الذات/ الوجود في شعر عرار ‏(مصطفى وهبي التل)‏

د. محمد محاسنة

كاتب وشاعر أردني

 

 

الوُجودُ حقيقةٌ فيزيائيّة يمكن للذات إعادة إنتاجها –فنيًّا- وفق رؤيتها وفلسفتها وموقفها ‏من الذات والوجود، وإذا كان الأديب منفعلًا/ متفاعلًا مع بيئته الداخلّية والخارجيّة، فلا ‏شكَّ أنَّ هذا الانفعال/ التفاعل سينعكس على ذاته –المعجميّة- فنيًّا في أدبه، ووجوديًّا ‏في حياته. والنّاظر في شعر عرار يجد تجليات حالتي التفاعل والانفعال واضحة في ‏شعره الوجداني أو الاجتماعي السياسي.‏

 

تُعدُّ الذات(1) واحدة من أهم المحمولات النصيّة التي تظهر في النص تكثيفًا أو تلاشيًا، ‏فالذات محور مهم في النص، بل إنها العنصر الأكثر بروزًا في النص، أو يجب أن ‏يكون، وتختزل الذات النصيّة الكثير من الدلالات اللغويّة والسياقيّة والمعرفيّة، وإذا ‏كان الناص يبثُّ الذات في النص وفق مستويات دلاليّة متعددة، ووفق مرجعيات ثقافية ‏متنوعة، فإنَّ على المتلقي أن يحاور النص وفق أفقه النقدي المعرفي، جاعلًا من ‏الرؤية منازل يحاور فيها النص، لينفذ إلى الذات ويجلّي حضورها/ غيابها وفق ‏منظومة نقدية معرفية تبدأ بالنص ولا تنتهي به.‏

ويُعدُّ الوجود(2) البنية الكلية الموازية للذات، كما أن العلاقة بينهما علاقة احتواء، ذلك ‏أنَّ الذات جزء من الوجود، لكنها هي القادرة على التعبير عنه وتكثيفه ليستجيب –‏لغويًّا- لآفاقها وتطلعاتها، منسجمًا في ذلك مع جوهر الذات وتجلياتها في الوجود ‏نفسه، فالوجود حقيقة فيزيائية يمكن للذات إعادة إنتاجها –فنيًّا- وفق رؤيتها وفلسفتها ‏وموقفها من الذات والوجود، أو من موقفها منهما معًا. ‏

وإن كان الأديب منفعلًا/ متفاعلًا مع بيئته الداخلية والخارجية، فلا شكَّ أنَّ هذا ‏الانفعال/ التفاعل سينعكس على ذاته –المعجمية- فنيًّا في أدبه، ووجوديًّا في حياته، ‏والناظر في عرار نموذجًا يجد -جليًّا- حالتي التفاعل والانفعال في شعره الوجداني أو ‏الاجتماعي السياسي، فعرار شاعر اجتمعت عليه الظروف النفسية والاجتماعية التي ‏كفلت جعله نموذجًا في التمرُّد وللتمرُّد.‏

أولًا: الذات المنفعلة(3)‏

على اعتبار أنَّ الذات المنفعلة هي الذات التي تتعايش تعايشًا سلبيًّا مع الوجود حولها ‏لظروفها النفسيّة والمجتمعيّة، فإنَّ عرارًا ترك لنا في شعره الكثير ممّا يستشهد به على ‏انسحابه من المشهد -ولو كان انسحابًا مؤقتًا- معبِّرًا بذلك عن القطيعة الوجدانية بينه ‏وبين الوجود(4)، إذ يقول(5):‏

إنَّ في بُعد الفتى عن موطن 

موطني الأردن لكني به 

وبنفسي رحلة عن أرضه سامه الغوغاء إرهاقًا لربحُ 

كلما داويتُ جرحًا سال جرحُ 

علّه يشفي من الإرهاق نزحُ 

ويقول في موضع آخر(6):‏

قد قلوت القيل والقال وما 

ونذرت الصمت لما قيل لي ليس لي فيه غنى أو منه ربح 

إنَّ صوت الحق في الدنيا أبح 

وتطوَّرت اللحظة الانفعالية عند عرار، لتصل به إلى حالة من العبثيّة، إذ انكفأ على ‏نفسه وكأسه، متجاهلًا تعاليم الدين، وأعراف المجتمع، وبمقدار حرصه على كأسه ‏ولهوه، كان حريصًا على توثيق هذه اللحظات شعرًا، إذ يجد المطالع في ديوانه الكثير ‏من القصائد المحتفية بالخمر ومجالسه ونَدمانه، إذ يقول -عفا الله عنه-(7): ‏

بادرْ إلى اللذاتِ قبل فواتِ 

أما الوقار فلا تدع أبدًا له 

إني أخو طرب أعيش لـ أنتشي 

سكران قد صدقوا ورب محمد 

أسقى وأشربها وأعرف أنها 

لكنَّ فيها للأنام منافعًا وهلمَّ نهملُ فالزمانُ مؤات 

أثرًا، يعرقل ظله خطواتي 

علّ الزمان يدوخ من نشواتي 

إني أخو طرب أخو حانات 

رجس ومن عمل اللّعين العاتي 

قد تجمع الشملين بعد شتات 

لم تقف عبثيّة عرار على تغنّيه بالشرب ومجالسه، بل تعدَّت ذلك لتصطدم مع الخطاب ‏الديني مباشرة، متخذًا من "الشيخ عبود" رمزًا للسلطة الدينيّة التي يرى فيها قيودًا يجب ‏التخلص منها، إذ يقول(8):‏

وإذا فقيه القوم أسهب واعظًا 

وإذا مريدوه الأفاضل أسرفوا 

فاضرب به وبفقهه وبوعظه وبه اهتدى غيري فدعني أكفر 

بالقول: هذا ماجن مستهتر 

عرض الجدار فذا بذلك أجدر 

‏ ويقول في موضع آخر(9):‏

للشيخ عبود لا رثّتْ عمامته 

يا شيخ دعني من التقوى وآلتها وعظٌ أضيق به ذرعًا وجلاسي 

إني استعضت عن الأذكار بالكاس 

وظلَّ ينمو انفعال عرار حتى بلغ ذروته عندما واجه الموت، وأخذ يسخر منه، بل ‏تعدّى ذلك إلى عقد مقارنة بين فعل الموت وفعل المحيي على نحو يصوِّر عبثية ‏كبرى عند عرار مبعثها إحساسه الرَّهيب بوطأة الزمن، وإحساسه العميق بالعجز إزاء ‏الزمن وصروفه، وتُعدُّ قصيدته في رثاء ابن عمّه فؤاد التل خير شاهد على هذه ‏الذروة.‏

ثانيًا: الذات المتفاعلة

تصوِّر الذات المتفاعلة اللحظة الإيجابية التي تصوِّر بدروها حالة تصالح عرار مع ‏الوجود، ذلك أنَّ عرارًا لا شكّ يصدر عن رؤية فلسفية للذات والوجود بأركانه: الآخر ‏والله، وسرعان ما تنعكس هذه الرؤية الفلسفية فنًّا صرفًا.‏

طفحت الكثير من نصوص عرار بالإيجابية والإقبال على الحياة بغية تذليل عقباتها، ‏ساعيًا في ذلك إلى تحقيق الحياة الفضلى التي رسمها في ذهنه، ولعلّ التعبير عن حب ‏الوطن والشوق إليه أول مَعلم من معالم التفاعل، إذ يقول(10):‏

في مصر يا ناس أشياء محبَّبة 

لكن ذكراك يا وادي الشتا وهوى 

فوا حنيني لعطف الواردات على للنفس توشك أن تجتاح أنفاسي 

جآذر السير رأس الكوم في راسي 

ماء الموقر أو بئر ابن هرماس 

وإذا كانت الخمر في مرحلة الانفعال سببًا رئيسًا في بؤس الشاعر، وتعبيرًا جليًّا عن ‏انسحابه في الحياة، فقد عمد الشاعر نفسه إلى الكشف عن أبعادها النفسية الوجودية، إذ ‏تعبِّر عن حالة الصحو الذي ينشده، فهي العقل في زمن غياب العقل بالفعل أو بالقوّة، ‏إذ يقول(11):‏

أيها الشيخ الذي دستوره 

بعضهم يسكر للسكر وفي الناس إنّما الإفتاء: توجيه ونصح 

مَن يسكر يا شيخ ليصحو 

 

الغجر/ النور: ‏

المعادل الموضوعي والمجتمع المأمول

المدينة الفاضلة هاجس كل أديب فيلسوف، وإن اتَّفَقَت الذهنيّة الجمعيّة للأدباء وغيرهم ‏على ملامحها العامة، فإنَّ لكل إنسان مدينته الفاضلة الخاصة التي يستقل برسم ‏تفاصيلها، ويتفنَّن في انتقاء قاطنيها، وعرار صاحب نزعة فلسفية قويّة في تصوير ‏مدينته الفاضلة بتفاصيلها وبمواصفات إنسانها أو ما يجب أن يكون عليه.‏

وجد عرار في مجتمع النَّوَر ضالّته التي يبتغي، فقد وجده مجتمعًا متساويًا بالقوة أو ‏بالفعل، مجتمعًا يعيش بالفطرة الأولى للإنسان، لا مكان فيه للظلم أو الجور، فجرّد منه ‏رمزيّة عالية للإنسان المنشود والإنسانية المقصودة، متخذًا من "الهبر" معادلًا ‏موضوعيًّا للحرية وللإنسان الأصلح للعيش، في مقابل "الشيخ عبود" بما هو معادل ‏موضوعي للسلطة والقيود بكل أشكالها وإشكالها.‏

تُعدُّ قصيدة "بين الخرابيش" واحدة من أهم قصائد عرار التي بثَّ فيها تفاصيل فلسفته ‏وتصوُّراته للذات والوجود كما يحبّه عرار، فقد احتفت بالنَّوَر وتجربتهم في الحياة، ‏وتعاطيهم مع الحرية ومفرداتها، ومع الحياة ودقائقها، معلنًا من مضارب النَّوَر أنهم ‏الأجدر بالحياة، وأنَّ نظامهم اللانظامي -الحرية اللامسؤولة- هي النموذج الذي يجب ‏أن يُحتذى، لكي يعي الإنسان إنسانًا.‏

 

الهوامش:‏

‏(1)‏ في مصطلح ومفهوم الذات ينظر: المتقن، معجم المصطلحات اللغوية والأدبية الحديثة، سمير ‏حجازي، دار الراتب الجامعية، بيروت، د.ت، د.ط، ص209-210، المصطلحات المفاتيح ‏للخطاب، دومينيك مانغونو، ترجمة، محمد يحياتن، منشورات الاختلاف، الدار العربية للعلوم ‏ناشرون، الجزائر، 2008، ص123-124، المعجم الصوفي، عبدالمنعم الحنفي، دار الرشاد، ‏القاهرة، د.ت، د.ط، ص98.‏

‏(2)‏ في مصطلح ومفهوم الوجود ينظر: المعجم الصوفي، ص257، والمقالة التالية: ‏https://ar.wikipedia.org/wiki/%D9%88%D8%AC%D9%88%D8%AF

‏(3)‏ شغل مصطلح الانفعال حيزًا كبيرًا في الدراسات الأدبية، لاسيما التي أفادت من مقولات النظريات النفسية ‏في التحليل الأدبي، ولمزيد من التفاصيل حول الانفعال والأدب، ينظر: نقل الانفعالات في رواية ‏‏"أوليفرتويست" لـ"شارل دكينز"، ترجمة منير البعلبكي نموذجًا، عجو جمال الدين، جامعة الجزائر، ‏معهد الترجمة، رسالة ماجستير.‏

‏(4)‏ انظر: عرار وفلسفة الألم واللذة، محمد موسى العبسي، مجلة البيان، جامعة آل البيت، المجلد الثاني، ‏العدد الرابع، ص40.‏

‏(5)‏ انظر: عشيات وادي اليابس، مصطفى وهبي التل، تحقيق زياد الزعبي، منشورات وزارة الثقافة، عمّان، ‏الأردن، 2007، ص160.‏

‏(6)‏ انظر: عشيات وادي اليابس، ص490.‏

‏(7)‏ انظر: عشيات وادي اليابس، ص139.‏

‏(8)‏ انظر: عشيات وادي اليابس، ص205.‏

‏(9)‏ انظر: عشيات وادي اليابس، ص265.‏

‏(10)‏ انظر: عشيات وادي اليابس، ص258.‏

‏(11)‏ انظر: عشيات وادي اليابس، ص164.‏