هل تخيَّلت؟!‏

نص: مُسيَّد المومني

كاتبة أردنية

 

شذرات الضوء الصغيرة المتسرِّبة إلى أعماق روحي بدءًا من نوافذ عينيّ، تحاول بوضوحها ‏الشفاف إشعال فتيل الحركة داخلي، حاولتُ مدّ يديّ عبرها علّي ألمسها، وأجذبها في عناق ‏طويل أقتبس من خلاله الضّياء.‏

غائصة بين وسائدي الورديّة، وأغطيتي المُزركشة، لا تظهر منّي إلا أصابعي المنهكة تروح ‏وتجيء بين نترات الأشعّة الملوّنة بأطياف قوس قزح، أحاول لمسَها، أحاول جمعَها في سلال ‏كفّيّ لأوزِّعها بتؤدة على بقيّة جسدي المسجّى، أحاول تجفيف حبّات العرق المنصبّة منه فوق ‏ملاءات السرير، أجتهد لأبقيني على قيد الصّحوة، واعية للفراغ حولي، للوحدة الإجباريّة التي ‏فُرضت عليّ، لمعاملتي قسرًا كوباء يجب تجنُّبه لبقائهم سالمين... هكذا بكلّ بساطة ودون أيّ ‏مقدِّمات شُخِّصتُ مصابةً بفيروس "كورونا".‏

سأموت، نعم سأموت... فكّرتُ بصوت عالٍ أقرب للصراخ، شعرتُ بروحي تقف بمواجهتي ‏تحمل ما تسنّى لها من بقايا حياتي في حقيبةٍ، تحملها بخفّة وتهمّ بالمغادرة.‏

إلى أين؟ ولماذا؟ ليس بسؤالٍ منطقيّ، وليس بمحلِّه، ولا هذا وقته، ولكنكَ تفقد استشعارك، ‏حواسك، تفقد ذاتك عندما تصطدم بحقيقة أنّ الموت يقف بمواجهتك دون أن تعي أو تدرك، لا ‏يفصلكَ عنه إلا سدٌّ بصريٌّ بأمر الله ولطفِه.‏

لا أتذكّر كيف حدث وأصبتُ بالفيروس، فمهنتي كممرِّضة مع إجراءات السلامة التي نتخذها ‏لا تتيح للهواء التَّسرُّب إلى رئتينا بسهولة، ولو كنتُ أعلمُ أنّني سألتقطه أثناء تسوُّقي لَما اتّخذت ‏أيّ تدابير وقائيّة خلال خدمتي، وخاصّة أنّ الاختناق وثقل لباس الوقاية كانا سيِّدَيْ الموقف.‏

في روتين يومكَ، في تأدية أعضاء جسدكَ لمهنتها بكلّ سهولة دون جهد، واستجابةً لأوامرك ‏العقلية لها، لا يمكنكَ تخيُّل أو توقُّع تخلِّي جسدكَ عنكَ دون مقدّمات؛ أن تفقد سيطرتكَ عليه، ‏أن تشعر بعجزكَ وضعفكَ، شعور بالقهر لا يمكنني وصفه بالكلمات.‏

هذا الفيروس يشعل حطب حواسِّي العصبية داخل جمجمتي، أشعر بها تنصهر فعليًّا، أمسك ‏رأسي وأضمُّه بما تبقَّى لي من قوَّة بين كفَّيَّ، آخذ وضعيّة السُّجود في أغلب الأوقات، وأحيانًا ‏أظلُّ يومًا كاملًا علِّي أسيطر على تصاعد الحرارة المخيف داخلي، ولعلِّي أوقف ذوبان ‏عظامي، أو أستطيع منع مسامِيَ من طرح كميّات العرق المخيفة التي تغمرني شلّالًا لا ‏يتوقَّف، أو منع تيّار الكهرباء من السريان داخل جسدي يلسَع كل مكان يمرّ به.‏

شهر كامل من فقدان السوائل، فقدتُ خلاله الكثير من وزني، فيروس غير مرئيٍّ جعل منّي ‏جسدًا هزيلًا واهنًا افتقر للكثير من المعادن، لا حديد، لا فيتامينات، افتقر لكل ما تفكر به أنه ‏يمدّك بالمناعة، ويساعدكَ على الوقوف على قدميك من جديد.‏

لا فرق بين ليل ونهار عندما تتمدَّد فوق أوجاعك، إذا ما انقلبتَ على جانبكَ الأيمن لتريحَ ‏الأيسر صعقكَ وجع لا يمكنكَ تحمُّله، تعود إلى وضعيّتك منقلبًا على ظهرك، فيشتعل فيه فتيل ‏الآلام، لا يمكنك أن تسيطر على الهراوات التي تسحق عظامك داخل جلدك، هل لك أن تتخيّل ‏شقًّا يعصف بكل جزء من جسدك كأنما يشرخك دون مخدِّر؟! ‏

كممرِّضة كنتُ أتقبَّل شكايات المرضى وأحاول مواساتهم ومساعدتهم من خلال المهدِّئات، ‏ولكنَّني لم أكن لأتخيَّل أنهم يموتون كل لحظة دون أن يمتلكوا التعبير المناسب عن أحوالهم.‏

أشرب الكثير من الكمُّون، الكثير من اللّيمون، أيّ وصفة طبيّة بديلة عسى أن توقفه وتمنع ‏آلامه التي تفتك بما تبقَّى من صبري، أعيش على ما صُرف لي من المُسَكِّنات.‏

أبصرُهُم من خلف زجاج باب معزلي، أجسادٌ تروح وتجيء بلباس أزرق كأنهم ملائكة تقوم ‏بحراستي، هل فكّرتُ يومًا أنه من الممكن أن تراقب أكثر مخاوفك رعبًا دون قدرة منك على ‏منعها، ألم يتشبَّث بك، يقوم بعجنك مرارًا وتكرارًا، ومن ثم يكوِّرك ويقذف بك في ممرٍّ أملس ‏طويل تجاه بقيّة ما كنتَ تظنُّها في وقت سابق مشاكل لا يمكن حلَّها؟ لتسقط دفعة واحدة، ويبقى ‏الفيروس منتصبًا أمامك؟ هل تخيَّلت؟!