اللامرئي..‏

 نص: محمد أبو رحمة

كاتب أردني

 

 

‏... إذنْ قبلَ أنْ تَقْرئي حَرْفَا مِمَّا أكتُبُ تأكَّدي من أنَّ أنْفَكِ يعْمَلُ، لأنَّ هذهِ على الأغْلبِ ‏هي فُرصَتي الأخيرةَ كي أكتُبَ لكِ، قبلَ أنْ يأْتُوا، ولأنّني لنْ أعْرِفَ بعدَ ذلكَ ما الّذي ‏سيحْدُثُ لِيْ.‏

على فِكْرَةٍ. كُنْتُ دائمًا أتَمنَّى أنْ أدخُلَ المُسْتَشْفَى، تلكَ واحدةٌ من رَغَبَاتي التي لم أبُحْ ‏لكِ بِها، طبعًا ليسَ من أجلِ أنْ تعْتَنيَ بي مُمرّضَةٌ جميلةٌ، كما فَسّر أحدُ أصْدِقائي ‏الخُبَثاءِ.‏

بل منْ أجلِ أنْ تَعْتَنِيَ بي أمّي…‏

ما علينا...‏

الساعةُ تَجَاوَزَتْ بكَثيرٍ مُنْتَصَفَ اللّيلِ، طبْعًا لستُ في وضْعٍ يسمحُ لي بِمُرَاقَبَةِ الفَجْرِ.‏

وأنا على أيِّ حالٍ أرى أنّ الفَجْرَ أسوأ وقتٍ تتقيّؤه الطبيعةُ على الإطلاقِ، لا لأنّي أكرهُ ‏أصواتَ العصافيرِ، تلكَ الكائناتِ ذاتِ الرؤوسِ الصغيرةِ التافهةِ، بل لأنّ الّليلَ انتهى.‏

ولأنّني منذ مدَّة قرّرْتُ أنْ أعيدَ تَعْرِيفَ كلِّ شيءٍ، عرَّفْتُ الليلَ بأنّه الوقتُ الذي ‏أخصّصُهُ لذاتِي مَعي، بِصمْتٍ مِثْلَ ماءٍ يسْبَحُ على زُجاجٍ، ولا أسْمَحُ حَتَّى لِعَقْرَبِ ‏الوقتِ المعتوهِ أنْ يخدِشَ تسرُّبه إلى رُوْحِي.‏

والّليلُ هو الوقتُ الّذِي تخْلَعُ فِيهِ الشَّوارِعُ مِعْطَفَ الضَّجِيْجِ كي تَدْخُلَ الفنَّ وَتَصِيرَ ‏لَوْحَةً.‏

والليلُ هو الوقتُ الذي كانت تلتئمُ فيه العَائلَةُ حَوْلَ بَطِّيخٍ وجُبْنٍ، قَبْلَ أنْ لمْ تَعُدْ تَلْتَئمُ ‏حَوْلَ شَيءٍ.‏

والليلُ هو الوَقْتُ الَّذِي رتَّبْتُ فيه أشياءَ رِحْلَتيَ المدرسيّةِ الأولى وصَحَوْتُ على كابوسِ ‏أنَّ الحَافِلةَ ذَهَبَتْ وتَرَكَتْني. لكم أحنُّ الآنَ لكلّ كوابيسي الصغيرةِ.‏

والليلُ هو الكتبُ التي قرأتُها وانبعثَتْ منْها رائحةُ "اللامرئي" ولمْ تتركْ أنْفيَ بَعْدَها.‏

والليلُ هو الوقتُ الذي قَضَيْتُهُ أمَامَ غُرْفَةِ الإنْعَاشِ بانْتِظَارِ مَوْتِ أبِي بَعدَ أنْ هرَّبْناهُ مِنْ ‏مُسْتَشْفَى يُلْقِي فِيْهِ المُمَرِّضُونَ الدَّوَاءَ فِي القِمَامَةِ، إلى مُسْتَشْفَى لَمْ يُبْقِ فِي جُيُوْبِنا ثَمَنَ ‏الكَفَنِ.‏

والليلُ الوقتُ الذي اكتشفتُ فيه أنّي أُحِبُّكِ، وحْدي على طريقٍ زراعيٍّ في الشتاءِ.‏

والليلُ الوقتُ الذي تخلّق فيهِ حُزْنِي، وَوُلِدتْ كآبَتِي…‏

‏…‏

والليل هو الوقت الذي اكتشفتُ فيه أنَّ أجْمَلَ مَا في بَيْتِ صديقي "بَلْكُوْنَةٌ"، فيْ رُكْنِهَا ‏مَوْقِدٌ مَهْجُورٌ وَعُوْدٌ مُحَطّمٌ؛ تُطِلُّ نَافِذَتُهَا العَرِيْضَةُ عَلَى أتُوسْتْرَادٍ يَقْطَعُهُ جِسْرُ مُشَاةٍ، ‏تَلِيْهِ بَرِّيَّةٌ، وَيُحَاذِيْهِ سَفْحُ جَبَلٍ.‏

كُنْتُ أجِدُ في تِلْكَ "البَلْكُوْنَةِ" المَكَانَ الأجْمَلَ فِيْ البَيْتِ كُلِّهِ، وأخْتَارُهَا لأقْضِي بَقيَّةَ لَيْلِي ‏عِنْدَمَا أُضْطَّرُّ لِلْمَبِيْتِ عِنْدَهُمْ، تَوَجَّهْتُ إليْهَا وَوَقَفْتُ عَلَى نَافِذَتِهَا العَرِيْضَةِ، كلُّ مَا ‏أَرَدْتُه تِلْكَ الّلْيْلَةَ أنْ أجْلِسَ عَلى تِلْكَ "البَلْكُوْنَةِ"، وأنْظُرُ إلى البَرِّيَّةِ، والسَّفْحِ والجِسْرِ، ‏والمَطَرِ.‏

أمّا الشِّتَاءُ فلَيْسَ وَقْتٌ وَلَا مَوْسِمٌ، بَلْ أبْجَدِيَّةٌ تَنْحَتُهَا الرِّيْحُ ويَغْسِلُهَا البَرْقُ…‏

وَقْتٌ يَتَقَطَّرُ فِي الغَيْمِ، فَيَهْطُلُ وَرَقًا عَلى النَّوَافِذِ المُشْرَعَةِ.‏

والشتاء مَعَاطِف تَعْبُرُ الأزِقَّةَ المَخْتُوْمَةَ بالضَّبَابِ كَيْ تَتَنَفَّسَ الصَّمْتَ فِي المَدِيْنَةِ ‏النَّائمَةِ.‏

والشِّتَاءُ رَكْوَةٌ عَلَى نَارِ العَزْفِ تَغْلِيْهَا الرِّيْحُ وَيَشْرَبُهَا الشَّجَرُ.‏

وامْرَأَةٌ تَتَرَجَّلُ عَنْ صَهْوَةِ البُرْكَانِ، مَا إنْ تَذْهَب حَتَّى تَصِيْرَ عَلى نَوَافِذِ القَلْبِ زُجَاجًا ‏مِن جَلِيْدٍ، وَوَرْدَةً تَمُطُّ قَامَتَهَا وتَنْظُرُ للدَّاخِلِ… الشِّتَاءُ.‏

ولِلشِّتَاءِ حَالاتٌ، تُحَدِّدُهَا لا حَالاتُ المنَاخِ فَقَطْ، بَلْ منَاخُ حَالَتِكْ.‏

المَطَرُ الأوَّلُ عَادَةً مَطَرٌ مُبَاغِتٌ، بَعْدَ أنْ يَكُوْنَ الشِّتَاءُ ألْمَحَ باقْتِرَابِهِ، مُرْسِلاً غُيُومًا ‏مُسْتَعْجِلَةً وبَعِيْدَةً عَلَى شَكْلِ رِيْحٍ تَذْرُو أوْرَاقَ الشَّجَرِ المُتَسَاقِطَةِ، وتُعَابِثُ النِّسَاء ‏العابرات على تأخُّر غير محسوب العواقب، في ازدحام الرّغبات المباغتة.‏

ما إنْ يَهْطُل حَتَّى يَكْتَشِفَ كُلُّ مَنْ هُمْ خَارجَ البُيُوتِ أنَّهُمْ أساؤُوا اخْتِيَاِرَ مَلابِسِهِمْ، ‏سَتَريْنَ أنَاسًا يَرْكُضُونَ، بَاعَةَ بَسْطَاتٍ يَفِرُّونَ، وامْرَأةً تُحَاوِلُ أنْ تَضُمَّ حَقِيْبَةً لِصَدْرِهَا ‏مُخْفِيَةً مَا شَفَّ عَنْهُ البَلَلُ تَحْتَ قَمِيْصِهَا الشّفَّافِ، وَتُوَزِّعُ شَعْرَهَا المَبْلُولَ على كَتِفَيْها ‏بَحَرَكَاتٍ تَجْهَدُ أنْ تَبْدُو عَفْويَّةً.‏

الشَّعْرُ المَبْلُولُ، وَرَائِحَةُ التُّرَابِ فِي البَرِّيَّةِ أجْمَلُ مَا فِي هَذَا النَّوعِ مِنَ المَطَرِ، وَمَا دُوْنَ ‏ذَلِكَ فَهْوَ مَطَرٌ يَصْلُحُ لِلفِرَارِ، لاْ لِلتَّمَشِّي.‏

أمَّا مَطَرُ الأْربَعِيْنِيَّةِ فَأَوَانُ الاحْتِمَاءِ بِدِفْئِكْ، عَرَفْتُ ذَلِكَ يَوْمَ اكْتَشَفْتُ أنَّ الدِّفءَ أهَمّ مِنَ ‏التّدْخِيْنِ.‏

ومَا مِنْ طَرِيْقَةٍ اخْتَلَقَتْهَا قَرِيْحَةُ قَلْبِي المُرْتَعِشِ بَرْدًا إلَّا مُحَاكَاةً يَائِسَةً لِدِفءِ صَدْرِكِ ‏المُفْتَقَدِ، وَلَهِيْب أنْفَاسِكِ عَلَى وَجْهِي وَأَصَابِعِي وهْيَ تُهَدِّئُ رَوْعَ قَلْبِي المُرْتَعِشِ بَرْدًا، ‏فَتُرْجِعُهُ لا عَلَى شَكْلِ قَلْبٍ، بَلْ عَلَى شَكْلِ طِفْلٍ كَانَ مَرْعُوْبًا واطْمَأنَّ.‏

رُبمَّا يَنْبَغِي أنْ تَكُونِي شاعرًا كَيْ تَعْرِفِي مَأْسَاةَ قَلْبٍ بَلَّلتْهُ أَمْطَارُ الأرْبَعِيْنِيَّةِ وَلَمْ يَسْتَعِدْ ‏دِفْئهُ فِي حُضْنِ امْرَأةٍ أحَبَّهَا حَقًّا.‏

أمّا مَطَرُ التَّمشِّي لْيلًا فَمَطَرُ الأَوَاخِرِ، أواخِرِ الشّتَاءِ، حينَ يبْدأُ جَمْعَ أجوائِهِ في حَقَائبِ ‏الرِّيْحِ مُستَعدًّا للسّفَرِ، فينْفُض غُيُومَهُ على شكْلِ مَطَرٍ خَفِيْفٍ، هو إلى الرَّذَاذِ أقْرَبُ.‏

الشِّتَاء لا يَحْمِلُ في حَقَائبِهِ شَيْئًا مُبْتَلًّا حتى لو كان علاقة حبّ، أو وردًا مخذولًا أو ‏ديوان شعر.‏

وحدَه القابِعُ بينَ جدرانِ قبرٍ أو زِنْزانةٍ مَن يمكن ألَّا يكوْن في الشَّارِعِ عِنْدَمَا يَمْزِجُ ‏مَطَرُ الأَوَاخِرِ أكسِيرَ اللْيلِ بأْضْوَاءِ السَّيَارَاتِ العَابِرةِ في مَدِينةٍ عَلَى مَشَارِفِ النُّعَاسِ.‏

أمّاَ الثَّلجُ، فلأنَّ الشِّتَاءَ يُحِبُّ كَبَعْضِ البَشَرِ أنْ يَتَمَرّغَ في حَضِيضِ التفاهة؛ يلوّثُ ألْوَانَ ‏الكَونِ بالأَبْيَضْ، وَيُشَوِّهُ التَضَاريْسَ بِلَعْنَةِ الشَّبَهِ.‏

أيُّ مَعْنَىً في أنْ يَبْدُو كلُّ شَيءٍ كَسِوَاه؟

لكنَّ أجمل ما في الثلج هَطْلُهُ، ستحضين بمَشْهَدٍ تُرَاوِغُ العَصَافِيْرُ فِيهِ رِيشَ القَمَرِ قَبْلَ ‏أنْ يَحُلَّ اللّيْلُ فتُضِيْؤهُ فَوَانِيسُ الشَّوَارِعِ.‏

‏(والثَّلْجُ مَأْزِقٌ لمْ أَعْتَدْ أنْ أوَاجِهَهُ وَحْدِي، عَلى أيِّ كَفّينِ من ضَوءٍ حميمٍ سأطْوي ‏راحَتَيّ)؟؟

‏… … …‏

كنتُ متّكِئًا على رُخَامِ نافِذَة البَلكُونةِ العَريْضَةِ عنْدَمَا عَادَتْ بالقَهْوَةِ، وَضَعَتْهَا جَانِبًا ‏وَتَسَلَّلَتْ بَيْنِي وَبَيْنَ الجِدَارِ، صَارَ وَجْهِي لِوَجْهِهَا مُبَاشَرَةً، لِلمَرَّةِ الأولى تَتَسَرَّبُ أنْفَاسُهَا ‏أسْفَلَ أذُنِي ورَقْبَتِي، ثمّ دَخَلَتْ في مِعْطَفِي، حتّى احْتَويْتُهَا واتّكَأْتُ بِوجْهِي على رَأْسِهَا، ‏بَدَا لِي أنَّهَا سَتَبْكِي، نَظَرْتُ في عَيْنَيْهَا.‏

‏-‏ ألا تُرِيْدُ أنْ تَشْرَبَ القَهْوَةَ؟.‏

سَأَلَتْ.‏

وَقَالَتْ:‏

‏-‏ سَتَبْرُدْ.‏

قَبّلْتُهَا، غَرَسْتُ أَصَابِعِي في شَعْرِهَا وَضَمَمْتُهَا، شَعَرْتُ كما لو أنَّها دَخَلَتْ في أَضْلُعِي.‏

كان لِقُبْلَتِهَا مَذَاقٌ شَعَرْتُهُ يَسْرِيْ في جَسَدِي، فارتَعَشْتُ كارتِعَاشَةِ الذّئبِ في البَريَّةِ.‏

‏"من فَمِك أُرِيدُ أنْ أشْرَبَ القَهْوَةَ… أريدُهَا منْ فَمِك"، قلتُ.‏

ألصَقَتْ رأسَها برقْبَتِي، حَمَلتُهَا واتَّجهْتُ إلى حيثُ القهْوةِ، أجلستُها في حضني، تَنَاوَلَتِ ‏الفِنْجانَ وقرَّبْتْهُ من فَمِي، أَعَدتُهُ إلى فَمِها ارتَشَفَتْ منْهُ، وأسْقَتْني الرّشْفَةَ...‏

اتَّكأتْ بِجَبِيْنِهَا على جَبِيْنِي شَعَرْتُ بِدُمُوْعِهَا تَسْقُطُ على وَجْهِي، أبْتعَدْتُ كَي أتَأكَّدَ إذا ما ‏كَانَتْ تَبْكِي فِعْلًا؟ لحْظَتَهَا الْقَتْ رَأْسَهَا على كَتِفي وأجْهشَتْ بالبُكَاءِ.‏

للْوَهْلَةِ الأوْلَىْ لَمْ أفْهَمْ سَبَبَ بُكَائهَا تِلْكَ اللّحْظَةِ، ولا تَوْقيتَه، كما لم أسألْ:‏

‏-‏ ومن يفهم المرأة؟

إذْ لم تكن بعد قد صارت في نظري امرأة، بل حبيبتي الراهنة النابضة الخصوصيّة، ‏الناجية بمعجزة من قصف الأزمات بعد أن أكّد كل شهود العيان أنَّ وقتًا مرَّ على ‏الصمت المطبق تحت ركام العائلة وما من أمل في نجاة أحد.‏

وما عليَّ كعاشق سوى الإصغاء باهتمام لنشيج أنوثة تريد مَن يستجيب لرجع الصدى، ‏ولو كان جرّة فخّار.‏

لكن كل ما تبادلناه خلال الليل من ثرثرات، بدا كما لو أنه هروب من موضوع ظلَّ ‏معلقًا هناك قرب المدفأة المهجورة والعود المحطَّم…‏

ضممت رأسها إلى صدري حتى جفّت دموعها، وحين نهضت وجلست على الكرسي ‏المقابل أشعلتُ سيجارة وناولتُها لها، ثم عدتُ لأقف على النافذة، كان المطر قد تحوّل ‏إلى زوابع ماطرة، وخلت الشوارع تمامًا، إلا ممّا يرسمه الضوء على الإسفلت من ‏بِرَك ضحلة تُعيد الريحُ رسمَها.‏

الضوء لا يجعل المطر ماءً مضيئًا، إنَّما يجعله ظلامًا ممزوجًا بخفّة الماء، خلفيَّته ‏البريّة الغارقة في العتمة، وعامل الحراك فيه ضوء سيّارة مسرعة وظلالها تبتعد في ‏الرّذاذ.‏

وكانت ما تزال تجلس هناك متكوِّرة في الضوء الخافت كقطّة.‏

‏-‏ إلى أيّ حدّ تحبّني؟

سألَتْني… وأجبت:‏

‏-‏ لا أعرف.. لا أعرف إلى أيّ حدّ أحبّك.‏

محمد أبو رحمة

جميع الحقوق لا يمكن حفظها