قصة: حنان باشا
كاتبة أردنية
emhassan@live.com
كُلّ مرَّة كانت تعدل الإطار المعوّج، لكن الصورة تستمر في مَيَلانها نحو الجهة التي تقف فيها، فيبدو هو وكأنه جاثم فوقها أو سيسقط عليها، وقد تتهشَّم تحته.
كلّما مرَّت بالمنفضة لا بدَّ وأن تستوقفها لحظة ربَّما أكثر..
سنوات مضت على الحال ذاتها، تستوقفها تتأمّلها تمدّ يدها تمسح صورتها، دونه تغادر كمن يتخلّى عمّن أحبَّ في عهد مضى، وتغرق في عملها لتعود ثانية وتقف حيث هي، تدقق النظر كمن يحاول سبر أغوار الساكنة في الصورة وقد بدت في أبهى حلّة ضاحكة مشرقة، عينان لامعتان وثغر باسم، غمازات عميقة تأخذك عاليًا كمن يعتلي أرجوحة صاخبة.
لكن ثمّة فرق بينها وبينه؛ في حين بدت تضجّ بالحياة رشيقة مقبلة واعدة بدا هو بطقمِه الأسود وربطة عنقه الذهبيّة المنمنمة بالأحمر مبتسمًا متأهّبًا.
هي من الذين يندفعون حبًّا مهما كبرت تظلّ طفلة، وهو من الذين يعيشون بحسبةِ مَن لا يُخطئ ولا يقبل بذلك !
ربما لهذا السبب ظلّت الصورة مائلة من جهته.
اللون الأبيض محايد ما بين زهوة الياسمين وصفاء الكفن؛ لا يمكنك أن تدرك لأيّ جانب ستقف أنت.
الطرحة البيضاء مجرَّد سرّ يخبئ خلفه ملامح وجه، تسكنه السعادة أو خالٍ من الحياة ليس عليك إلا مدّ يدك لتعرف أي شيء هو.
القلوب ليست إلا صناديق ولها أقفال، إن كنت محظوظًا عرفت أيّها يخصّك، لتسلك تلك الدُّروب المؤدِّية لجنَّتك. إن كنت تحسب أنّ ثمة جنة على الأرض وأنّ البشر أشبه بالملائكة إذا أصابهم داء العشق.
ما كنت لتعرف أنّ الكلمة مسبوقة بـِ"داء"، هل انتبه أحد من قبل أنه علّة موجعة إذن؟
لِمَ على الصورة أنْ تظلَّ مائلة نحو الشمال؟ كلّما تحسَّستْ الإطار شعرت بضجيج يعلو وكأنه قادم من البعيد، عميق للغاية، يزداد كلما لامست صدرها.. كأنّه نبضٌ مشترك! تمرُّ على ملامحه العاديّة تتعجّب أكان عاديًّا عندما أحبَّته واندفَعَت نحوه، وضعت يدها بيده وغادرت،
أكان الرجل ذاته؟
لِمَ يبدو مختلفًا إذًا؟
كأنه شخص آخر!
تضرب رأسها بخفّة، تهزّه، تكاد تضحك، تنتهر نفسها؛ مجنونة.
وتغادر لإنجاز شؤون أخرى، ثمّة ما ينتظر، دائمًا هناك ما ينتظر؛ لكن لا شيء يعادل في انتظاره العمر الذي مضى ولن يعود.
يحلُّ صباح آخر.. وقفت أمام الصورة وأفصحت أخيرًا عن سؤال يعاقر وجدانها:
لِمَ لا تكبرين أنتِ؟
مستمرَّة بالضحك، متألقة بالأبيض المفرود كجناحي إوزّة فاتنة مغرورة.
ألم تعلمي الحقيقة بعد؟
ألم تسمعيه يقول عندما سأَلْتِه لِمَ لا تأخذ صورًا معي كما تفعل مع الآخرين، ليردَّ بصوت ممطوط:
"لأنَّ صورك بتخزي".
تلك الحرارة التي تغزو جسدًا ما، تغرقه بعرق حار في لحظة، تدفعه للتوقف مرغمًا عن ارتكاب أي فعل مهما كان، لحظة تجعله مشدوهًا مثل صفحة بيضاء ناصعة بلا خطوط أو تعاريج، بلا استثناءات أو حاشية، كعقل طفل بدأ حياته، اللّحظة.
ينتظر صفعة على مؤخّرته ليستردَّ النَّفَس المقطوع.
هكذا بدت عبارته موجعة، متبوعة بنظرة شماتة؛ أنه أصاب الهدف.
كل الأجنحة المشرّعة تكسّرت...
الأبيض ممزَّق وإن بدا متهافتًا مع العروس الرّاكضة.
كيف تجرّأ؟
البشر ليسوا بملائكة، ولكنهم أيضًا ليسوا بشياطين!
فزَّت من مكانها متخلِّيه عن رفقته البغيضة كمن ينسحب بشرف:
- فلتبقَ وحدك أفضل.
- طبعًا أريَح.
- ليست الراحة لأجلكَ، بل من أجلي.
***
ثمَّة حوارات شائكة لا تصل لمكان، ولذا فإنَّ التخلّي عنها يُعتبر بطولة.
لكنَّ الإطار يبدو الآن في توازنه العادي، إنه أمرٌ غريب.
عادت نحو الصورة، اليوم بدت مختلفة وقد تبدَّل المشهد وبدا أجمل. لعلَّ السبب أنه خرج من روتينه..
هو ملفوفٌ بالأبيض، في حين بدت بكامل أناقتها متَّشحة بالأسود.