صورة المرأة في ديوان "الكتابة على الماء والطين"‏ لنضال القاسم

د. ليندا عبيد

أديبة وناقدة أردنية

 

 

الإبداع وسيلة المبدع لنسج رؤاه وتصوُّراته، والبوح بما يكتنف دواخله من مشاعر ‏وأفكار. وهو الطريقة المتحضِّرة للتغيير؛ يصوِّر قبح الواقع بغية التأريخ لجمال يأتي ‏كما ترتئيه ذات المبدع وكما تريده، وكما تحسّه؛ ونضال القاسم في قصائده التي ‏يكتبها على الماء والطين يخلق بفنِّه امرأة تشكِّل له ملاذاً ووطنًا؛ هي المرأة الحبيبة، ‏والمنجِّية من الموت، وهي الخصب، وأحيانًا هي الغريبة.‏

الإبداع هو التمرُّد الأنيق في وجه الاستلاب والتشوُّه، وهو ثورة كامنة التفجُّر في وجه ‏العبوديّة، وهو الطريقة الفضلى لصياغة الذات وتشكيل صور الآخر وتمثلاته، فيصير ‏الإبداع مرآة تعكس واقع المجتمع ودواخل الذات المبدعة. ومن هنا، فإنَّ نضال القاسم ‏في ديوانه "الكتابة على الماء والطين" يكتب بوحه ورؤاه وتصوُّراته ومواقفه، ويرسم ‏على الورق صورة لنفسه وللآخر، يخربشها على الماء مرَّة، ويحفرها على الطين ‏مرَّة، ليفتِّش عن ذاته المتشظّية التي تحيا انكسارات وخيبات كثيرة بفعل الغياب عن ‏فضائه المكاني الممثل بالوطن، بما يشكله من عالم الطفولة وموئل ذكريات، إضافة ‏إلى كونه رحمًا تنعم الروح به بالهدوء والسلام. فالشاعر يكتب على الماء ويمحو، ثم ‏يمشي ويكتب، ثم يمحو، ثم يحاول الكتابة على الطين متشبثًا بما يستطيعه من الكتابة ‏والحياة ليتوكّأ عليها في محنة الاغتراب، ومواجهة صور الخراب التي تهيمن على كل ‏شيء حوله.‏

فمن الماء والطين كان الإنسان، ومن الإبداع والكتابة والبحث عن الذات بعثت الروح، ‏فتشكّل الخلق الإبداعي سهلًا عصيًّا يؤتي أكله بكفِّ كلّ ممتلك لأدواته مستطيع.‏

إنّ المرأة عند نضال القاسم ليست مجرَّد شكل أو جسد، وليست أيضًا مضمونًا خاويًا ‏دون جسد، إنَّما هي تطلُّ من هذا التمازج الرفيع الذي يعدُّ انعكاسًا لتجربة الشاعر الذي ‏يريد أن يقولها، وأن يشكِّل صورتها ليرسم ذاته ودواخله، وليبوح بنفسه ضمن واقع ‏متعذّر لا يمنح مساحة حرّة للبوح، فيظلّ مختنقًا ولا ينعتق ممّا يوجعه ويثقل صدره.‏

المرأة الملاذ/ الوطن

إنَّ الذات الشاعرة تعاني تشظّيات كثيرة يصعب لملمتها لخلق فسيفساء خاصة إنْ ‏فتَّشنا عنها بعيدًا عن نصوص الشاعر التي ينبغي أن ينظر إليها وحدة واحدة، وأن ‏تعبِّر عن العناوين الداخليّة أو العتبات النصية؛ فنضال القاسم يمثِّل في نصِّه صورة ‏العالم الداخلي للمثقف الفلسطيني في اغترابه ومنفاه، يؤرِّقه الشتات والبُعد عن الوطن، ‏وإحساسه بثقل الواقع السياسي بإحباطاته وأزماته، فيعيش ضمن هذا الخراب والتشوُّه، ‏فيخلق بفنِّه امرأة تشكِّل وطنًا بديلًا تعويضًا عن فقدان المكان بما يمثله من طفولة ‏ورحم، وهذا المكان المميَّز بالنسبة إليه لا تكونه إلا امرأة متفرِّدة مثاليّة تشكل ملاذه ‏المُرتجى. فالخراب والعقم والاغتراب والانكسار والتشظي يعزز الاحتياج إلى امرأة ‏استثنائيّة كما تطلُّ من دواخل الشاعر الملتاع. فتكون المرأة الوطن، أو الوطن البديل ‏إثر استشراء الخراب وتعذُّر الرجوع إلى الوطن. والمرأة الملاذ تتفتّح في ديوان ‏الشاعر شيئًا فشيئًا، تخبو ثم تتّقد، تلمع مثل نجمة يقبض عليها، ثم تنفلت فيلاحق ‏طيفها بحثًا عن كينونته وهويته المؤرقة. يقول:‏

‏"هي نجمة حمراء ساحرة بلون الشمس/ ونجمة الفجر الضَّحوك../ هي نجمة ‏الأحد الحزينة/ نجمة الوطن البعيد/ ونجمة الدَّرب المخضَّب بالجراح".‏

فالمرأة نجمة ساحرة مدهشة، وهي نجمة الوطن البعيد، والدَّرب المخضَّب بالجراح، ‏يحمِّلها الشاعر ما به من حزن فتصير شبيهته حينًا، وملاذه حينًا آخر، ضمن حلم ‏كامن يتفجَّر في تشظِّياته بالعودة والرُّجوع إلى الفضاء الأول.‏

إنَّ الإنهاك بالخواء، والدم المراق والأشلاء، والبلاد المقفرة، والإحساس بتوحش ‏الصحراء والرمل، وحضور الخفافيش التي تنذر بالخراب، والدروب الموحشة في ‏ذيول المنفى وما به من ضياع ورفاق سوء ونزوات تجعل الشاعر يوغل بالبحث عن ‏الحقيقة وسط هذا السراب الذي يشكِّل تيهه، فتتجلّى له الحقيقة بصورة امرأة ملاذ، ‏يقول:‏

‏"عاثر/ منهك/ مشتاق/ يسكنني الخواء/ ودم يراق/...../ وأمر مشبوب الحنين ‏لتبزغي قمرًا/ بلادي مقفرة.. وأمر يسكنني الذبول والمنفى....". ‏

وتتشكَّل صورة المرأة الحقيقة/ الملاذ راشحة بالخصوبة والأنوثة والجمال، كما يطلُّ ‏من قوله: "يا موّارة بالخصب/ يا مجبولة بدمي.. إني إليكِ بلا حدود أنتمي/ فضعي ‏يديكِ على جبيني/ وامسحي ألمي...".‏

فهي الموّارة بالخصب والمجبولة بدمه، ويعلن صراحة انتماءه إليها لتصير مسيحه ‏المُرتجى ودرب انعتاقه من الألم.‏

وتتَّسع ملامح المرأة الملاذ إذْ يدعوها الشاعر ضمن وصف يتصاعد به إيقاع الغضب ‏شيئًا فشيئًا، وتتكامل به عناصر الحركة والصوت ضمن إيقاع واحد يتصاعد مع حالة ‏الشاعر الداخلية إلى أن يمتزجا معًا بحالة توحُّد صارخ يخلقه الألم فيعويان معًا، ‏ويصرخان تفجُّعًا وتفجُّرًا واشتراكًا في الاغتراب والمصير.‏

‏"نهر من البارود يجري في دمي/ وأنا وأنت مسافران تقدّمي/ نمضي معًا/ ذئبان ‏يصطحبان.. تقدمي/ نعوي معًا".‏

وتزداد المرأة الملاذ/ المرأة الوطن تفرُّدًا لتتناسب من جهة مع تميُّز فضائه المكاني ‏الغائب، ولتتناغم من جهة أخرى مع حجم الخراب والضياع الذي يحياه، إذ يقول في ‏وصفها:‏

‏"غصن أخضر شفاف يرشح بالزبرجد والعقيق/ عينان زرقاوان من حبق ومن ‏ريحان/ عينان مدهشتان.. هي هكذا في شهقة الفجر المضرج بالندى والكهرمان".‏

وتتمازج في هذه الصورة ملامح امرأة يضفي عليها الشاعر قداسة اللَّحن فتعلو على ‏بقية النساء؛ فهي الشمس الوهّاجة، ولصوتها طعم الكمان، وهي شهقة الفجر. ويمزج ‏بين صور الجمال الشكلي المتفرد بالعقيق والكهرمان، وصور الخصب والحياة، بقوله: ‏‏"شهقة الفجر، الندى، الرعشة"، وبين إضفاء صفات الألم المختلطة بتفرُّدها، ما يجعل ‏منها شبيهة للشاعر الذي يعي كينونته، ويمتلك وعيًا بوصفه فنانًا ومثقفًا يمثل أبناء ‏جيله، ويفتش عن ملاذه بعيدًا عن الاغتراب.‏

إنَّ المرأة الملاذ عند نضال القاسم تطلُّ بمحاذاة توحُّش المنافي؛ فالذات الشاعرة ‏المثقفة تعي اغترابها واحتياجها إلى البيت، فيخلق من المرأة ملاذًا يطلُّ من فضاء ‏عواصم ومدن مختلفة، ولا يعنى كثيرًا بذكر اسمها؛ فالاسم هويّة وانتماء، والشاعر ‏ليس معنيًّا إلا بالتهويم هنا وهناك بحثًا عن ملامح امرأة تكون له هويّة وملاذًا وكينونة ‏يلمّ ملامحها الدائخة في عواصم كثيرة.‏

‏"أنا أوّل الحب/ أنا حفنة من رماد/ ولا بيت لي/ أحتمي بالمنافي/ غربتي لا ضفاف ‏لها.../ وإني انتظرتك/ قرحت قلبي الرمال الحارقة".‏

إنَّ المرأة الوطن امرأة تشارك الشاعر الحلم وكراهية الخيانة والمنافي، وتبعث في ‏جسد الحياة الخصب. ونضال القاسم يميِّز امرأته المتفرِّدة ويسمح لها بعكس غيرها أن ‏تطلّ بالقصيدة بصوتها بالاتِّكاء على ضمير المتكلم، فنزداد قربًا منها، ونسمع هذيانها، ‏فنعي تميُّزها كونها امرأة حرّة شبيهة بالرّحم الأوّل/ الوطن. وهذه المرأة لا يمكن إلا ‏أن تكون شبيهة للشاعر فقط، فهي الوطن الذي يشكِّل مرآته، ويرى نفسه وأرضه من ‏خلاله عند استرجاعاته للطفولة فيه، يقول:‏‎ ‎‏"المرأة المفاجأة/ تلك التي لها نداوة ‏الصباح/ والتي تركت على غصن الحقيقة زوبعة".‏

والوصول إلى هذه المرأة الملاذ يشبه المرور بعذابات المتصوّفة وتدرُّجهم في سلّم ‏العارفين يترقبون وينتظرون ويقرؤون كل ما حولهم بحثًا عن الذات العليا. والشاعر ‏هنا يبحث عن المرأة الوطن/ المرأة الملاذ التي يزداد العطش إليها كلما ضاقت الغربة، ‏ينتظر ويفتش ويترقَّب بحثًا عن لحظةِ تجلٍّ وتكشُّف يتوحَّد بها مع فتاته التي يمسك بها ‏للحظة ثم سرعان ما تنقشع وتغيب: "وجه تسلّل ثم غاب/ قمر ضبابي/ وشمس ‏ساطعة".‏

ويصف انتظاره وتوقه للحظة التجلّي، إذ يقول:‏

‏"وبعد ما طال انتظاري/ للبحر قادتني بلا جدوى خطاي.. لكنني انتظرت على الشط ‏حتى الدجى/ وقلت: تجيئين ورديّة اللون ممزوجة باللظى والغواية خلّابة ناصعة".‏

والشاعر الباحث عن الملاذ يدرك أنَّ الوصول صعب، فالمدى حالك والانتماءات ‏مشوّهة، والحب الحقيقي في المدن الجديدة محض عطش: "كنتُ كالعاشق ظمآن/ ‏أصارع وحدتي/ وما حولي أحد".‏

إنَّ العاشق في ديوان "الكتابة على الماء والطين" مثقل بهموم الوطن، وهموم المنفى ‏والغربة فضلَّ الطريق إلى الحب. وكلما أطلّ عليه الحب مثل نجمة مدهشة انطفأ وتاه ‏من جديد، فتصير الكتابة على الماء بديلًا؛ يكتب ثم يمحو، يفتِّش عن ذاته ليلتقيها، ‏تتلاشى فيكتب من جديد، يسطر عوالمه ثم يمحو ويكتب من جديد.‏

المرأة الخصب

إنَّ المرأة الخصب هي الحبيبة والمنجية من الموت، وهي لهب الغواية وشجر الغواية، ‏وفيض الحقول والجنون والتوحُّد الذي يتوق إليه جسد الشاعر العطش بفعل ما يحيط ‏به من صور الموت والقتل والدم؛ فالديوان يتحرّك بين ثنائيّتي الحياة والموت، والعقم ‏والخصب.‏

يزدحم الديوان بألفاظ دالّة على الخصب والحياة من مثل قوله: "الغواية، أخضر، حنّاء ‏الندى، الماء، الرعشة، الرجفة، اللهب، يرشح، بض، نابض، النار في شرياني، ‏ريّانة، طازجة، بللني الرذاذ، اللظى، نجمة حمراء، صهيل، الصخب، نهر..."، ‏ويضجّ الديوان بألفاظ الموت والقحط والعقم من مثل: "الفقر، صحراء، سديم، ‏خفافيش، غيلان، سماء، قاحلة، الريح، الأنواء...".‏

وبالمقارنة بين ألفاظ الخصب المقترنة بصورة المرأة المتفجرة بجسدها الاستثنائي التي ‏يشتاقها جسده العطش بفعل المنافي وحرارة الاغتراب، سنلمح أنَّ حجم ألفاظ الخصب ‏يفوق ألفاظ الموت والعقم، ممّا يشير إلى كون الشاعر مفعمًا بالأمل على الرغم من ‏استشراء كل هذا الموت والخراب حوله، يقول في آخر صفحة من الديوان مؤذنًا ‏بالانفراج والانعتاق ممّا يوجعه مؤرِّخًا لرؤيا جديدة لخصب يطلّ وإنْ تأخر. ويتعلق ‏إحساس الشاعر بأنثاه الجسد التي تطلّ عبر صور جسديّة لا تصل إلى مستوى الحسيّة ‏المفعمة الفاحشة حين يتوحّد بها، على الرغم من كون حضوره مبررًا بالتناسب مع ‏حجم العطش والقتل والدم والخراب في الكون من حوله. فمن قوله لحظة الاندغام ‏والحب: "لوح من الصلصال يغرق في التراب/ عشب ظامئ للماء يلهث/ نهر ‏ينحني/ بين صفين من خصب ودفلى وبلاد مستعارة". إنَّ العطش إلى الحياة وإلى ‏الجسد بما يمثله من نقيض لصورة الموت يجعل الشاعر متنقلًا بين نساء كثيرات، ممّا ‏يضعنا في شكّ بمصداقيّة الحب؛ فالتوق هنا إلى الجسد فرار من الموت الذي يحاصر ‏الفلسطيني ويؤرقه.‏

ويرسم نضال القاسم المرأة الجسد دون تهتك أو غرق في عشق الجسد تاركًا إحساسه ‏بجماليّة الأشياء، فإنَّ جنون الرجل التوّاق لهذه المرأة يظلّ دائمًا في دوائر الإحساس ‏والجمال؛ فالجسد والنبض عنده لا يلتقيان حتى وإن كانا لحظة عابرة، "ممشوقة ‏ونافرة/ ألقت القبض على قلبي صباحًا فارتعشت/ وأعلنت انتمائي للصهيل ‏وللصخب".‏

امرأة الفضاء الغريب

يفرُّ العاشق إلى عواصم عدّة بحثًا عن ذاته الضائعة، فيزداد ضياعًا، فالحب بعيد عن ‏الوطن في فضاء غريب لا يعدو كونه ومضة أو نزوة سرعان ما تنطفئ وتنتهي بغير ‏لقاء، ولا تقود إلى خصب أو إنجاب؛ فهي حالة عقيمة في أصلها، يقول: "هنا ضيّع ‏القلب آماله الفائتة/ هنا ضيّع القلب أحلامه وتشظّى/ هنا لا وقت للحرب والحب ‏والميجنا/ هنا دوّختني الخرائط والقطارات الخفيفة والسريعة".‏

إنَّ مكانَ الآخر غريبٌ في مفرداته وثقافته ومنشغلٌ بأمور أخرى تتعلَّق بالعمل ‏والكسب ولا علاقة لها بالحرب أو الحب أو الميجنا، وهي المفردات التي تشكل ‏فضاءات النفسيّة، فيزيد الإحساس بالاغتراب والتعب.‏

ويفرُّ الشاعر من ضياعه إلى الانشغال بجماليّة المكان، ورصده لتفاصيل الطبيعة ‏تعويضًا نفسيًّا عن انهزاماته. وواضح أنَّ الشاعر إذ انشغل باختزان تفاصيل الطبيعة ‏حوله إلّا أنَّ عالمه الداخلي وأفكاره تنعكس لتلوِّن جماليّة المشهد، فالموسيقى بعيدة، ‏وأسراب الدّوري جامحة كما يحبّها، وهو المتعب من خوف المنافي وخدرها، وأسراب ‏بط وعصافير بيضاء تتخلّله أعداد كثيرة من الغربان تشي بالموت والشر والخراب. ‏

إنَّ الذات الشاعرة واعية لضياعها في فضاء الآخر، فبعد بحثها عن المرأة الحقيقية ‏صارت تفتّش عن اللحظة الهاربة، يقول: "وأنا أنقّب في بلاد الشمس عن أصدقاء/ ‏أو عن نجمة حمراء/ أو عن فكرة هربت من المذياع/ أو تلميذة عذراء ساحرة... ‏وأدركت أني أحدق في الخواء في القيظ الشديد/ كي تأتي القصيدة".‏

والمرأة الغريبة عن فضائه المكاني خارجة عن قيم القبيلة التي تفرض على المرأة ‏خصوصية معيَّنة في بلاده، تملؤه بعطرها الفواح، وتمنحه بعض الضحك، توقظ ‏بركان الجسد ثم تلوذ بصمت دون أن تشكل الحكاية؛ فالعاشق يحيا تشظيات ‏وانكسارات هي لا تعيها ولا تشعر بها، فهي ليست شبيهته على عكس المرأة الملاذ، ‏بفعل اختلاف الثقافة والمكان والوجع؛ يقول: "لم تكن من بنات القبيلة/ فجأة بزغت/ ‏ليبدأ في دمي/ الطوفان/.. ماذا تريد؟". ‏

ويأتي جواب النادلة مختلفة الثقافة على بوحه بعيدًا عن مسار توقعه وأفق انتظاره، إذ ‏تقول: "هل تريد مزيدًا من الشاي بنكهة النعناع.. واستبدّ بي الهوى/ حاصرتني/ ‏وغابت بلا ثرثرة". فالجسد حاضر لكنه خاو من الحب، والشاعر عاشق أتى من ‏فضاء بعيد فارًا من منفاه وأوجاعه ليفتش عن الحب بفضاء غريب عنه بمفرداته ‏وثقافته، فيصير الحب ومضة ولا يقود إلى لقاء أو خصب أو اندغام.‏

وتتبدّى المرأة في فضاء الآخر بصورة الجسد المتدفق جمالًا والموقظ للرغبة، إلا أنَّ ‏الشاعر لا يقف عند عينيها بوصفها وسيلة التعارف الإنساني الأولى، وبوصفها هوية ‏وبداية للحب، فالشاعر بمجرد أن تغيب المرأة المغوية لا يذكر اسمها ولا يعرف لون ‏عينيها إشارة إلى كونهما من فضاء مختلف وبهويتين مختلفتين فلا يلتقيان. وفي ‏قصيدة "سائح في المحطة" يرقب الشاعر أجساد النساء يقول: "أنصاف أجساد على ‏الرصيف/ سيقان عارية". فصورة المرأة هنا جسد محض، بعكس صورة المرأة ‏الوطن، أو المرأة الملاذ، واللقاء بالمرأة هنا هو تمامًا مثل محطة انتظار سرعان ما ‏يغادرها العاشق ويغيب وتغيب.‏

‏"غاب طيف العاشق الحلم/ عن عيني وذاب/ مرَّت الساعة الألف/ ولم يأتِ ‏حبيبي".‏

واللافت للانتباه أنَّ المرأة في ديوان "الكتابة على الماء والطين" بتشكُّلاتها المختلفة بلا ‏اسم أو هوية رغم تعدُّد النساء وانتقال الشاعر من فضاء إلى آخر بحثًا عنها بوصفها ‏باعثة للحياة، وبوصفها بديلًا عن الوطن وغياب الأم، ولعلَّ ذلك مردّه إلى كون ‏الشاعر يحيا محنة الاغتراب والتيه، وبالكاد يستبين خطاه ويستجلي دربه، فالهويّة ‏غائبة والتيه يهيمن على كل ما حوله، إضافة إلى تعذُّر إقامة علاقة حقيقية تتَّسم ‏بالأسماء والكينونة والهوية بفعل العقم والهزيمة والخراب الذي يحيط به من كل ‏الجهات.‏

إنَّ المرأة عند نضال القاسم ليست مجرَّد جسد، وليست أيضًا مجرَّد مضمون منفصل ‏عن الجسد، إنَّما تطلُّ من هذا التمازج العذب الذي يعلو على الطين دون أن يتجرَّد منه ‏تمامًا، ويمسّ شغاف الروح بما به من توق ووجع وعطش ضمن عالم قلق تهيمن ‏عليه صور الاستلاب والموت والتشوُّه.‏