يمينٌ كاذبٌ

قصة: سهام أبو عواد

 روائية وقاصة فلسطينية

 

 

لَيْسَ البرْدُ وحدهُ ما يجعلنا نرتعش، فقد اجتمعَ البرْدُ والشوقُ واللهفةُ في بقعةٍ واحدة. ‏كانوا ثلاثة، أو على الأقلّ هذا ما كان ظاهرًا حتى لحظةِ مغادرة "محمد" وصديقه ‏للمكان... ودَّع أمَّهُ وهي توزّعُ شالَها بينه وبين صديقه قائلة: "ربّما تحتاجها، لكن هي ‏أمانة عليكَ أن تُعيدها"؛ كأنَّما تتركُ عهدةً بين يديه كي تجبرهُ على العودة، أو ربّما ‏صنعت نطاقين لحملين مِن الخوف والتعب، فيصبح الحمل أخفّ قليلًا إذا توزَّعَ بين ‏اثنين. ضمّها لقلبهِ وهو يقسم لها يمينًا أنْ يعود.‏

‏"في أمان الله"، آخر كلمات المشتاق للمشتاق حين ودّعت "أم محمد" ابنها ورفيقه، ‏وهي الوحيدة التي تعلم وجهتهما، وترضى، ثم أقفلت جفنيها ليحلَّ الظلام حالكًا.‏

في الطريق إلى الحياة، بَدا كلُّ شيء آمنًا. تسلّل الصديقان نحوَ قاعدة العدوّ العسكريّة، ‏كلٌ يحملُ على عاتقهِ جزءًا مِن النَّجاة.‏

في كلِّ خطوة نحو الهدف، كانت تنهيدةُ "محمد" كلّما خرَجَتْ من سجن الضّلوع إلى ‏الفضاء؛ تُسقِطُ جدارًا، وتغلق حاجزًا، وتهدمُ سجنًا. كانت يدهُ ترفعُ زندَ الحقيبة ‏المفخّخة لتستوي جيدًا فوق كتفه، وكأنّه يخلعُ في كلِّ مرَّةٍ سلكًا شائكًا كان قد قسَمَ قلبه ‏إلى نصفين، ومبتسمًا ينظرُ إلى وجه صديقه كي يطمئنَّ. ثلاث ساعاتٍ مِن المَشي ‏على الأقدام، بين الجبال والهضاب، وعلى الرّغم مِن اتِّساع المكان إلّا أنَّ الصديقين ‏كانا ملتصقين ببعضهما بعضًا، وكان حديثهما همسًا.‏

طريقٌ مغطّاة ببُرادة اللّيل، تجلّلَت بضبابٍ بَدا كأنَّه برانسَ أجنَّةٍ وُلدوا في العراء، كان ‏التراب رطبًا، خضَّب الحَصى تحت قدميه فتذكّر كفَّ أُمّهِ وهي تمسكُ بحَجرٍ لتدقَّ فيه ‏حبّات زيتونٍ تدحرَجَتْ بين كفّيها حتى صارت حنّاءً!‏

توقَّفَ للحظةٍ ثمَّ انْحَنى وكأنَّ قلبهُ صارَ آيلًا للسجود، تنفَّس بعمقٍ وتلا بهمسٍ نشيدَ ‏بلادهِ، فزجَره صديقه قائلًا: "لا وقتَ للحبِّ الآن... هيّا بنا".‏

عند مفترقٍ بينَ غابتين، ثمّة يافطة تُصدرُ صريرًا كأنّه الكلام، ما دفعَ "محمد" إلى ‏القول: ‏

‏-‏ على هذه المجنونة أن تؤشِّر إلى الجهة اليسرى! ‏

فأجابه صاحبه: ‏

‏-‏ انتبه للحقيبة، ودَعْ مسألة الطُّرُقات لي، أليس هذا ما اتفقنا عليه؟

الوحْلُ يزدادُ كلّما توغَّل الصديقان داخلَ الغابة. ينخلعُ ظلّهما كأنّهُ حمولةٌ زائدة، ‏فيرتطمُ بأغصان أشجار تشابكت لتدثِّر بعضها بعضًا، وتحمي أوراقها الغضّة مِن ‏قسْوةِ الرِّيح، كانت منسوجةً ككنزةٍ حبكتها يدُ أمٍّ حريصة، وكان يقطرُ منها بقايا شتاءٍ ‏يحطُّ فوقَ التراب على صورة صكوكٍ من الوحلِ... هي آثار أقدام كانت هناك.‏

لحظات حتى انكشفت لهما ساحة كبيرة، تتوسَّطها دائرة من سيقان خضر، لم تتحلّق ‏هذه السيقان لتحمي أغصان غضّة، بل لتحمل فوّهات بنادق وجهتها الموت. سرعان ‏ما طوَّقت الصديقين من كلِّ صوب، نظر "محمد" في عيني صديقه وفي نيّته أن ‏يفتديه، فيساومهم على حياته مقابل أنْ يَدَعوا صديقه وشأنه. ربّما هي مساومة غير ‏عادلة، لكنّها خلاصة الوفاء في قلبٍ فدائيّ.‏

همس "محمد" في أذن صاحبه: "حين أخبرهم بما أحمله على ظهري لن يطلقوا النار ‏حتى أخلعها عن كتفي، فتكون أنتَ قد ابتعدتَ كثيرًا، ما رأيك؟".‏

عينا صاحبه في تلك اللحظة لم تكونا تحملان مشاوير الصّبا، ولا حاراتٍ لعبوا فيها ‏أعوامًا، لم تتبادلا معه قميصًا مشتركًا لأيام فقر وعوْز، لم تتقاسما رغيف خبز خرج ‏للتوّ من فم التنّور، حتى أنهما لم تعتذرا.‏

إيماءة واحدة من ضابط الفوّهات كانت كافية ليُبادر الصَّديق بخلع الحقيبة عن كتفي ‏‏"محمد"، ليكتشف أنَّ الحقيبه أمْسَت مجرَّد حقيقة مفخَّخة. طلب منه الضابط أن يجثو ‏على ركبتيه، وأن يضع يديه خلف رقبته، ليصير نصف شال أمِّه رايةً ترفرف، ‏ويصير هو دولةً يدور العالم حولها.‏

إنه صمت المذهول من أجوبة كان يخشاها، والمدرك لحقيقة أنَّ مَن على المقصلة لا ‏يبقى عنده الكثير ليُقال، وأنَّ العتاب لا يحيي قلوبًا مُباعة، ولا ضمائر مُستعارة.‏

تنهَّدَ صدره غلًّا... "آهٍ يا صديقي، لماذا؟".‏

تبتلع حدقتا عينيه كلّ ما حوله، كأنه ينهب بعض الحياة نهبًا، يا الله كلّ هذه الغربة ‏والبيت في الجوار! أعزل من الأهل والرفاق... ينظر حوله إنّما لا ينظر نحو البنادق، ‏ينظر في عيون قاتليه مبتسمًا، ثم يصوِّب ناظريه نحو صديقه قائلًا: ‏

‏"حين أسبل جفنيّ ستنكّس أنتَ جفنيك، وسوف تدفنني مرغمًا، إنَّما قُل لي أيّ قبر ‏سيكفيك لتموت ميتةً كاملة؟

من أيّ الجهات الأربع سوف تعود دوني إلى حارتنا يا صديقي، وقد صنعنا معًا جهةً ‏خامسة، كيف سترتق جلد وجهك المقدَّد وأنتَ في حضرة نواح أمّي التي طرَّزت ليلنا ‏بدعائها، وصدّت عنكَ جبروت يُتمك حين كان الحزن يُرديك؟ عُد من غيري يا ‏صاحبي، لكن إيّاك أن تعود إليها بنصف شالها، فقد يرتدّ إليها البصر فتعلم أنّ الذئب ‏بريء من دمي، آه يا صاحبي كيف تغدر بي وأنا من ضمّد لك جرحكَ بجلده ومات ‏عاريًا؟".‏

أدار "محمد" وجهه إلى الخلف فتذكّر اليافطة صاحبة الصّرير قائلًا:‏

‏"أخبر أمي بأنه لم يكن سوى يمين كاذب".‏