المغامرة الجماليّة بين المراوغات ورهانات الكتابة ‏ في قصيدة ‏ "صباح الخير.. أصدقائي شعراء السّودان" لحميد سعيد‏

خيرة مباركي ‏

ناقدة وباحثة تونسيّة

 

 

هو النصّ الشعريّ الحديث بكلّ طاقاته اللغويّة التعبيريّة وقدرته على إنتاج المدلولات. خطاب مُثقل ‏بالرُّموز، فيه يقول الشّاعر وكأنّه يستعدّ للقول؛ ولحميد سعيد خصوصيّته الشّعريّة، وله رؤيته في الفن ‏واللّغة، كما له رؤيته للواقع والوجود، إنّه صاحب المراوغات الشعريّة أمام كثافة المعنى وتعنُّت اللغة، ‏وهو ما يمنح قوله أثرًا جماليًّا مخصوصًا، يمكن أن نميّز به أسلوبه وطرائقه في الكتابة، وهي في ‏مجملها تنشد التَّجريبَ، وتتوغّل فيه حدّ الهوس بالتّجاوز.‏

 

مَثَّلَت اللغة أرفع درجات التعبير عن الذات والموضوع، وقد توسّعت دائرة النّظر إليها لتتجاوز كونها ‏مجرّد قاموس للمفردات إلى اعتبارها مجالًا أشمل؛ هو جماع بين جملة من العلامات تتجاوز الألفاظ ‏إلى الإشارات والإيماءات، تنطق بصمتها وتسكت بكلامها، فتنشئ مداليلها الخاصّة. واللغة الشّعريّة ‏منتهى هذا التزاوج والجماع بين جلّ هذه العناصر التي تشكّل اللفظ وتحمّله بما تفيض به من معنى. ‏فالكلمة رسم وصوت وإشارة يؤدّي كل عنصر من عناصرها وظيفته فيها، فينجلي المعنى وتفيض به ‏الانزياحات وتتعدَّد الدّلالات. هو النص الشعري الحديث بكلّ طاقاته اللغويّة التعبيريّة وقدرته على ‏إنتاج المدلولات. خطاب مثقل بالرّموز، فيه يقول الشّاعر وكأنّه يستعد للقول. يراوغ، يتخفّى، يمارس ‏لعبته، فاللغة بكل ذلك ضرب من الرقص بالكلمات، كما يقول "بول فاليري" (‏Paul Valéry‏)، ونظام ‏من الأفعال لها هدفها في حدّ ذاته(1). وهو ما يقودنا إلى الإقرار بأنّ اللغة الشعريّة لغة ذاتيّة، كلٌّ ‏ينشئها بحسب تصوّره ورؤيته للفكرة وكيفيّة التعبير عنها وطرائقه في ذلك، وقد ذهب "جون كوهين" ‏‎(Jean Cohen)‎‏ هذا المذهب حين يعتبر أنَّ الشّاعر يُعرف "بقوله لا بتفكيره وإحساسه، فهو خالق ‏كلمات، وليس خالق أفكار، وعبقريّته كلّها تكمن في الإبداع اللفظي"(2)‏‎.‎‏ ‏

‏ ولحميد سعيد خصوصيّته الشّعريّة، وله رؤيته في الفن واللّغة، كما له رؤيته للواقع والوجود، إنّه ‏صاحب المراوغات الشعريّة أمام كثافة المعنى وتعنُّت اللغة، وهو ما يمنح قوله أثرًا جماليًّا مخصوصًا، ‏يمكن أن نميّز به أسلوبه وطرائقه في الكتابة، وهي في مجملها تنشد التَّجريبَ، وتتوغّل فيه حدّ الهوس ‏بالتّجاوز، ينشئ خطابه على غير نموذج وهو يتوخّى حيله الإبداعيّة بين مخاتلاته اللغويّة وألاعيبه ‏البصريّة ومشاكساتاه الأجناسيّة التي جعلت النّصّ نصوصًا، والنّسيج اللغويّ أصواتًا، وهو يتحفَّز ‏للفراغ والصمت ويجعله لغة أخرى مخالفة، وعلى القارئ أن يبتدعها ويعيد خلقها من جديد، رحّالة بين ‏حقيقة ومجاز. وبين واقع وخيال. يمارس لعبة التخفّي بين البياض والسّواد، فيجعل من النصّ فضاءه ‏الرّحب.‏

وبين أيدينا نموذج استوقفنا لِما يعجّ به من أصوات في لوحة بانوراميّة الألوان والأشكال الفنيّة، فينبعث ‏صوت الشاعر ومن صداه نقف على أصوات أخرى، كما يدوّي من وراء كل ذلك صوت قاص، يكسّر ‏أفق توقّع القارئ في كل مرّة يحاول أن يحدّد لهذا النسيج الفنّي صفةً. نصّ يزخر بالمشاعر ‏والأحاسيس، ولكنّه يضمر أكثر ممّا يصرّح، يوحي ولا يفصح عن حقيقته، مخادع ينبئ باستراتيجيّة ‏الشّعر الخاصّة فيربكنا ونحن نبحث عن أبعاده فيه وحقيقة الأصوات المنبعثة منه، وهذا في حدّ ذاته ‏مغامرة جماليّة قد لا تكون جديدة في لعبة التخفّي بين الحضور والغياب التي ألفناها في الشّعر العربي ‏الحديث، ولكن الطريف فيها لعبة التقمُّص في اللعبة نفسها، فإذا بنا نواجه ميتا-النص فنضطرّ لمشاركته ‏لعبة المخاتلة.‏

وأوَّل مظاهر المراوغة الفنيّة التي حلّقت بالنصّ وارتفعت به إلى فضاء رحب ما ظهر في العنوان ‏كعتبة ننفذ منها إلى المتن "الشّعري"، "صباح الخير.. أصدقائي شعراء السّودان"(*) انطوى على ‏جملتين مختزلتين جعلتاه ينفتح على بُعد خطابي، يتحدّد من خلالهما المُخاطَب (أصدقائي شعراء ‏السّودان)، وبه تنكشف العلاقة التي تربطه بهذا المخاطَب، وكذلك تميّزه من حيث الانتماء إلى فئة ‏الشّعراء، فضلًا عن إبراز الأصل الجغرافي والهويّة، بهذا تتوسّع دائرة المخاطَب التي تتجاوز حدود ‏الوطن، في ضرب من التعميم. قد يكون ذلك من ضروب الأمانة في نقل الواقع، فيوسّع دائرة الصّداقة ‏التي تمتدّ إلى السّودان، ويبدو أنَّ حميد سعيد قد رسم توجُّهه الخاص في أشعاره فجعلها منفتحة على فن ‏الترسُّل. ولعلّها تندرج ضمن سلسلة القصائد التي أفردها كإهداء للأصدقاء. وهنا، يمكن أن نستحضر ‏قصيدته "النهر" التي شفعها بإهداء إلى صديقه خيري العميدي، وفيها صوّر "المكان الذي يلهو فيه ‏الأصدقاء- النساء اللائي يأتين النّهر يملأن منه أواني الماء والليل وسفائنه..."(3). لكن ما يظهر لنا ‏أنَّ هذا الحضور للأصدقاء إنّما هو مصدر من مصادر الصّورة في شعر حميد سعيد، أو لعلّه شكل آخر ‏لشعر الإخوانيّات، هو من ضروب التناصّ الذي يستثمر فيه الشكل القديم ويجدّد فيه وفق رؤاه الخاصّة ‏ولا شيء أجمل من جدّة القديم. ‏

بهذا قد تكون استراتيجيّته في التَّعبير والتَّصوير، لاصطياد القارئ وإشراكه في لعبة القراءة، فيتحوّل ‏الخطاب إلى مجرّد قناع ومناورة فنيّة فيها إيهام بالتّعريف. فيفارق وظيفة الإيضاح واختزال المعنى في ‏المتن إلى وظيفة أخرى هي التَّمويه والمخاتلة. فيكشف عن غير ما يرغب ويريد من معانٍ ومقاصد. ‏بهذا الخطاب يمتزج الشعر بالنثر ويُوارى في أعطافه الترسّل ليؤجّج المشاعر ويثير الوجدان. وهو ما ‏ندركه في المتن الشّعري. كل ذلك قد يضعنا أمام ثنائيّة السردي والغنائي في هذا النسيج الفنّي، ‏فالسردي حاضر من خلال نظام القص الذي ينهض على الحدث والشخصيّة والفضاء المكاني والزماني ‏بكل عناصرهما المؤثّثة. ينطلق من وصف تفصيلي لعناصر هذا المشهد، يرسم من خلاله الفضاء ‏الزماني (الليل، المساء، السهرة) والمكاني (مكان عام: السودان/ مكان خاص: في ظلِّ شجرة التبلدي) ‏وكل من الإطارين يحتضن الشعراء، إضافة إلى الشخصيّات (عبدالله- حبيبة عبدالله السّمراء): ‏

‏"في ظلِّ تبلديّة حيث يظلُّ الشّعراء

‏ ينتظرون حضور النيلين.. لتكتمل السّهرة ‏

‏ يكتب عبدالله قصيدته ‏

‏ وعلى إيقاع السنط الأبيض.. ذات مساء ‏

‏ سيعلّمها لغة الماء".‏

بدا أسلوب الشّاعر في هذا القسم من النص أقرب إلى التّقريريّة والمباشرة التي وسمت الخطاب بميسم ‏قصصي حكائي، أطّر فيه الأحداث وجعلها تدور في فضاء خاصّ، اقترن باستحضار عنصر طبيعي، قد ‏يعلن عن خصوصيّة لا تخفى عن الشعر السوداني، وهي صورة شجرة التبلدي التي حضرت في أشعار ‏شعرائه حتّى باتت جزءًا من الموروث الشعبي. وقد اقترنت هذه الشجرة بالانتظار والحبيبة شأنها شأن ‏الليل كلاهما عنصر ثابت في الشعر والنّص:‏

‏"تمُرُّ حبيبة عبدالله السّمراءْ

‏ عاصفةٌ من أبنوسٍ وبخورٍ عربيٍّ وعطورٍ جامحةٍ..‏

‏ ونداءْ ‏

‏ يحترِقُ الصّندلُ في حنّاءِ يديْها ‏

‏ يلتفِتُ الشّعرُ إلى ليْلِ الكُحْلِ بعينيها".‏

وما يلفت الانتباه في هذا المقطع هذا التواتر لصيغة المضارع (تمرّ، يحترق، يلتفت) هي حاضر ساعة ‏ملفوظِه، سيّان هما في الوقت، مفتون بها وإنْ راوغ، امرأة تمرُّ كالطّيف، لا نسمع من هديرها إلّا لحن ‏نفسِه، وليس بعيدًا أن يكون عبدالله قناعه في احتفال تنكّري، كعرس أسطوريّ تنبعث منه رائحة ‏البخور، وتعبق من أنفاسها العطور، هو عبق الشرق وأحلام تقاوم ظلّها في قلب عبدالله. كلّ ما في أنثاه ‏قوّة ومواجهة، عاصفة وجموح، احتراق وليل بعينيها. لعلّها رمز للثورة وما اسمرارها إلا صورة ‏للأرض والجذور تنطلق جامحة، معربدة، تخضّب الحنّاء فيها من احتراق الصّندل، ينبثق مشهد النار ‏وما ترمز إليه من تطهير، وهذا من شأنه أن يجعل الصّورة الشعريّة متفجّرة تنطلق طيّعة ثم تعلن ‏عصيانها فتتمنّع عن الفهم والوضوح، وتجعلنا نبني الاحتمال على الاحتمال.‏

وفي المقابل يحضر الغنائي، وقد نتجاوز في ذلك ما حدّده منظّرو الشّعريّة الكلاسيكيّة وصولًا إلى ما ‏حدّده "جينيت" (‏Gérard Genette‏) ومصطلح جامع النّص. و"بارت" (‏Roland Barthes‏) في ‏مفهوم الكتابة. وهذا يمكن أن ندركه من خلال نظام علامي تصريفي للضّمائر في الخطاب، وهو نظام ‏حاصل في استخدام ضمير المتكلّم الذي هيمن في الجزء الثاني من النّص، وما حضور الضمير الغائب ‏في بدايته إلا ضرب من المخاتلة أقامها الشّاعر بصلات حواريّة خفيّة بين صوت "الأنا" وبقيّة الضمائر ‏الأخرى، وفيها تتكشّف الصّلة بين الباث والمتلقّي،الذي تحوّل من متلقّ معلوم؛ وهم الأصدقاء، إلى ‏متلقّ جديد حضوره في السّياق النصّي بمثابة الولادة الاضطراريّة؛ هي الأنثى الحاضرة- الغائبة، ومن ‏خلالها يشحن النص بالمشاعر والأحاسيس المتولّدة عن خطاب الشّاعر وهو خطاب انفعالي، ممّا يخلق ‏فيه الوظيفة التّأثيريّة، ويجعله يتجاوز حدود السّرديّة والغنائيّة إلى اللاّ جنس، كل ما ندركه منه هو أنّه ‏ملفوظ ومضمون يمتاز بالتكثيف والإيجاز تصدر عن الـ"أنا المبأر" ‏Focalise‏ ويبني عبره نصًّا ‏حداثيًّا ينهض على مقوّمات تذوب فيها الحدود بين الأجناس، يكون فيه السّردي نسيجًا من أنسجته ‏المتنوّعة بين تقنيات التبئير والتفضئة، فتتسلّل بذلك الحكاية ويستضيف فيها التراث في ظلِّ بانوراما ‏التنوُّع. بهذا لا تخفى على القارئ لعبة الشّاعر في خطابه المخاتل، الذي يتحوّل فيه كامل النص إلى ‏كيان أشبه بصورة استعاريّة كبرى ذات فاعليّة مؤثّرة، هي "تمثيل للإحساس"(4). لعلّه ضرب من ‏التقمُّص الرؤيوي الذي يستعير فيه الشّاعر عيني الواصف ويرسم المشهد برؤاه الخاصّة. ‏

‏ ويتحوَّل بعد كل ذلك إلى وصف تعبيري انفعالي يلج فيه إلى أعماق المستعار منه ويتقمّص دوره ‏العاطفي، فيكون بذلك ذا رؤية من خلف ‏‎(Vision par derriére)‎، ندرك عبرها معرفته بجملة ‏الحركات النفسيّة، الشعوريّة والعاطفيّة، فيتحوَّل معه السياق الشعري إلى خطاب تأثيري مباشر يجعله ‏يأخذ على عاتقه الدور كاملًا. وهو ما يجعله خطاب مكاشفة ولكّنه يبطن الكثير من البوح:‏

‏ "سيحبُّكِ عبدالله بعيدًا عنكِ..‏

‏ هو الحبُّ ‏

‏ اقتربي من جمرِ قصائدِهِ ‏

‏ وابتعدي عنهُ..‏

‏ يخْشى عليكِ من الشِّعْرِ ‏

‏ فابتعدي عنهُ..‏

‏ يخْشَى علَى الشِّعْرِ منكِ".‏

هو تقمُّص يصل حدّ الانصهار والتماهي مع الآخر عن طريق التداعي، يجعل الذات الشّاعرة تنوب ‏عن عبدالله فيبوح للحبيبة بكل معاني الوله التي سعى إلى إخفائها عبر اللغة، ولكنّه في لحظة من ‏لحظات البوح، يثوب إلى الشّعر فيستعيض عن اللّغة بالصّمت ويحوِّل السواد إلى بياض في نقاط ‏متتالية تمتدّ لتشغل سطرين، ولكنَّ هذا الصّمت لم يعُد "الهواء الذي يتنفسه النصّ كما ذهب إلى ذلك ‏بول كلوديل (‏Paul Claudel‏)"(5)، وإنّما هو سكوت وهروب عن المعنى الحقيقي، فتكون لعبة ‏البياض والسّواد "مجالًا يقلّص من إمكانات التعبير واندفاعات الكلام"(6). فيستحيل به المسكوت عنه ‏بُنًى صامتة تنتظر قارئًا جريئًا يفجّر ثوابت الخطاب فيملأ الفراغ ويسائل المعنى. وهذا من شأنه أن ‏يكشف مراوغات الشاعر مرَّة أخرى التي تتجاوز حدود التمظهر البصري إلى مستوى الصّورة ‏الشّعريّة، وهو ما يظهر أساسًا في طرائق توليف المعنى، قد تبدو هذه الصّور في مستوى تشكيلها ‏بسيطة في ظاهرها، لكنّها تدعو إلى التفكّر والولوج إلى أعماق المسكوت عنه في الخطاب، وأول ‏مظاهر ذلك في أسلوب الإنشاء من خلال عمل الأمر الذي يخرج عن معناه البلاغي الأصلي ليفيد معنى ‏التحذير في أسلوب الترغيب والترهيب الذي انتهجه في مخاطبة الأنثى، وهو تحذير يبطن عكس ما ‏يظهر، وهنا يقرّ بقوّة تأثير هذه الأنثى على الشّاعر والشّعر، وخاصّة حين يرتبط الشّعر بالجمر والنّار ‏وهذا يعني أنها أنثى فوق العادة، كلّها قرائن تدلّ على أنّ شاعرنا يتقن فنّ المخاتلة، ومهما تكن واقعيّة ‏عبدالله وانغراسه في الأرض والتاريخ فهو ليس سوى قناع وعلامة فارقة يتحوّل معه الخطاب من ‏التقريريّة والمباشرة إلى التخييل والتمثيل فيخلق بخياله هذا المشهد الدرامي. ‏

 

‏* الهوامش:‏

‏(*) قصيدة لم تُنشر في ديوان بعد.‏

‏(1) جيرار جينيت (‏G. Genette‏)، حالة مزدوجة للكلمات، فاليري وشعريّة اللغة، تعريب مالك ‏سلمان، مجلة "كتابات معاصرة"، المجلّد الخامس، العدد الثامن عشر، أيار/ حزيران1993، ص36.‏

‏(2) ‏Jean Cohen, Structure du langage poétique, Paris, Flammarion,1966, p41.‎

‏(3) رشيد هارون، مصادر الصّورة في شعر حميد سعيد، عمّان، الأردن، فضاءات للنشر والتوزيع ‏والطباعة، 2010، ص26.‏

 

‏(4) رينيه ويليك، نظريّة الأدب، أوستين وارين، ت.محي الدين صبحي، ص241.‏

‏(5) رضا بن حميد، الخطاب الشعري الحديث: من اللغوي إلى التشكّل البصري، مجلّة "الحياة ‏الثقافيّة"، عدد مزدوج69-70، 1995، ص16.‏

‏(6) المرجع نفسه.‏