القَدَر بين الملحمة والرِّواية ‏"كي أرى كلَّ ما خسرته"‏

فدوى العبود

كاتبة سورية

 

 

يبدأ "القدر" من سوء تفاهم، أو بمعنى أدق يكشف عن نفسه في تلك اللحظة. تُحاك خيوطه من صدفة، من ‏ارتباك زمنيّ، واختلال وجوديّ. يُحاكُ بنيانه بيَدِ "بنيلوب" التي تنقض كل ما تغزله الأوهام، فلا سفينة نوح ‏لِتُنجيَ منه ولا ملاذ. مُثِّل في الأساطير اليونانيّة بآلهة عمياء، وفي الثقافات المختلفة شُبِّه بالحد القاطع؛ ‏وتُركت له الكلمة الأخيرة. إنّه البطل الرَّئيس في الملحَمة الإنسانيّة يومَ كانت الآلهة تمشي بين البشر وتُغيّر ‏الأقدار لأجلهم.‏

 

‏"أوديسيوس في ذلك البحر اللُجّيّ يَذرعه، موجة تلبسه وموجة تخلعه، لا يعرف لمملكته ساحلًا فيرسو عليه، ‏ولا شاطئًا فيقصد إليه". ‏

‏(الأوديسة)‏

‏***‏

‏"- لقد كنتُ أنا مَن سرق زهرة الخلود، وليس الأفعى!‏

‏-‏ وأكلتَها؟

‏ (نعم)‏

‏-‏ أنتَ خالد إذن!".‏

‏(شمس بيضاء باردة)‏

‏***‏

تَسْتَلْهِمُ بعض الرِّوايات الحديثة بنيانها وأسئلتها من الأسطورة، وهي أسئلة مصيريّة لكن بنهايات مفتوحة، ‏تحتِّمها الفوارق بين طفولة الروح البشرية في الملحمة وبين نضج المعرفة في العالم الحديث! فالعالم ليس ‏سحريًّا والشمس مجرَّد كوكب مُلتَهِب، ولم يعُد درب التبّانة ممرًّا للآلهة (صار غبارًا ونثارة كواكب) ‏باختصار "فهم الإنسان اللعبة". ‏

في تقاطعات وتباينات تبدو "دروز بلغراد" لربيع جابر ورواية "شمس بيضاء باردة" لكفى الزعبي، ‏معمّدتان بماء الأسطورة، تعيد الأولى رحلة أوديسيوس وتطرح الثانية هواجس الجنس البشري ممثلة بأسئلة ‏جلجامش. ‏

تبدأ "دروز بلغراد" من حادثة النَّفي والسَّبب هو الحرب. لكن رحلة "حنا يعقوب" القسريّة تختلف عن رحلة ‏أوديسيوس. ففي حين تبدأ حرب طروادة بقرار أوديسيوس الانتقام من الرجل الذي خان أمانة مضيفه، ‏وسرق كنوزه وزوجته، فإنَّ الحرب في "دروز بلغراد" تبعث على الخزي، ويجلّلها العار، إنّها اقتتال ‏الأخوة، وأبناء المكان الواحد، وهي ليست مبعث فخر الرجال. فالشرف الذي كانت تُثار لأجله الحروب في ‏زمن الأسطورة انتهى، وهي تخفي الآن تحت رمادها وضاعة أصلها ومنشأها. ‏

نتيجة سوء فهم -على ظهر سفينة ومع مجموعة رجال أمرت السلطنة العثمانية بنفيهم- يجد "حنا يعقوب" ‏نفسه مربوطًا بسلاسل في قدميه ويعاني من دوار البحر.‏

وعلى العكس منه، يخوض أوديسيوس اليوناني غمار البحر متحديًا الموت. ترافقه الآلهة "منيرفا" التي ‏تتحوّل إلى طير لمساعدته، كما تمنحه الآلهة "أينو" ابنة "قدموس" زنّارًا من حرير "خُذ، لفّه تحت صدرك، ‏فإنّه يجعلك بمأمنٍ من الموت". ما يثير دهشة إله البحار "نبتون" وهو يرى حب الآلهة اللامحدود ‏لأوديسيوس فيقول: "وي، أو قد تبدّل مقادير الآلهة إذن، وتحرّكت فيهم عواطف الحنان!".‏

لم تحرّك الآلهة ساكنًا إزاء محنة بائع البيض "حنا يعقوب"، وبينما يبدو أوديسيوس متحكّمًا بقدره وسط ‏البحر، فإنَّ "حنّا يعقوب" يُقادُ مربوطًا بالسلاسل، وقد تسلّخ بين فخذيه، وبكت عليه وعلى رفاقه النسوة في ‏القرى التي مروّا فيها. ضاع في جبال تتكرّر غاباتها مثل كابوس قديم، وحُبس في الهرسك.‏

قضى نصف رفاقه بالإسهال والحمّى وضربات الشمس. كسروا الصخور، رمّموا جسورًا على نهر "درينا"، ‏قشّروا مداساتهم عن أقدامهم المهترئة. وفتك بهم مخلب الهواء الأصفر (الكوليرا). ‏

بينما كان أوديسيوس يحارب الوحوش والتنانين، فإنَّ "حنّا يعقوب" احتمى بقن دجاج، لقد كان أوديسيوس ‏خطيبًا مفوّهًا يأسر مستمعيه بعباراته الرنّانة، لكن "حنا يعقوب" عرضة لسوء الفهم. وفي هذا الحوار أبلغ ‏دلالة.‏

‏ (- أنا حنا يعقوب، مسيحي من بيروت، بيتي على حائط كنيسة مار الياس الكاثوليك.‏

التَفَتَ القنصل، ونظر من فوق كتفه؛ وسأل الترجمان: ماذا يقول السجين؟

أجابه الترجمان بفرنسيّة ممتازة وبلا تردُّد: يقول: أنا قتلت حنّا يعقوب، مسيحي من بيروت، بيته على حائط ‏كنيسة مار الياس الكاثوليك). ‏

في سياق آخر، تبدأ محنة "راعي" بطل "شمس بيضاء باردة" من أرض أشد جدبًا وملوحة (أرض الوهم)؛ ‏‏"راعي" هو مزيج من أنكيدو وجلجامش معًا، يدخل للمدينة واثقًا بعدالة المعرفة والحياة، واثقًا بحتميّة ‏الانتصار للذكاء. قبل أن تسحبه تيّارات البلادة نحو أعماق الأسى، يعيش وهم الخلود والفرادة مقتفيًا آثار ‏جلجامش وصديقه اللذين اعتقدا أنّهما خُلقا لغايات عظيمة، وهو ذاته وهم "راعي" الذي يسأل: "مَن أنا؟ ما ‏أنا؟".‏

لغة "راعي" مغمّسة بقطران الشك، غاضبة، عدميّة، عاتِبة. لقد قرأ ليكون مختلفًا، وهو لا يكفّ عن نحتِ ‏خلوده الخاص؛ من خلال المعرفة لا الأعشاب ليَهبَ لحياته معنى.‏

‏ يسأل "راعي" نفسه: "من أين جاءتني تلك الثقة بأنني سأنتصر على القدر في هذا التحدّي".‏

هذا السؤال لم يخطر ببال جلجامش أو أنكيدو، فالآلهة كانت في صفّهما، وكان العالم رحبًا. لكن "راعي"، ‏يجد ظهره عاريًا أمام مخلب القدر. لقد فقد العالم وضوحه، فالكون مسرحيّة، وفي لحظة الذروة يكشف القدر ‏عن مآربه. والرواية الآن بلغت حكمتها، ورأت أنَّ من واجبها إزالة سوء التفاهم لتحرير الإنسان من تفاؤله ‏الساذج وثقته العمياء بالعدالة؟ ‏

انتهى "راعي" إلى الجنون، متخيّلًا نفسه بائعًا من بابل يخدع جلجامش ويسرق منه عشبة الخلود، وكاتبًا ‏عظيمًا يؤلف رواياته في الحمّام. أمّا "حنّا يعقوب" فقد ضيَّع صوته. ‏

‏ (يسأل باشا إحدى المقاطعات:‏

‏"أين بارودتك؟؟ أين القروش التي قبضتَها؟ من أيّ فرقة هربت؟ ‏

هل تريد أن تقول شيئًا؟ ‏

‏"اسمي حنا يعقوب. كنتُ أبيع بيضًا في ميناء بيروت. الجنود ضربوني على فمي وكسروا أسناني ونفوني ‏بالباخرة إلى بلغراد بدلًا من سجين درزي. أنا مسيحي ولا أخدم في جيش السلطان، ولم أحمل في حياتي ‏بارودة، عندي بنت صغيرة. أبوس رجلك يا باشا لا تقطع يدي من أجل البيضة. كنتُ أموت جوعًا".‏

‏-‏ أنتَ أخرس إذًا؟

انتبه حنّا عندئذٍ أنه يتكلم في رأسه بلا صوت وأنّ أحدًا لم يسمع كلامه).‏

زمن أوديسيوس ساكن، وزوجته بنيلوب تغزل وتنقض، بينما زمن حنّا قاسٍ ومتغيِّر والسنوات كالجثث ‏يحملها على ظهره. ‏

يعود أوديسيوس إلى زوجته شابًا دون أيّ إشارة لمرور الزمن عليه. ويرجع "حنا يعقوب" أخرسًا وأعرجًا، ‏بأسنان مكسَّرة وروح متآكلة. وهو يعتقد أنّ "بربارة" الشابة التي تغزل الصوف هي "هيلانة" كما تركها قبل ‏‏16 عامًا، لكنها لم تكن سوى ابنته التي تركها رضيعة. ‏

إنَّ المسألة مسألة تفاهمات، وعلى الرِّواية إزالة الالتباس؛ فالعلاقة بين الإنسان وقدره عبارة عن نزاع ‏متواصل، باختصار: "ينشد شيئًا فيجدُ شيئًا آخر".‏

‏(القدر، الزمن، اللغة، الحقيقة).‏

الإجابات هنا تترك مرارة في الفم، والوهم هو البطل، يسأل "راعي" العجوزَ: "هل تعرف كيف يصطاد ‏الوهم ضحاياه؟" يجيب العجوز: "بالنقيّفة". ‏

ثم نادى الرجل العقرب جلجامش: ما الذي حملكَ على هذا السفر البعيد؟ ‏

‏-‏ جئتُ لأسأل عن لغز الحياة والموت.‏

‏ ففتح الرجل العقرب فاه وقال مخاطبًا جلجامش: لم يستطع أحد من قبل أن يفعل ذلك يا جلجامش. من ‏سخرية القدر أنه يمنحنا إشارات لا نقدر على فكِّ رموزها إلا في اللّحظة الأخيرة.‏

‏-‏ لماذا؟

‏-‏ كي أرى بعنييّ الاثنتين كلَّ ما خسرته.‏