مع الرأيين؛ ذلك أنّ الخيّام لم يكن حتى في المجال الميتافيزيقي لا أدريّا بأتمّ معنى الكلمة إذ أعلن في رباعيّة له:
"ليـــــــــــــس لــــــــذا العـــــــــالــــم ابـتـــداء
يبــــــدو ولا غـــــايــــــة وحـــــــــــــــــــــــــدُّ
ولـــــــم أجــــــــــد مـــَـــن يقــــــــول حـقــًّـــا
مــِـــن أيـــــن جئـنـــــــــا وأيــــن نغـــــــــــدو؟".
تنطوي هذه الرباعيّة ظاهريًّا على تناقض واضح؛ إذ يقرّ الخيّام في الشطر الأوّل منها برأي يقيني واثق حول مسألة تنتمي إلى مجال الميتافيزيقا وهي قِدَم العالم، وبما أنّ الخيّام يدرك ما لهذا الإقرار من نتائج خطيرة تُناقض النّص القرآني الذي يقرّ بخلق العالم وما يترتَّب على ذلك من نتائج، فقد تدارك الأمر بإدّعاء الحيرة من خلال سؤال "من أين جئنا وأين نغدو؟" الذي أفرغه الشطر الأوّل من الرباعيّة من ثقله وجديّته، وأصبح بذلك سؤالًا شكليًّا مفتعلًا بعد أنْ أجاب عنه الخيّام في بداية الرّباعية بطريقة إثباتيّة لا تدع مجالًا للقول بلا أدريته.
هذا التفسير يدعّم ما نذهب إليه وهو أنّ الخيّام لم يكن ريبيًّا فعلًا، بمعنى أنّه لم يكن يعتنق المذهب الرَّيبي في نظرته إلى الوجود، وذلك على الرّغم من أنّه في بعض فترات حياته وتحت وطأة خيبات عديدة تزعزعت ثقته في عدد من القِيَم المعرفيّة والأخلاقيّة. فأعلن في بعض رباعيّاته -بدافع انفعالي- أنّ السماء تنهدّ على رأسه وأنّه عدم التمييز بين الحقّ والباطل، إلاّ أنّه وجد في المذهب الرّيبي المذهب المنشود لنقد أسس المعارف الدغمائيّة التي سادت عصره، ولبيان تهافتها، ولإرساء منظومة من قِيَم جديدة قوامها الدّعوة إلى الانصراف عن الميتافيزيقا إلى شواغل الفيزيقا.
لم يكن الخيّام، إذن، ريبيًّا، وإنّما سلك المنهج الرّيبي شكليًّا باعتباره أداة مقاومة لدغمائيّة القرنين الحادي عشر والثاني عشر التي سادت العالم الإسلامي مشرقًا ومغربًا محاولًا الحدّ من تطرُّفها المعرفي والأيديولوجي، وزعزعة بديهيّاتها عبْر الكمّ الهائل من الأسئلة التي توجِّهها الرباعيّات لإحراج الأنماط المعرفيّة:
"ليـــــــس يـــــدري بـمـنـــــطق وقيــــــــاس
أي وقـــــــت دارت بـــــــــــــــــــــه الزرقاء
أو متــــــى تصبــــــح السمـــــــاء خرابـــــــا
فتــــداعـــــت وانــهـــــدَّ منـــــها البنــــــــــاء".
ويمكن أنْ نعتبر أنَّ الإحراج الأكبر الذي يوقعُ فيه الخيّام -من خلال رباعيّاته- هذه المنظومات الفكريّة المخاطَبَة هو تأكيد عجز العقل الإنساني عن الإجابة عن هذه الأسئلة التي تشذّ عن المنطق والقياس. فالخيّام حين يعلن فشل العقل ضمن هذا المجال إنّما ينزع عن الإجابات المعرفيّة التي تناولت هذه المسائل صفة المعقوليّة، ويجعل منها إجابات متهافتة لا تستند إلى أدلّة برهانيّة واضحة، ممّا يفقدها الشرعيّة العقليّة الإقناعيّة لتصبح حقائق ذاتيّة أو إيمانيّة أو عرفانيّة، لا يمكن الارتفاع بها إلى مستوى الحقائق المطلقة التي تدّعيها هذه المعارف والتي بموجبها تعتبر الشاكّ في هذه الحقائق ضالًّا عن سواء السبيل.
إنّنا، هنا، كأنّنا إزاء إعادة تشكيل المعرفة عبْر نقد مبادئها ومجالاتها من أجل إعادة بنائها من خلال بيان حدود العقل الإنساني أوّلًا، ومن أجل شرعنتها بإسنادها إلى أطر الوضوح والعقل ثانيًا، وحصر مجالها في إطار الممكن ثالثًا، وهذا ما يسوّغ لنا القول إنّ المشروع الأكبر الذي حملته رباعيات الخيّام كان "أنسنة" المعرفة إنْ صحّت هذه العبارة، أي أنّ حلم الرباعيّات ووعدها كان الانزياح بموضوع المعرفة من المطلق إلى النسبي، ومن المستحيل إلى الممكن، ومن السماء إلى الأرض إلى الإنساني المحدود، مثل هذا المشروع هو الذي حققته الحداثة الغربيّة بعد مخاض دام قرونًا ولم تشرع فيه إلّا بعد عصر الخيّام.
لم يكن الخيّام ريبيًّا في مضامين المعرفة، بل وجد ضالّته المنشودة في منهج الريبيّين الذي وجد فيه سبيلًا إلى نقد المعرفة الوثوقّية بكلّ اتجاهاتها وممثِّليها ودعوة إلى مراجعة الطُّرُق المنتهجة في بناء تلك المعرفة من خلال الكشف عن أخطائها وتناقضاتها الداخليّة. ومن وراء ذلك محاكمة العقل الفاقد معرفته بذاته قبل الولوج في موضوع المعرفة أصلًا؛ ممّا يجعل الإنتاج المعرفي وهمًا أو مَجازًا يتكشّف عن صعوبات داخليّة لا حدّ لها. فهدف الخيّام في رباعيّاته هو الكشف عن تلك الصعوبات، لذلك كانت أسئلة الخيّام في رباعياته التي تغوص في هذا الجانب أكثر من أجوبته، وهذا ليس غريبًا إذْ: "ليست الريبيّة مذهبًا منفصل العناصر بقدر ما هي مسأليّة مشكليّة نقديّة مفتوحة. فالريبي لا يدّعي إنشاء حقائق جديدة أحقّ من غيرها بالاعتناق، ولا يزعم اكتشاف قناعات أجدر من سواها بالاتِّباع، وإنّما يدعو إلى مراجعة طريقنا في بناء الحقيقة وإلى إعادة النَّظر في ما اعتقدنا أنّنا أنهينا النَّظر فيه لأنّه أضحى بحكم التعوُّد والألفة من البداهة ما يرفعه فوق كل تساؤل ويحميه ضدّ مداخل الشكّ. ولذا فالأقرب إلى الحقّ أن نعتبر الريبيّة موقفًا منهجيًّا نقديًّا يطرح من الأسئلة أعمقها ويزعزع من القناعات أوثقها ويفتح من الآفاق ما يجعل الفكر يرتدّ إلى ذاته بعد طول غفلة عنها".
وإذا كانت هذه الرباعيات تلحّ على أخطاء المعرفة وعلى صعوبة إدراك الحقيقة، فإنّ الخيّام يرتدّ في رباعيات أخرى إلى مراجع العمليّة المعرفيّة ليخضعها لنقدٍ قاسٍ:
"إنَّ الذيـــــن تـــرحلـــــوا مـــن قبلنـــــــــــا
نــــزلــــــــــوا بـأجــــداث الـغــرور وناموا
اشــــــرب وخــــــذ هـــــذه الحقيقــة من فمي
كــــل الــــــذي قـالـــــوا لنــــــا أوهـــــــــــام".
تمتدّ "ريبيّة" الخيّام في هذه الرباعية لتشمل الشكّ في الرَّصيد المعرفي الإنساني عمومًا. ولتنزع عن هذا الماضي قداسته وإطلاقيّته المعرفيّة وشرعيّة حيازته الحقيقة، ومن ثمّ نقد المناهج الفكريّة التي تعتمد على أسبقيّة الحقيقة الزمنيّة في بناء أنساقها والتي تعتبر أنّ الحقيقة تستمدّ سلطتها من الماضي، فيصبح التفكير تقليدًا أكثر ممّا هو سعي مزامن لوجود الإنسان، فتنبني حقائقه وفقًا لذلك على أسبقيّة تخرج عن الفكر في حدّ ذاته، وكأنّ هذه الرباعيّة تلمِّح إلى اتِّجاهات فكريّة بعينها سادت عصر الخيّام واعتبرت السَّلف مرجعًا مقدّسًا يمنح الحقيقة أبعادها الأزليّة ويحكم على المجهود الإنساني بالفشل واللا جدوى، وكأنَّ الخيّام يتستَّر وراء رباعيّته هذه ليدين التَّجميد الرَّهيب الذي تعرّضت له الحركة الفكريّة في عصره بعد أن أغلقت المذاهب الفكريّة السنيّة الأربعة الرَّئيسة باب الاجتهاد منذ القرن العاشر الميلادي، وبعد أن حكمت المذاهب السلفيّة وخاصة التيّار الأشعري على العقل الإنساني بالعجز عن مباراة السَّلَف الذي اعتبرته المصدر الرَّئيس للمعرفة.
إزاء هذا الارتداد إلى الماضي الذي شهدته الحضارة الإسلاميّة، والذي بدأ منذ القرن الحادي عشر يسير وفق وتائر متسارعة مفرِّغًا الحاضر من كلّ قيمة، مغنيًا الماضي بقيم وهميّة، معتبرًا القرن السابع الميلادي العصر الذهبي الذي لا يمكن للعقل البشري أن يتفتَّق عن أفضل منه، وبالتالي حصر المجهود الإنساني في السَّير على هدى هذا القرن واتِّباع سننه. يهدم الخيّام هذا الماضي ويعتبره وهمًا وأسطورة، وبذلك يتحوّل عمله من نقد وسائل المعرفة وموضوعاتها إلى نقد أصول المعرفة التي تكرِّس قيمة القديم، فيكتسي مشروعه أهميّة بالغة تَبرُز في النَّظرة الثَّوريّة جدًّا التي تطالب الإنسان بالتمرُّد على سيطرة الماضي بكلّ سننه وسلطته من أجل تأسيس معرفة إنسانيّة يضطلع فيها الإنسان الفرد بعمليّة المعرفة دون الاتِّكال على مرتكزات ماضويّة يعتبرها الخيّام وهمًا وزيفًا ممّا يعطي موقفه هذا أبعادًا صداميّة قصوى تنال من النصوص الأولى ومن كلّ التيّارات الفكريّة التي تراهن في مقاربة الوجود على هذه النصوص، ولعلّ هذا ما يبرِّر العلاقة المتوتِّرة التي جمعت بين عمر الخيّام ومختلف التيّارات الفكريّة والسياسيّة التي أحسّت أنّ في الرباعيّات شحنة ناسفة؛ فاتُّهِمَ الخيّام بالزندقة والكفر والإلحاد.
وعندما نعود إلى الخيّام نرى أنَّ نقده للثقافة المعرفيّة في عصره، وتأكيده على طابع الدغمائيّة الذي اتَّسمت به هذه الثقافة، والتشكيك في حقائقها، كل ذلك كان يعبِّر عن رغبة الخيّام في بناء ثقافة بديلة تنفتح على النسبيّة وعلى تعدُّد الحقائق، وكان مشروعه عقلنة هذه الثقافة باعتماد مؤسّسات بديلة عوض المؤسّسات الفقهيّة والدينيّة التي حكمت الثقافة الإسلاميّة في عصره.