عباده تقلا
كاتب ومخرج سوري
taklaobadaa@gmail.com
تَخْتَلِفُ قراءات تجربة المخرج السينمائي الإيراني "عباس كيارستمي" (1940- 2016)، لتصل حتى حدود التناقض التام، فمن النقّاد مَن يجعله حاملًا لمشعل السينما الشاعريّة، متغنِّيًا ببساطته الاستثنائيّة، القادرة على سبر قضايا شائكة ومركّبة، بينما يتَّهم آخرون أفلامه بالشكلانيّة الجافة والقاحلة، وبتنفير وإملال الجمهور.
يرى الناقد السينمائي الأميركي الشهير "روجر إيبرت" أنه في خضمّ هذا الإفراط في الثناء الموجَّه إلى "كيارستمي"، فإنه يتمّ إهمال عدد من المخرجين الإيرانيين الجيدين. أمّا أكثر المتعصبين لسينما "كيارستمي"، فيفاخرون بعبارة المخرج الفرنسي المخضرم "جان لوك غودار"، التي رأى فيها أنَّ الفيلم يبدأ مع "ديفيد غريفيث"، وينتهي مع "عباس كيارستمي".
لا بدَّ من التَّنويه هنا، أنَّ المخرج الإيراني نفسه، يصرِّح أنَّ "غودار" قال عبارته هذه بعد متابعته فيلم "الحياة تستمر"، لكنه في كل مقابلاته اللاحقة، طرح تعليقًا سلبيًّا بخصوص "كيارستمي"، وقال تحديدًا: "أحبُّ فيلمًا واحدًا فقط من أفلام كيارستمي. إنه يأخذ السينما في الاتجاه الخاطئ".
• السينما بعيون المخرج الإيراني "كيارستمي"
ما يلفت النَّظر عند الاطلاع على أفكار "كيارستمي"، التي ورد الكثير منها في كتاب (عباس كيارستمي، سينما مطرَّزة بالبراءة)، من ترجمة وإعداد أمين صالح، هو ذلك الغنى الكبير في الرُّؤية، والتَّوق إلى سينما جديدة، تبثُّ الحياة في أوصال الفن السابع، المرهق بالقصص المكرَّرة، التي تنتقص من فرادته، وتقيِّد فضاءاته.
يتحدث "كيارستمي"، الرافض لكل النظريات والمذاهب الفنية، عن سينما المستقبل، سينما المخرج والمتفرِّج، عن الأفلام غير المكتملة، المنجز نصفها فقط، أمّا النصف الآخر، فعلى الجمهور اكتشافه، ملء فراغاته، وإضافة التفاصيل الضروريّة لها.
هي سينما لا تحمل معنى وحيدًا، ثابتًا، وليس هناك قراءات نهائيّة لأفلامها.
ومع ولع "عباس كيارستمي" بالشعر والتصوير الفوتوغرافي، فلا بدَّ أن يفرد حيِّزًا كبيرًا للحديث عن علاقته بهما.
صورة واحدة هي أُمّ السينما، كما يقول، ومنها بدأت السينما، وأبصرت الحياة. كما أنَّ عشق التصوير الضوئي لا يفارقه أبدًا، فتراه هاربًا إلى الريف، ليلتقط الصور، التي هي ثمرة حبِّه للطبيعة، "في المنظر الطبيعي أشعر بشيء ما، وأرغب في أسره". كما يرى في التصوير الفوتوغرافي، وسطًا أنقى من السينما، بما أنه متحرِّر من عبء السَّرد أو التَّرفيه.
أمّا الشعر، الذي يوظِّف الكثير منه في الحوار، العناوين والثيمات، وتحديدًا الشعر الفارسي، فهو، على حدّ تعبيره، من الأشياء القليلة التي تستطيع أن تمنحنا درجة من اليقين والثقة، وتوفر لنا شيئًا من السعادة، في أوقات الصراع والقلق.
يتحدَّث عن كتب الشعر التي يمتلكها، والتي تتساقط أوراقها من كثرة قراءتها.
• "كيارستمي" في أفلامه
في سينما "عباس كيارستمي" عناوين شاعريّة، بعضها مأخوذ من قصائد فارسية، ولقطات عامة وطويلة تستمر لدقائق دون مقاطعة، وتكرارات لا تنتهي لمشاهد مثل صعود وهبوط أبطاله، الممثلين الهواة في معظمهم، مع استخدام محدود للموسيقى.
وإذا كانت بعض أفلامه، قد ارتكزت على صورة أو خبر صحفي، فهي لا تعدو في شكلها النهائي أن تكون صورة أو خبرًا.
ومع نجاح "عباس كيارستمي" في خلق جوّ وبيئة في بعض الأفلام، إلا أنه يفشل في صناعة فيلم، ويبدو في لقطاته الفوتوغرافيّة، ساردًا أفضل بمراحل منه في أفلامه السينمائيّة.
في فيلمه المعنون "ستحملنا الريح"، نشعر بالعلاقة القوية التي تربط "كيارستمي" بالفوتوغراف، من خلال التشكيلات البصريّة الممتعة، التي قدَّمها لتلك القرية، بنوافذها، زواريبها الجبليّة وأسطحها التي تلتقي بالسماء، حتى نصل إلى درجة تنشُّق هواء تلك القرية ونحن في مقاعدنا، لكن ذلك لا يجعلنا أمام فيلم، بل يغرقنا في الملل ذاته الذي توقعنا به معظم أفلام "كيارستمي".
أمّا في فيلم "أين منزل صديقي؟"، فلا يكفي تعاطفك مع الصبيّ، حتى تبرِّر للفيلم مشاهده المكرَّرة، أو تلك المشاهد المحشورة التي تزيد مدة الواحد منها على سبع دقائق. وتبقى مقتنعًا أنَّ الفيلم برمَّته، هو تركيبة فيلم قصير، لا يُفترض أن يتجاوز خمس عشرة دقيقة، وينتهي كما انتهى بوردة في دفتر الصديق.
وسيذكِّرنا هذا بفيلم قصير مميَّز لـِ"كيارستمي"، حمل عنوان "الكورس"، وامتدَّ لخمس عشرة دقيقة.
أمّا فيلم "كلوزآب"، الذي يراه بعضهم تحفة "كيارستمي" السينمائيّة، فيبدو أنَّ بساطة بطله هي أجمل ما فيه.
وأمّا مصطلح "السينما الشعريّة"، فمن المؤكَّد أنه لا يعني الأفلام المرصَّعة بدروب طويلة، قرى نائمة بين الجبال، حقول قمح على مدّ النَّظر وقصائد تخرج على ألسنة الشخصيّات في لحظات غير متوقَّعة، بل تكمن تلك الشاعريّة في قلب الفيلم ذاته، أحداثه، رؤاه، أداء أبطاله وكل تفاصيله الأخرى.
• الإفراط في تقييم بعض التجارب
ليست القضيّة في الألقاب التي تُمنح لمخرج ما، فـَ"عباس كيارستمي" هو خليفة السينمائي الهندي "ساتياجت راي" في نظر الياباني "كيروساوا"، و"روسيلليني" إيران، كما وصفه الناقد الروسي "آندريه بلاخوف"، لكن متابعة متأنِّية لأفلامه، بعيدًا عن قيود الألقاب والتوصيفات المسبقة، ستضعنا أمام تجربة إخراجيّة، أعطيت أكثر ممّا تستحق، لأسباب نجهلها، وصرفت نظر كثيرين عن أسماء مميّزة في السينما الإيرانيّة، من مثل "محسن مخملباف" و"مجيد مجيدي"، اللذين قدَّما أفلامًا تستحق التوقُّف عندها، والتأمُّل في غنى مضامينها، وصورها ودلالاتها.
وما الإفراط في تقييم بعض التجارب السينمائيّة بغريب عمّا يحصل في وطننا العربي، عندما يرفع النقد، تجربة مثل تجربة يوسف شاهين، إلى أقصى حدّ ممكن، على الرّغم من عثراتها الكثيرة، ووجود عدد لا يُستهان به من الأفلام المتواضعة في طيّاتها، ولا يفكر ذلك النقد، في تسليط أضواء كافية على تجارب وأفلام استثنائيّة، قدَّمها مخرجون عاشوا نصف عمر شاهين تقريبًا، وأكتفي هنا –على سبيل المثال- بذكر فيلم المخرج الراحل، رضوان الكاشف "عرق البلح"، المعجزة السينمائيّة الحقيقيّة، الذي تحتاج السينما العربيّة، ربّما لسنوات طويلة، حتى تنتج فيلمًا يصل إلى مستواه.