الرسّام "رخـا".. مَصَّرَ فن "الكاريكاتيـر"‏ مُبتكر شخصيات: (ابن البلد، رفيعة هانم، السبع أفندي، ميمي بيه)‏

‏ ‏عمر إبراهيم محمد‎ ‎

كاتب وباحث مصري

o.alwfdy@yahoo.com

 

‎ ‎

يُعدُّ الرسّام محمد عبدالمنعم رخا عميد رسّامي "الكاريكاتير" في مصر، باعتباره أوَّل ‏مصري يمارس هذا الفن ويطوِّعه لخدمة قضايا وطنه، واشتهر بشخصيّاته ‏الكاريكاتيرية العديدة المُبتكرة، والتي عكس من خلالها الحياة الاجتماعيّة والسياسيّة في ‏مصر، وجاءت برسوم منمَّقة في خطٍّ حديثٍ مُبتكر سهل القراءة.‏

 

في بداية القرن العشرين عرفت الصحافة المصريّة فن "الكاريكاتير" على يد ثلاثة من ‏الروّاد الأجانب... فبعد ثورة (‏‎1919‎م) بقليل استقبلت مصر الإسباني "خوان ‏سانتوس" الذي جاء إليها للعمل أستاذًا في مدرسة الفنون الجميلة، وعمل رسّامًا لمجلة ‏‏"الكشكول"، وتلاه التركي "علي رفقي" رسّام المساحة العسكريّة، الذي اختطفته دار ‏الهلال ورسم في مجلّتي "المصوّر" و"الفكاهة"، وثالثهما الأرميني "ألكسندر ‏صاروخان" الذي اكتشفه الكاتب محمد التابعي، وحصل على الجنسيّة المصريّة في ما ‏بعد. ‏

ثم جاء بعدهم الرسام المصري محمد عبدالمنعم رخا (‏‎1911‎‏- ‏‎1989‎م) عميد ‏رسّامي الكاريكاتير في مصر، باعتباره أوَّل مصري يمارس هذا الفن بعد هؤلاء ‏الثلاثة الكبار، وأخذ "رخا" على عاتقه تمصير الكاريكاتير وتطويعه لخدمة قضايا ‏وطنه، ونَقَلَ ريشته إلى أيدي الرسامين المصريين.‏

وقد اشتهر "رخا" بشخصيّاته الكاريكاتيريّة العديدة التي عكس من خلالها الحياة ‏الاجتماعيّة والسياسيّة في مصر، فقد ابتكر شخصيات (ابن البلد، بنت البلد، رفيعة ‏هانم، السبع أفندي، ميمي بيه، حمار أفندي) وغيرها.‏

وُلد محمد عبدالمنعم رخا بمدينة سنديون بمحافظة القليوبية في تشرين الثاني/ نوفمبر ‏‏(‏‎1911‎م)، رحل والده عن الدنيا وهو طفل صغير، وعندما بلغ السادسة من العمر ‏انتقلت الأسرة للعيش في القاهرة، وأقامت بحيّ (باب الشعريّة) العريق

والتحق بمدرسة باب الشعريّة الابتدائيّة. وفي ذلك الوقت بدأت هوايته للرسم،

وتفتَّحت موهبته وأجاد رسم أبطال مجلة (الأولاد) المدرسيّة آنذاك... حصل على

‏ الشهادة الابتدائية عام (‏‎1921‎م)، وكان أمله الالتحاق بمدرسة الفنون الجميلة، ولكن ‏قوبل تفكيره بالرفض من قِبَل الأسرة، فالتحق بالمدرسة الخديويّة صاغرًا راضخًا، ‏وظلَّ دائم الرَّسم في كراريس وكشاكيل المدرسة. وفي أحد الأيام ضبط مدرِّس ‏الكيمياء أحد  دفاتر/ كشاكيل (رخا) التي امتلأت برسوم وجوه الطلبة والمُدرِّسين ‏والسياسيين، ووسط دهشته اقترح عليه الالتحاق بمدرسة "ليوناردو دافنشي الإيطالية" ‏بالقاهرة بالقسم الليلي مقابل خمسين قرشًا في السنة. انتظم رخا في تلك المدرسة دون ‏علم الأسرة، فعشق دروسها واشتهر فيها وأحبّه الأساتذة، وأعجب به زملاؤه لفصاحة ‏رسومه الكاريكاتيريّة التي تبهرهم من فرط سخريتها.‏

واستطاع وهو في الثامنة عشرة أن يصبح القاسم المشترك في معظم المجلات ‏والصحف المصرية آنذاك مثل "الناقد" و"روزاليوسف" و"الستار" و"المُستقبل" ‏وغيرها.‏

وذات يوم فكَّر رخا في استئجار مكتبًا أو غرفة خاصة به في حي (باب اللوق) ليجعل ‏منها ورشة لرسوماته... وفي أحد الأيام وهو جالس بمكتبه دخل عليه طالب لا يزيد ‏عُمره على أربعة عشر عامًا يرتدي قميصًا وشورتًا عرَّفه بنفسه قائلًا: "اسمي ‏مصطفى أمين، وأريد منكَ عدّة رسومات كاريكاتيرية لمجلة (التلميذ) التي أصدرتُها ‏أنا وأخي علي أمين لطلبة المدارس"، وأعطاه أفكارًا من عدّة صور لرسمِها، وتسعون ‏قرشًا ثمنًا لها، فطلب رخا منه أن يأتي في اليوم التالي لأخذها، وحضر مصطفى أمين ‏واستلمها بالفعل... من هُنا كانت بداية علاقة رخا بالعملاقين الكبيرين في مجال ‏الصحافة علي ومصطفى أمين.‏

استمرَّت مسيرة رخا في فن "الكاريكاتير"، وانتشرت رسومه وملأت الصُحف ‏والمجلات، واتَّسع نشاطه حتى أصبح يرسم لصحيفتين يوميّتين و(‏‎15‎‏) مجلة أسبوعية ‏في وقت واحد.‏

وفي العام (‏‎1933‎م) اتُّهم بالعيب في الذّات الملكيّة في أحد رسومه، ودخل على أثرها ‏السجن لمدة أربع سنوات... وكان الكاريكاتير الذي أدخله السجن عبارة عن محرِّر ‏ورئيس تحرير، يُمسك المحرِّر في يده ورقة مكتوب عليها ببنط رفيع عبارة "يسقط ‏الملك"، ويسأل رئيس التحرير: "تفتكر موضوع إيه افتتاحيّة هذا العدد

من المجلة؟"، ويردّ رئيس التحرير: "سيب السياسة واكتب عن أسعار الفجل

والكرات". ‏

وبسبب هذا الكاريكاتير دخل (رخا) السجن، ولسوء حظّه لم يخرج بعد قضاء ثلاثة ‏أرباع المدّة في مناسبة توافق عيد جلوس الملك فؤاد الأول على العرش الذي توفي قبل ‏هذه المناسبة بعشرة أيام، فأمضى المدّة كاملة.‏

بعد خروجه من السجن انهالت عليه العروض، وعاود الانتشار وأخذت رسوماته تُنشر ‏على صدر الصفحات الأولى بعدّة صُحف بداية من العام (‏‎1939‎م) في سابقةٍ لم ‏تحدث في الصحافة المصريّة من قبل، ومنها صحيفة "البلاغ" المسائية، كما رسم في ‏مجلة "الاثنين" في بداية الأربعينيات تحت رئاسة تحرير علي أمين، وتَرَكاها معًا عند ‏تأسيس دار (أخبار اليوم) للصحافة.‏

ظلَّ رخا في دار (أخبار اليوم) ‏‎45‎‏ عامًا متصلة (من ‏‎1944‎م حتى وفاته ‏‎1989‎م) ‏رسم خلالها في أغلب مطبوعات الدار؛ "أخبار اليوم"، و"الأخبار"، و"آخر ساعة"، ‏و"الجيل"، و"آخر لحظة"، وعلى صفحات هذه الصحف والمجلات ابتكر ‏

رخا شخصيّاته الكاريكاتورية التي أصبحت حديث كل بيت مصري، كما جرى ‏اقتباسها في عدد من الأفلام والمسرحيّات والأعمال الإذاعيّة والاسكتشات الفُكاهيّة في ‏حفلات الزفاف والموالد الشعبيّة. ‏

ففي شخصيّتيه (رفيعة هانم والسَّبع أفندي) صوَّر السيدة المُسيطرة والرجل

الضعيف... وفي (حمار أفندي) صوَّر الشخص الجاهل المُتعالِم الذي يتحدَّث في

كل الموضوعات دون وعي... وتألَّقت (بنت البلد) بريشته على صفحات مجلة ‏

‏"آخر ساعة" حتى أصبحت نموذجًا للست المصرية ذات الجاذبيّة الخاصة والأنوثة ‏المتفرِّدة من الرَّشاقة.‏

والمُبصر بشغف لخطوط (رخا) يُلاحظ أنها تقترن برسوم منمَّقة في خط حديث مُبتكر ‏سهل القراءة... فقد أبدع تصميمات أنيقة لاسم مجلة "روز اليوسف" على غلافها في ‏أواخر الثلاثينات من القرن الماضي؛ ممّا جعل منه شعارًا ثابتًا لغلاف المجلة... ‏وبعدها صمَّم اسم مجلة "آخر ساعة" على غلاف المجلة، وهو عبارة عن راقص ‏الساعة الذكي، وجعل من التاء المربوطة في آخره بهيئة ميناء ساعة.‏

وقد أصدر عبر مشوار حياته كتابين هما: "ديوان لوحات رخا" الذي قدَّم فيه

العشرات من لوحاته، وتضمَّن العديد من المونولوجات والأغنيات العاطفيّة. ‏

والكتاب الثاني "صور ضاحكة" وعرض في مقدّمته مضمون فلسفته الساخرة التي ‏تمتزج فيها الصور الضاحكة بالصور الحزينة لعيوبنا الاجتماعية.‏

هكذا ظلَّ (رخا) طيلة ستين عامًا من عُمره الفنّي في تاريخ الصحافة المصريّة ‏مدرسةً تخرَّج فيها أسماء كبيرة في عالم الكاريكاتير (زُهدي وصلاح جاهين وجورج ‏البهجوري) وغيرهم، ومتفرِّدًا في رسوماته، ومُبتكرًا في شخصيّاته، وصاحب ريشة ‏فصيحة جسَّدت أعمالًا مميّزة.‏