نايف السكران

 

قصة: دينا بدر علاء الدين

قاصة أردنية

 

 

 

أَبْتاعُ منهُ ورودًا، وابتسامتي الثَّمن، أَنتهزُ وقت ثمالتهِ؛ ليُغْدقَ عليّ الهدايا، يمسكُ وردة ‏من أَوراقها غير آبه باستغاثتها، يتمعّن فيها بعينيه السُّكْرَيَين؛ فيستتر بعضها على ‏بعض خجلًا، فيرفعُ رأَسه ضاحكًا دافعًا إِليّ شفتيه، وكأَنه لم يعجبه الثّمن، وكحالها ‏أَتلعثمُ ببعضي، وأَصيحُ أَين المفرّ؟ فتتبعني شفتاه؛ لينقذني النور، أَقفُ في بقعة ‏مضيئة، فيشيرُ إِليّ بإصبعه المرتجفة قائلًا: "في الداخل ورود لمّا تَرَيْها".‏

أَجمعُ شجاعة الفرسان، وأَتقدَّمُ فيظلّني بظلّه، وقبل أَن أَمتلكها يحاولُ سرقة ثمنها، ‏فأُودعه أَحضان كرسيّ مهترئ، فترتسمُ أَمامي لوحة بطلها أَراجوز يجثو على صوت ‏أَنغامي، فأَحملُ ما أُريدُ وأَتوارى قبل أَن يستفيق.‏

ويمضي يومان، فأَقفُ قبالتَهُ كنخلة تبحثُ عمَّن يستظلّ بظلِّها؛ ليُروّع الفضوليين، ‏أَعتلي حذاءً كحدّ السيف، وأَرتدي ثوبًا لا ثياب فيه، وأَقتربُ منهُ، فيرمي الطّرف، ثم ‏يُشيحه، فأَتحدّاه، وأَدنو، ولكنّه هذه المرَّة، لا يرضى عن القطع النقديّة بديلًا، فأدركُ ‏أَنّه يزدانُ بعقله، فأَشدّ الرّحيل، فيجذبني من ذراعي معلّلًا: "إنه السّجن"، والويلُ له إن ‏تأَخَّر عن موعد دفع النفقة، حينئذٍ، أَيّ ثمن بغير المال لن يحميَهُ من القيود والأَصفاد.‏

أَمضي بينما هو يسبحُ في غيمة من دخان، وبعد أَن أَخلعَ الدّجى وأَرتدي الشمس، ‏أَسمعهُ يهزأُ من قطّة على قِصَر ذيلها، فأدركُ أَنَّ الوقت قد حان، أَمشي الهوينا، ‏وأُباغته، فيهبني العيد كلّه، فأَترفَّعُ عن عطيّته بدلال، فيلحُّ دون إِجلال.‏

فأُبادره: "وماذا ستفعلُ في الأَصفاد؟".‏

‏"سأَتوسَّلُ إِلى القاضي بنظرة إِلى ميسرة"، فتهوي من يدهِ علبة سجائره مردفًا: ‏‏"وصلتني اليوم دفعة لا مثيل لها من الورود النادرة، كأَنها لؤلؤ عُلّق على فَنن".‏

يجذبُ وردة من خاصرتها، فتتأَوَّه أَوراقها، وتلوذُ بي؛ لأَرحمها من شوك يديهِ، ‏يناولني علبةً مرسومًا عليها وردة ترقص بدلال، فأسأله عن ماهيّتها، فيجيبُ: "إنّها ‏سماد العشرين".‏

فأَبدأُ أعومُ في بحر من الجنون.‏

‏-‏ أَتعتقدين أنَّ الفتيات فقط هنّ مَن يبحث عن أكسير الحياة؟ لقد أَضحَت الورود ‏يطلبن ودّي؛ لأَجل هذه العلبة.‏

أَضحك بجنون: "حتى الورود!". ‏

يدخل أَحد الزَّبائن فيبتاع ويدفع الثمن، أَهمس إلى نفسي: "حتى التجّار ينتهزون موسم ‏ثمالته!"، يُمسكُ الدنانير ويقبِّلها بشغف، ويناولنيها، فأطفئ الجمرة التي تحاول إشعال ‏ضميري، فإنَّ لبريق دنانيره لغةً تطغى على كل اللغات، أَخطفها وأَطير كالفراشة، ‏فيتبعني ساخطًا: "عودي أيتها الشيطانة"، ولكنني لا أُلبّي النِّداء إلّا بعد أَيام؛ لأَطلب ‏‏"سماد العشرين".‏

بحثتُ عنه، أَين ذهب؟ منذ لحظات كان ينادي "أُم حنّا" قائلًا: "يبدو أَنكِ ستعلنين ‏إِسلامكِ قريبًا، إِنكِ لا تفارقين الشيخة أُم أَحمد"، فتجيبهُ تلك: "إنّها تقرأُ عليّ القرآن ‏الكريم؛ إنني أَجدُ الراحة عند سماعه، وأَشعرُ بصداعي الذي يشبهكَ قد اختفى، إِلى ‏متى ستظلُ على هذه الحال، أَلا تخجل من نفسك؟".‏

فيُجيبها بنبرة ثملة: "لا بدّ من أَن يهديني الله في يوم من الأَيام".‏

إِنّه هناك... هو ذاك، مكبّلًا بالأَصفاد، لقد اقتادوهُ إِلى حيث مصيرهُ الورديّ، وعندما ‏توارى عن الأَنظار هممتُ بالمغادرة، فاستوقَفَني جاره: "إنَّ لي عليه مالًا، وأَخبَرَني ‏بأَنكِ مَن سيسدِّده".‏

صرختُ في وجهه: "بأَيّ صفة سأسدِّده أَيها المغفل؟".‏

ناوَلَني (فلاشة حاسوب) قائلًا: "لقد طلب منّي أَن أُسلّمكِ هذه، إنّ عليها الكثير من ‏الفيديوهات، استمتعي بمشاهدتها، وحدِّدي موعدًا؛ لفكّ ضائقتي وأَسرهِ"، ثمّ أَخرجَ ‏هاتفه من جيبهِ وَقَبَضَ عليه بحذرٍ وقال: "شاهدي هذا المقطع".‏

‏-‏ آااه يا إلهي! اللّعنة عليكما أنتما الاثنان، مَنْ الَّذي صوَّرني؟

ضحك بمجون: "إنّه التّصوير عن بُعد، ما رأيكِ ألستُ بارعًا في التّصوير؟".‏

سرتُ على غير هدى، فأمري سينفضح إن لم أدفع الثّمن، وفجأة استوقفني أحد الفتيان ‏طالبًا منّي أن أتوجّه إلى بيت الشيخة، فتملَّكتني نوبة من الجنون، وصرختُ دون أن ‏أعي ما أقول: "وماذا تريد الشيخة مني؟ هل تملكُ فيديوهات هي الأخرى؟ أم أنّها ‏كانت المخرج المساعد؟".‏

فَغَرَ الفتى فاه وأجابني ببرود: "لا يا سيّدتي، لقد كانت تدعو لكِ بالسّتر". ‏