علي شنينات
كاتب وشاعر أردني
يمتلك الروائي مخلد بركات قاموسًا ثريًّا، خاصًا به، من الميثولوجيات، وبخاصة الميثولوجيا الشعبيّة، والتي -في الغالب- ينطلق من خلالها في بناء النصّ السردي، وهو يمتلك القدرة على جعل هذه الميثولوجيا تتماهى مع البناء الروائي، ولا تشكّل نشازًا أو عائقًا أمام حداثة النصّ اللغوي والموضوعي، لكنَّ اللغة العالية في رواية "ماندالا" والدلالات التأويليّة التي ينهل منها الكاتب تُبرز سؤالًا مهمًّا: هل رواية "ماندالا" رواية نخبويّة يوجَّهها الكاتب للنّخبة من القرّاء؟
على مرّ العصور القديمة والحديثة، استلهم الإنسان ثقافته من خلال تبنّي مجموعة من الأفكار والمعتقدات التي يراها صحيحة وصوابًا، وتتماشى مع ظروف حياته وبيئته التي يعيش فيها، ولذلك ظهرت لكلّ أمّةٍ من الأمم معتقدات وأساطير وميثولوجيا تختصّ بها وتميّزها عن الأمم الأخرى. وتختلف هذه الميثولوجيا عن بعضها بعضًا من خلال دلالاتها وما ترمز إليه، وأحيانًا تكون دلالات فلسفيّة عميقة تعكس تجارب الإنسان وخبرته وقدراته، وتكون مرتبطة بشخصيات أو حيوانات أو نباتات، وأحيانًا بمخلوقات غريبة وخياليّة، ومن هنا ظهرت الأساطير الإغريقية والرومانية وأساطير المايا والأساطير الدينية لمملكة آشور وبابل وغيرها الكثير. وتعتبر الميثولوجيا الشعبية كواحدة من الميثولوجيات السائدة في البلاد العربية، ومن أهمّ روافد ثقافتها، والتي تختصّ بالعادات والتقاليد والقيم والعلاقات الاجتماعية بين الناس، وتمثّل أحيانًا ميولهم الدينية والاجتماعية والحضارية.
كنتُ قد قرأتُ للروائي مخلد بركات رواية "الحرذون" الصادرة عام 2008، بالإضافة إلى هذه الرواية التي بين يديّ "ماندالا" الصادرة عام 2019 عن دار الأهليّة للنشر والتوزيع. ومن خلال قراءتي لهاتين الروايتين أستطيع القول إنَّ مخلد بركات يمتلك قاموسًا كبيرًا، خاصًا به، من الميثولوجيات، وبخاصة الميثولوجيا الشعبية، والتي -في الغالب- ينطلق من خلالها في بناء النصّ السردي، وتتحرّك الشخوص ضمن هذه المفاهيم والمعتقدات وأحيانًا تحدّ من حركتها بناءً على المساق الروائي الذي يريده الكاتب، ونجد أنَّ الشخوص أحيانًا يتمرّدون على هذه المفاهيم، ونلاحظ عدم الرضا عنها ونسفها كليًّا في أحايين أخرى، لذلك نجد شخصيّة بطل الرواية (صلاح) متمردًا على الموت وطقوسه، ويرفض بعض العادات في مجتمع القرية، ونجد أيضًا تمرُّد الشخصيّة (يحيى) على المعتقد الديني فصار صابئًا، وهكذا.
لا يخفى على القارئ أنَّ الكاتب يمتلك القدرة على جعل هذه الميثولوجيا تتماهى مع البناء الروائي، ولا تشكّل نشازًا أو عائقًا أمام حداثة النصّ اللغوي والموضوعي، وأمام انطلاق الأفكار الكبيرة والخلّاقة وتعدُّدها، والدلالات التي تفضي إليها الحوارات بين الشخوص، مثل الدعوة إلى التحرُّر العربي، وقضيّة فلسطين الكبرى، واجتياح بيروت وسقوط بغداد وغيرها.
يبدأ مخلد بركات ميثولوجيًّا من خلال العنوان (ماندالا)، فعند تفسير العنوان نجد أنَّ الماندالا معتقد بوذي، كان يستخدمه البوذيون للشفاء من السحر، ثم يأتي على ذكر (البوّ) وهو معتقد شعبي يُستخدم لاستدرار حليب الناقة، كما ذكر معتقد مسح عيون الأطفال بجلد الأفعى لمعالجة الرّمد، وأتى على ذكر بعض الألعاب الشعبيّة التي كانت منتشرة في الزَّمن الذي تعالجه الرواية، والكثير الكثير من المعتقدات التي كانت تسود مجتمع القرية في ذلك الوقت.
وفي هذا المضمار تجدر الإشارة إلى اطِّلاع الكاتب على المعتقدات الشعبية في العديد من الدول العربية كالمغرب والعراق ولبنان، وما ترمز له تلك المعتقدات، والتي يوظّفها بشكل ذكيّ لخدمة النصّ الروائي، كما تجدر الإشارة إلى إتقانه للّهجات المحكيّة في تلك الدول واستخدامها في الحوارات بطريقة تناسب حركة الشخوص وتمايز ثقافاتهم ومرجعيّاتهم الدينية والسياسية.
والميثولوجيا في رواية (ماندالا) ليست موضوعًا يناقشه الكاتب، بل أخذت شكلًا بنيويًّا للوصول إلى معانٍ وأسئلةٍ كبيرة انحازت لها الرواية، وإلى محاور فلسفيّة عميقة تمثلت في حوارات الشخوص الذين كانوا على درجة عالية من الثقافة والعلم، هؤلاء الشخوص الذين يتنقلون -من خلال المشاهد- بين الحياة والموت، لبناء علاقة يراها الكاتب حتميّةً على لسان (ميساء) وهي تخاطب (صلاح):
"بحسب السياق الروائي أنت حيّ على ذمّة الموت، وبحسب السياق الاجتماعي أنت ميّت".
إذًا، فحياتنا رواية يكتبها راوٍ ما، وتنتهي هذه الحياة عندما يتوقف هذا الراوي عن الكتابة؛ حيث يقول على لسان (ميساء) أيضًا:
"يا صلاح نحن كائناتٌ ورقيّة، خياليّة، نحن كذبة تمشي على رجلين بين الناس، أنا وأنت وتلك اللوحات الست لا واقع لنا إلا في ذهن هذا الأحدب، نحن نخرج من أفكاره الآن، يرسم أقدارنا ويمنحنا طاقة العيش، عندما يرفع قلمه تخمد أنفاسنا".
هذه الأنطولوجيا التي يقصدها الكاتب لتفسير حالة الوجود والعدم، من خلال رؤى فلسفية ونفسيةٍ، ينقلها لنا بالحوارات بين الشخوص بلغة لا تخلو من الشعر في الغالب، فنجد الانزياحات في اللغة والتكثيف والمواربة والصور الشعريّة المفتوحة على التأويل أحيانًا، والتي تحتاج إلى تفعيل المخيال والذهنيّة للوصول إلى مقاصد النص أو الحوار. وممّا لا شكّ به أنَّ هذا الأسلوب الحداثوي في السرد يضيف إلى متعة القراءة ولا ينتقص منها، وأنّ هذا الأسلوب مناسب جدًا وقريب من ثقافة الشخوص داخل الرواية، ويتماشى مع الموضوعات التي تتطرّق لها، إذ يقول على لسان (صلاح) في أحد المشاهد:
"هل تفصد دائرة الاكتمال الحياتي، إذ الصراع بين النقائض يكمل دورة الوجود، ولا بدَّ من الجدليّة بين القطبين لإشعال الفوانيس لتبديد الظلمة، هل تقصد أيها الدب ما رمى إليه (كارل يونغ) في تحليلاته النفسيّة في (الإينما والإينوس) في داخل الرجل امرأته الضائعة، وفي المرأة نصفها الآخر، الرجل المستقوي، المكمّل لقوس أنوثتها، المتلذّذة ببطشه في عتمات اللذّة".
هذه اللغة العالية وذات الدلالات التأويليّة التي ينهل منها الكاتب في الكثير من مفاصل النص الروائي تبرز سؤالًا مهمًّا: هل رواية (ماندالا) رواية نخبويّة؟ هل وجَّهها الكاتب للنخبة من القرّاء؟؟ إنَّ الإجابة عن هذا السُؤال تحتاج إلى دراسة معمّقة تختصّ باللغة والموضوع، ولكنني أقول: إنَّ الرواية عالية المستوى من حيث اللغة والموضوع والشكل المعماري لها -إنْ جاز التعبير- فهناك الكثير من الرُّؤى الفلسفيّة والنفسيّة التي تحتاج إلى ثقافة بها للوصول إلى مقاصد النص الروائي، وعلى سبيل التمثيل سأختار مقطعًا قصيرًا يدلّل على هذا في الرواية، حيث يقول بطل الرواية (صلاح):
"وأسمع زفير الريح مجدّدًا كي ألمس اليقين، وأفهم جدليّة الأصل والصورة بين الثلج والنار، فأصل الثلج ذلك الماء المتبخّر بحرقة الحرارة وأشواقها، وجدّ حطب النار البعيد هو الماء الذي سقى بذرة الشجرة، والصراع بينهما افتراسيّ قاتل، كثير من الثلج يقتل النار وقليل من النار يبدّد هشاشة الثلج ليعود ماءً تبخِّره الحرارة نحو السماء، كي يعود من جديد ثلجًا متناثرًا ينتظر موتًا جديدًا".
حركة الشخوص داخل القبور التي يرسمها المخيال الروائي عند مخلد بركات، تحتاج إلى ثقافة ما أحيانًا لمعرفة ما يحدث للميت بعد أن يوضع في القبر لكي يستطيع القارئ أن يتشارك مع الكاتب في هذا التخيُّل، إذ يستخدم الكاتب أسلوبًا متمكّنًا من أدواته في نقل حركة الأموات داخل القبور وطبعها على الأحياء بصورة مشهديّة تدفع القارئ إلى تفعيل خياله وثقافته في آن لمواكبة حركة الشخوص داخل النصّ الروائي.
إنَّ رواية (ماندالا) لمخلد بركات رواية مجدّدة من حيث اللغة والمضمون، وخرجت من إطار الكلاسيكيّات في أنماط السرد الروائي، كما أنها انطوت على معانٍ وقيمٍ شديدة الحساسيّة والتأثير.