فريد جفال
باحث في الدراسات القانونيّة- المغرب
faridjmlfes@gmail.com
يرى جلال أمين أنَّ الموقف من ظاهرة العولمة يدور حول النَّظر إليها كما لو كانت مرادفة لانتشار (المجتمع التكنولوجي الحديث)، وأنَّ التكنولوجيا الحديثة كما خلَبَت لبَّ المستهلك الفرد حتى استسلم لها، فهي أيضًا خلَبَت لبَّ الأمم، فضحَّت الواحدة بعد الأخرى بجزء بعد آخر من استقلالها الثقافيّ.
كَثيرةٌ هي الأقلام التي تناوَلَت موضوع العولمة ما بين رافض لها وما بين مُدافع، دون سبر أغوار ذلك. نحصر حديثنا عن العولمة في علاقتها بالهويّة، انطلاقًا من مقاربة المفكر المصري الكبير جلال أمين وقراءته الخاصة لموضوع العولمة والهويّة، خاصة وأنَّنا اليوم في عالم أقرب إلى شاشة صغيرة، أصبحت معها الثقافات في تواصل واتِّصال.
افتتح المفكر جلال أمين حديثه عن هذا الموضوع الحيويّ بمثال "الفيل والعميان"، تلك القصة المشهورة التي كان يلمس فيها كلّ من العميان جانبًا من الفيل، فيصفه على أنه الفيل بأكمله، دون أن يعرف أنَّ للفيل جوانبَ أخرى كثيرة. فكلّ منّا في وصفه للعولمة على صواب، لولا أنَّ معظمنا لا يريد أن يعترف بأنَّ بقيّة العميان على صواب أيضًا.
لقد اعتبر جلال أمين أنَّ الكل مستعد للإقرار بأنَّ للعولمة تأثيرًا على الهويّة الثقافيّة، وكُلًّا ينظر إلى ذلك من زاويته الخاصة، ومن هنا كان لا بدَّ أنْ يختلف المحللون لظاهرة العولمة وتأثيرها على الهويّة الثقافيّة؛ فهناك مثلًا "مَن لا يرى في العولمة إلّا اتِّجاهًا متزايدًا نحو تقسيم العمل وانتشار التكنولوجيا من مراكزها في العالم المتقدم اقتصاديًّا، إلى أقصى أطراف الأرض، ومن ثم زيادة الإنتاج أضعافًا مضاعفة، وهو في سبيل ذلك مستعد لأنْ يغفرَ للعولمة أيّ تأثير سلبيّ يمكن أن ينتج عنها على الهويّة الثقافيّة، بل هو مستعد للقول بأنَّ الأثر السلبي على الهويّة تافه أو بسيط، بل قد يذهب إلى حدّ القول بأنّ الهويّة الثقافيّة سوف تفيد من العولمة"(1)، فهذا الصِّنف همُّه المصلحة متجاوزًا هويَّته وهذا أخطر. وهناك صنف آخر مفتون بالغرب، فلا تثير لديهم مسألة الهويّة الثقافيّة إلّا السخرية والاستهزاء. وهناك أيضًا مَن يكره العولمة لسبب ديني باعتبارها آتية من مراكز دينها غير ديننا.
هذه المواقف الرّافضة والمرحِّبة بالعولمة يرى جلال أمين أنها قد لا تستوعب كل المواقف الممكنة، ومن ثم قد لا تستوعب كل المواقف الممكنة من قضيّة حماية الهويّة الثقافيّة، يقول: "إنَّ هناك موقفًا يزيد مَيْلي إليه كلّما أمعنتُ النظر في ظاهرة العولمة، والهويّة الثقافيّة، وقد يمثل جانبًا يستحق الاهتمام، وقد لا يقلّ أهميّة عن مختلف الجوانب التي ذكرتها، سواء من حيث مساعدتنا على فهم حقيقة العولمة، أو على اتِّخاذ الموقف الصحيح منها. كما أنه يؤدي إلى نظرة إلى الخطر الذي يهدِّد الهويّة الثقافيّة، قد تختلف اختلافًا مهمًّا عن النَّظرات الأخرى. هذا الموقف من ظاهرة العولمة يدور حول النَّظر إليها كما لو كانت مرادفة لانتشار ما يسمى أحيانًا (المجتمع التكنولوجي الحديث)"(2). لكن هذا لا يعني أنَّ العولمة تعني انتشار الاستغلال الرأسمالي، أو انتصار العلمانيّة على العقائد الدينيّة، بل هي ظاهرة قد تكون أخطر بكثير ليس على الهويّة حسب، بل على كافة المستويات.
*قِدَم العولمة
يرى جلال أمين، أنَّ العولمة ظاهرة قديمة، وقد أعطى المثال على ذلك بـ"ماركس" و"إنجلز"؛ حيث كانا يتكلّمان عن الظاهرة نفسها؛ ظاهرة العولمة، منذ 150 عامًا، عندما كتبا في البيان الشيوعي أنَّ السِّلَع التي تخرج من مصانع الرأسماليّة ستأخذ في الانتشار شرقًا وغربًا، ولن يفلح في صدِّها أي سور ولو كان بمنعة سور الصين العظيم. وبالتالي فالحديث عنها في السنوات الأخيرة لا بدّ أن يكون سببه ليس "نشأة الظاهرة"، بل "نموّها بمعدل متسارع"، والذي لا يمكن إنكاره. إنَّ النَّظر إلى العولمة سواء من زاوية معدَّل انتقال الأشخاص أو معدَّل انتقال السِّلَع أو رؤوس الأموال أو المعلومات والأفكار، كان وراؤه التطوُّر التكنولوجيّ.
إنَّ ظاهرة العولمة تعمل في طيّاتها كذلك نوعًا من الغزو الثقافيّ، من قهر الثقافة الأقوى لثقافة أضعف منها، فالذي فعله المهاجرون الأوائل إلى القارة الأميركيّة بالهنود الحمر كان نوعًا من الغزو الثقافي، ومن هنا فقد كان من الممكن -بحسب جلال أمين- "أن نصف ظاهرة الغزو الثقافي بأنها اعتداء رأسمالي على الهويّة الثقافيّة للأمة المعتدى عليها من أجل استغلالها اقتصاديًّا، كما يمكن أن نصفه بأنه غزو دين لدين، أو إحلال ثقافة أمّة محل ثقافة أخرى، كما أنه من الممكن أن يوجد المدافعون عن هذا الغزو الثقافي باسم تعظيم الإنتاج ونشر الحضارة. بحجّة نشر الحضارة جاء نابليون إلى مصر، وبنفس الحجّة قَهَرَ الاستعماريّون الأمم الأقل تقدُّمًا. وبحجّة زيادة الإنتاج غَزَت الولايات المتحدة أمّة بعد أخرى متخفِّية وراء المعونات الاقتصاديّة، واستُخدمت حجّة زيادة الإنتاج أيضًا وتعمير الأرض من جانب الصهاينة لتبرير استيلائهم على فلسطين، وبنفس الحجة انتشر موظفو البنك الدولي وصندوق النقد في مختلف أنحاء الأرض"(3). فالعولمة إذن ليست بريئة تمامًا وإنَّما تُعدُّ ظاهرة فتّاكة ليس اقتصاديًّا وحسب، بل تشكِّل خطرًا على الهويّة والثقافة، بل هي استعمار في ثوب جديد يقتل الأمم في صمت.
• التقدُّم التكنولوجي كأداة للقهر
إنَّ ما طوَّره الإنسان من تكنولوجيا خلال القرنين الماضيين، وعلى الأخص في القرن الأخير، كانت تحمل خطر إخضاع الإنسان للقهر، وتهديدًا لهويّته وآدميّته أكبر ممّا تعرَّض له الإنسان طوال التاريخ، يقول جلال أمين: "إنَّ إغراء الممكن تكنولوجيًّا، والظن بأنه لمجرَّد أنْ أصبح ممكنًا، فهو أيضًا مرغوب فيه، أكبر الآن فيما يبدو من أيّ إغراء من نفس النّوع تعرَّض له الإنسان من قبل. كما أنَّ خطر هذا الظنّ أكبر بكثير منه في أيّ وقت مضى. ذلك أنَّ تطوير الإنسان للتكنولوجيا تتجاوز استعداداته وقدراته الطبيعيّة على التحمُّل، وتهِّدد توازنه المادي والنفسي، الأمر الذي تزداد احتمالاته كلّما زاد التطوُّر التكنولوجي"(4). وقد اعتبر جلال أمين أنَّ شهوة السيطرة وقهر الآخرين تبدو وكأنَّها تزداد قوَّة وسطوة كلّما ازداد حجم هذه السيطرة وهذا القهر، كما يبدو مثلًا في شهوة الشهرة في ظلّ وسائل الإعلام الحديثة، وشهوة جمع المال مع تضاعف حجم الثروة التي اصبح من الممكن تحقيقها، وشهوة إخضاع الآخرين بالقوة المادية، كلما زادت الأسلحة المنتجة.
وقد أكد جلال أمين أنَّ ما تفعله التكنولوجيا الحديثة بهويّة الإنسان داخل الدولة الواحدة، تفعل مثله بثقافات مختلف الأمم في العالم ككل. فكما خلَبَت التكنولوجيا الحديثة لبَّ المستهلك الفرد حتى استسلم لها، خلَبَت لبَّ الأمم فضحَّت الواحدة بعد الأخرى بجزء بعد آخر من استقلالها الثقافيّ. وكما استُخدمت التكنولوجيا الحديثة من جانب طبقة لقهر الطبقات الأخرى داخل الأمّة الواحدة، استُخدمت من جانب الأمم المتقدِّمة تكنولوجيًّا لقهر سائر الأمم.
• موقف حقيقي تحرُّري
هنا، يرى جلال أمين أنَّ هذا الجزع ممّا يحدث للهويّة الثقافيّة للأمّة لا ينطوي بالضرورة على موقف رجعي متخلِّف كما يظنُّ بعضهم، ولا يتضمَّن بالضرورة دعوة إلى رفض لكلّ تقدُّم تكنولوجي والعودة إلى ماضٍ ذهبيٍّ أو التمسُّك بحاضرٍ بغيض. لا أحد ينكر أنَّ للتطوُّر التكنولوجي دائمًا دورًا تحريريًّا، ولكن ليس من الحكمة أن نغفل عن جانبه القهريّ، خاصة في ما ينطوي عليه المجتمع التكنولوجي الحديث. يقول جلال أمين: "وإذا كان المفتونون بالمجتمع التكنولوجي الحديث مولعين بوصف نقّادهم بالرجعيّة والتخلُّف والحنين إلى كل ما هو قديم، فإنَّ من الممكن أن نتَّهمهم هم بالانتهازيّة وتبرير أيّ شيء يحدث تحت شعار مجاراة متطلّبات العصر"(5). وأكَّد أنَّ لا أحد ضدّ متطلّبات العصر، لكن في الوقت نفسه، لا بدَّ من الانتقاء أحيانًا والحذر، فالمسألة ليست بهذه السهولة، فليس من الممكن أن نضحّي بهويّتنا تحت شعار الانفتاح، فهذا الأخير له حدود لدى جميع الأمم بحسب الخصوصيّات الدينيّة منها والاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة.
إنَّ من حق المرء أن ينتقد المجتمع التكنولوجي الحديث، وليس بالضرورة أن يكون هذا المرء شخصًا حالمًا؛ لا يقدِّم بديلًا ويقعدُ ساكنًا لا يفعل شيئًا إلا التحسُّر على الماضي، ومن هنا اعتبر جلال أمين أنه "من حسن حظ أمَّتنا أنَّها في كل ميدان من ميادين الإبداع الفكري والفني الاقتصادي والاجتماعي والسياسي قدَّمت أمثلة ناصعة على وجود هذا البديل، وقدَّمت أدلّة علميّة على إمكانيّة إحراز النَّهضة دون التضحية بهويّة الأمة"(6). وهو يرى أنَّ التأكيد على دور التكنولوجيا في القهر أمرٌ ضروريٌّ؛ كي يلفت النَّظر إلى أنَّ كثيرين من المعادين للعولمة من الممكن أنهم قد شخصوا المرض تشخيصًا غير صحيح تمامًا، ومن ثم وجّهوا سهام غضبهم إلى جوانب من العولمة ليست هي أكثرها استحقاقًا لهذا الغضب، ولا هي أكثر مسؤوليّة عن طمس الهويّة الثقافيّة.
صلة ذلك، أعطى جلال أمين المثال بالمتديِّنين، حيث اعتبر أنهم على حق تمامًا في القلق ممّا يهدِّد دينهم وعقيدتهم من جرّاء العولمة، ولكنَّ كثيرين منهم في رأيه يخطئون عندما يصوِّرون الأمر على أنه عدوان من دينٍ على دين. يقول جلال أمين: "إنَّ ما يحدث للمسلمين اليوم من جرّاء العولمة له شبه بلا شك بما كان يواجه المسلمين أيام الحروب الصليبيّة، ولكن التأكيد على هذا الشَّبَه يعطي انطباعًا غير صحيح، قد يصوِّر الأمر على أنَّنا بصدد معركة بين أمم مسيحيّة وأمم مسلمة، أو بين دين وآخر، والحقيقة أنَّ الأديان كلّها تتعرَّض لنفس الخطر ونفس الاعتداء، ولو بدرجات متفاوتة، من جرّاء ما أسميته بالمجتمع التكنولوجي الحديث. إنَّ ما تفعله التكنولوجيا الحديثة مثلًا باحتفال المسلمين بشهر رمضان اليوم من تحويله من مناسبة دينيّة إلى مناسبة استهلاكية.."(7). ومن هنا يؤكِّد جلال أمين مسألة مهمّة حيث يرى أنَّ الدين مكوِّن أساسي من مكوِّنات هويّة الأمة، والقلق عليه واجب وضروري من جانب أيّ شخص يعتزّ بهويّة أمته ويرفض المهانة لها، ولكن من الخطأ حصر الهويّة الثقافيّة في دائرة الدين، أو حصرها في دائرة دين معيَّن. ومن وجهة نظرنا أنَّ التشديد على أهميّة الدين لها ما يبرِّرها، فإذا ما تمَّ التمكُّن من خدش الدين، فبالتالي يسهل محو هويّة الأمة، ولعلَّ هذا جانب ممّا يدفع بعضهم في التأكيد على هذه الركيزة الأساسيّة للوجود الثقافي والهويّاتي، وبالتالي الحضاري.
ونختم مع المفكر جلال أمين بالتأكيد على أنَّ الاقتصار في النَّظر إلى المشكلة على جانبها الديني أو القومي، أو على جانب التنظيم الاقتصادي والاجتماعي، لا ينطوي فقط على قصور في تشخيص الدّاء، بل قد يحمل في طيّاته أيضًا تضييع فرصة الشفاء الحقيقيّ. ولذلك وجب النهوض والتفكير بجدّ للانخراط في هذا الفتح الكوني؛ عصر الرقمنة، بعيدًا عن لغة التَّباكي والمؤامرة، فالعالم يسير وكل مَن لم يواكب سيْره سيتلقّى الهزيمة في مختلف المجالات، وليس الهويّة وحدها.
الهوامش:
(1) العولمة، جلال أمين، دار الشروق، ط3، 2001، ص43.
(2) نفسه، ص26.
(3) العولمة، مرجع سابق، ص48-49.
(4) نفسه، ص52.
(5) العولمة، مرجع سابق، ص57.
(6) العولمة، مرجع سابق، ص58.
(7) نفسه، ص60.