ما الذي جمعنا؟

قصة: دينا بدر علاء الدين

قاصة أردنية

 

‏ ما زال الصبيّ يُلحُّ على جدِّه في السُّؤال ذاته، وعيناه تتّقدان حياة، فترسلان عبر أشعّتهما ‏الواعدة رسائل استفهاميّة؛ لتتكسّرَ أشعّتهما على أعتاب جفنَي جدّه العجوز، تلك الأجفان التي ‏تكحّلَت بغبار السنين أثناء رحلة بحث عبثيّة.‏

ذهبتُ حيث نافذتي التي أصبحتْ سفيرتي إلى العالَم، فنحن صديقتان قديمتان، نسترجع ما ‏مضى كلّما التقينا. سمعتُ جارنا يتمتم إلى إحداهنّ: "عندما تنتهي أزمة (كورونا) اللعينة ‏سأكون بين يديكِ، ما زلت أذكر دفء القُبلة، إنّني أَعُدّ الأيّام، وأتساءل: متى سنَعْدو كطفلين؟ ‏حبيبتي، سأضطرّ إلى إنهاء المكالمة". ثمّ يصرخ بصوتٍ أَجشّ: "ماذا تريدين يا امرأة؟ إنّ ‏‏(الكورونا) أرحم منكِ!".‏

أغادر بيتي علّي أحظى ببعض الخُبز، فحَظْر التّجوال ضيَّقَ على الناس معيشتهم، وقيّدَ ‏حركتهم بساعات محدودة، يقضون فيها حوائجهم. وقفتُ في آخر الطابور البشريّ، بينما تأتي ‏إحدى الحسناوات تزهو ببنطالها الضيِّق، فيفسح لها مكانًا أكثر من متبرِّع؛ ليحظى بلمسة كتف ‏عابرة، أو بنظرة فاحصة لِما يبدو أنّه مستور. تَشْرئبّ بعض الأعناق معترضة، فتقطع العراك ‏عَطْسةٌ طائشة؛ ليستقرّ زلزال صوتها في الآذان، فيَنْفر الجمْع، وكأنّ صاروخًا هَوى بين ‏أرجلهم. نظر العاطس المجرم حوله، سمع همهمات تُوحي باللعنات، فشَعَر أنّه الشّيطان الذي ‏أَخْرَج أبوينا من الجنَّة. نظرتُ إلى المخبز المجاور؛ عَلَّه يكون أخفّ ازدحامًا، فلمْ أرَ إلّا جيشًا ‏من الكِمامات، والقفّازات التي ترفع أصابعها عاليًا؛ لتطال نصيبها من الخُبز. أضيقُ ذرعًا؛ ‏فتأخذني خُطايَ إلى متجر الخضراوات، أين رحلَتِ الخضراوات؟ تأتي إحداهنّ مُهرولة، ‏وتَبْتَاع ما بقي من خضراوات بائسة. وما كادت تقترب مِنّي حتى عطستْ، طِرْتُ من المكان، ‏اللعنة! أَلمْ تجدْ مَنْ هو أَسوأُ حظًّا مِنّي؟ أنظرُ إليها بغضب: "يا لقبحِ حماقتها! إنّها لا ترتدي ‏كِمامة"، شعرتُ كأنّ فيروس "كورونا" يتراقص على جسدي، وبسرعة البرق استنجدتُ ‏بالاستحمام، وعَقّمْتُ حتى طبلتَي أذنيّ، شربتُ اليانسون، والتهمتُ الثّوم، والبصل، أحسستُ ‏بحرارة وسَعْلَةٍ تتسلّلان إليّ، فارتجفتُ خوفًا: "أبسرعة انتقلت إليّ العدوى؟"، استعذتُ من ‏الشّياطين التي تُغنّي في رأسي.‏

أثناء ذلك سمعتُ أخي الأكبر ينادي أولاد العائلة، ويطلبُ منهم أن يجتمعوا حوله؛ فمنذ وقت ‏طويل لم تجتمع العائلة مع بعضها بعضًا، أمّا الآن فقد جمعهم الخوف من المجهول، اقترحوا ‏أن يرسموا شجرة العائلة مبتدئين بتدوين اسم الجدّ الأكبر. سأل الصّبيُّ الجدَّ: "ما اسم جدِّكَ يا ‏جدّي؟ ولا أقصد اسم عائلتنا، أجِبني". حارت عيْنَا الجدّ، وتَمَعّن في القلم، عَلّهُ يجدُ في الحبر ‏إجابة، وسأل بصوت مبحوح عن دوائه، فأتته التطمينات بأنّ المركز الصحّيّ سَيُوصل الدّواء ‏إلى المنزل. حاول جدّي أن يغادر الاجتماع، ويخرج من زنزانة انتظاره إلى مواعيده التي ‏احترقتْ، ولكنّ الفيروس يتربّص بمنْ هم في مثل سنّه؛ فينصاع لأمر الحظر مُدثّرًا قلبه بحزن ‏رماديّ.‏

أهربُ إلى خلوتي التي اعتدتُ وميضها الأخّاذ، أقرأ في هاتفي الكثير من التعليلات، فمنهم مَنْ ‏يرى المرض عقابًا إلهيًّا حلّ على البشريّة، ومنهم مَنْ يَعْزوه إلى أسباب سياسيّة واقتصاديّة. ‏أترك هاتفي، وأذهب إلى نافذتي قَبْل أن تخطفني الهموم. تُوشك خيوط الشّمس أن تُسلّم مهمّتها ‏إلى خيوط القمر البيضاء، فأنتشي ببُخار قهوتي، أرفعُ قليلًا ثوب نافذتي المزركش، أسمعُ ‏جاري يقول لِفَتَاتِهِ: "إنّ صوتكِ يتفنّن في إشعال حرائق قلبي، كَمْ يُخفّف صوتك المغموس ‏بتنهيداتك الحارّة من وطأة حَظْر التّجوال القاسية! وارحمتاه لقلبي الموجوع!"، كان يحمل ‏عصًا طويلةً، ويغرسُها في قلب نَبتة شوكيّة تَشُقُّ طريقها بين الحجارة، في أثناء ذلك أتى ‏صوت كالهدير: "مع مَنْ تتحدّث؟ ومَنِ التي تُشْعِل حرائق قلبك؟"، خارت قُواه، لم تعُد يده ‏تقوى على حمل هاتفه الذي سقط بأحضان النبتة الشّوكيّة، جذبتهُ من ياقة قميصه، ليدوّي ‏صوت زامور حظر التّجوال.‏

عُدْتُ إلى الاجتماع العائليّ، كان صوت الصّغار ما زال يُطالب الجدّ بِذِكْر اسم جدّه الأكبر، ‏فقلتُ اسمًا لأُسْكت جوع سؤالهم، نظر إليّ هامسًا: "خُذيني إلى غرفتي".‏

وهناك سألتُه: "ألا تعرف اسم جدّك يا جدّي؟"، كان سؤالي حارقًا، أغمض عينيه الدّامعتين، ‏احترمْتُ آلامه، ناءت الكلمات بالتعبير عمّا يختلج في صدره، ثمّ قال بصوت حروفُه تبحث ‏عن هويّة: "كَمْ كرّرتُ هذا السُّؤال على المرأة التي كنتُ أعتقدُ أنّها أمّي! كَمْ مِنْ مَرَّة سألتُها: ‏مَنْ أبي؟ وأين عائلتي؟"، قطع أذان العشاء كلامنا، اختتم المؤذّن قائلًا: "صَلّوا في بيوتكم". ‏تناهى إلى مسامعنا صوت جارنا الشّيخ (أبو عزمي) باكيًا: "اللهمّ! أظلّنا بعظمتك، وحنانك، ‏ولا تحرمنا الصلاة في بيتك، إنّك على كل شيء قدير". ‏

تابعتُ سؤالي المسجور: "مَنْ نكون نحن؟". ‏

تحرّكت شفتاه المرتعشتان وكأنّ إحداهما تبحث عن رفيقتها، وما إن تجدها حتى يُبْعِدُها لهيب ‏التّنهيدة؛ فتعلو رفيقتها ليتوارى الجواب في تلك الغصّة التي ما زالت تقضّ قلبه، فأُطْبقُ ‏بحناني على ضوء عتمته، وألمس بأصابعي شفتيه، علّهما ترسوان مِن عناء الإبحار في ذاك ‏المجهول، الذي يبحث على رحابة النور. أتَى جوابه كشهاب سماويّ: "قالتْ إنّها وَجَدَتْني على ‏قارعة الطّريق، وانتَحَلَتْ لي اسمًا وهُوِيّة". ‏