الرِّواية بعد "كورونا"‏ ‏ أسئلة المصير

جلال برجس

روائي أردني

 

إنَّ تفشّي وباء كورونا، وما تمخَّض عنه من آثار سلبيّة على الإنسان، سيؤدّي إلى ‏انزياحات وتغييرات كثيرة؛ منها انزياحات على صعيد الرِّواية، ويتوقَّع كاتب هذا ‏المقال أنْ يكونَ للتَّغيير شكلان؛ حيث سيذهب النَّمط القادم إلى تأمُّل اللّحظة الرّاهنة ‏واللّحظة المستقبليّة بوعي سردي مفتوح ينسف العناصر الروائيّة التي كانت سائدة، ‏لكن سيقابل هذا الشكل الروائيّ المُرتقب شكل روائي رقميّ يتَّكئ على الرُّؤية العالميّة ‏في الذِّهاب بالإنسان إلى أقصى حدود الرَّقمنة.‏

مقدِّمة

بعد أسابيع من استباحة فيروس (كوفيد 19) الأرض ومَن عليها، تشكَّل لدينا إحساس ‏‏-أقرب إلى الأمنية من كونه تحليلًا يخضع للمنطق- أنه سيغادرنا في غضون أشهر ‏قليلة، لكنَّ الأمر لم يسِر على هذا النَّحو، بل طال مكوثه وأصبحنا نحسُّ بما فعل، ليس ‏على صعيد صحّة البدن فقط، بل امتدَّ أيضًا إلى مناحٍ جديدة، فقد صار الإنسان وهو ‏في عزلته رهين إحساس بالسجن؛ إذْ بدا له العالم كسجن كبير بلا قضبان وبلا ‏سجّانين، وتخلَّق على نحو غريب شكل جديد من أشكال الغربة، غربة عن الجسد ‏عندما لا يمكنكَ الحركة بحرِّية، ولمس وجهكَ والتعاطي معه كما كنتَ تفعل سابقًا، ‏وغربة عن الآخر مثيلكَ في الحياة، فقد فرضت شراسة هذا الفيروس مسافة المتر بكل ‏أبعادها المادية والمعنوية؛ فلا مصافحة، ولا عناق، الأمر الذي خلق إلى جانب الغربة ‏وحشة ذات أبعاد على الأقل طرحت أمام الإنسان سؤالًا متعلقًا بالمصير؛ فالإنسان ‏مهدَّد، ومكانه مهدَّد، وبالتالي فإنه أمام زمن ملتبس يشير إلى أنَّنا مُقبلون على عالم ‏جديد نسمع حياله أصواتًا منها ما يبشِّر بنقلة حميدة للإنسان، ومنها ما يحذِّر من نقلة ‏خبيثة ستدمِّر الإنسانية، أصوات تتداخل وتتقاطع فلا نجني إلا شكلًا جديدًا من أشكال ‏الصخب، ويقينًا بأننا لسنا أولئك الذين كنّا قبل تخلُّق هذا الفيروس، بل حتى بتنا نتمنى ‏العودة إلى ما كنّا عليه؛ إذ نحلم باستعادة حياتنا التي افتقدناها، على الرغم من اعتقادي ‏أنَّ العالم قبل كورنا شيء، وما بعده شيء آخر.‏

تبدُّلات ليست مُباغتة

سواء كانت الطبيعة أو أناسها وراء ما يحيق بالأرض جرّاء فيروس ضئيل الحجم، ‏فإنَّ تغيرات لافتة في طريقها إلينا؛ إذ سيخضع العالم لشكلين جديدين من التبدُّلات، ‏أوَّلهما قسريّة تدفع بالعالم اقتصاديًا وسياسيًا إلى منحى جديد يغاير ما كان عليه، ‏وثانيهما تبدُّلات ذات ردّ فعل على ما حدث طوال مدَّة "الحرب" مع الفيروس، ومجمل ‏التبدُّلات الثانية اجتماعية وثقافية تشمل رؤية الإنسان عبر استعادته لما حدث، ‏واستشرافه لما سيحدث مقرونًا بمساءلة حول شكل المصير القادم كون الفيروس هذه ‏المرَّة جعل العالم قرية واحدة بمستوى غير مستوى بدايات التنظير إلى مفهوم القطبيّة ‏الواحدة. ‏

وفي الأدب، وخاصة الرِّواية، فإنَّها ستكون واحدة من العناصر التي سيطالها التغيير ‏كردّ فعل على الكارثة التي فاجأت الإنسانيّة، فالذي حدث بمثابة هزَّة كونيّة ستفرز ‏على الصعيد الثقافي تجديدات على غرار ما حدث إثر انتهاء الحرب العالميّة الثانية، ‏حيث ظهرت الحداثة في الرِّواية كردّ فعل على الانهيار الكوني بشقَّيه الخارجي ‏والداخلي، وبدَّلت كثيرًا من العناصر التي كانت تُعدُّ مسلَّمات آنذاك. لكن، أيّ تغيير ‏سيطرأ على الرِّواية وقد شهدنا خلال الشهور الماضية ولادة نصوص سرديّة جزء ‏منها يتأمَّل بذهول ما يحدث، والجزء الآخر يحاول التوثيق للَّحظة الحرجة للإنسان ‏وقد بدا سجينًا وحريَّته مهدَّدة مقابل تراجع مستوى عنصرين مهمّين من عناصر ‏العيش (الغذاء والدواء)؟  كثير من الناس ماتوا في الشوارع مع غياب المآوي ‏الصحيّة، ومع تقاتُل الكثيرين على نيْل غذائهم وقد ارتدّوا إلى غريزتهم متجاوزين ‏مفهوم الإنسان الحضاري.‏

تبدُّلات على الرِّواية

تجيء التغيُّرات والتبدُّلات على الرِّواية عادة من رحم ما يطرأ على المجتمع، بل إنها ‏عادة ما تكون ردّ فعل على ما حدث، وهذا ما جرى إثر الحربين العالميتين بكل ما ‏جرَّتهما من ويلات على الإنسان وسُبُل عيشِه واستقراره، وبالتالي طرائق تفكيره، ‏فكانت الحداثة التي رغم جذورها المقدّماتية، إلا أنَّ انهيار منظومة الإنسان ومكانه إثر ‏هاتين الحربين كانت السبب في انبثاقها بسرعة حين ظهرت كثورة على ما كان سائدًا ‏آنذاك؛ فمنذ ذلك الحين أخذت الرِّواية بصفتها جنسًا أدبيًّا راصدًا عبر أدوات المخيّلة ‏والواقع تمضي في طرق تطوُّراتها، فتمخَّضت عنها مدارس جديدة، وأساليب ولغة ‏جديدين، ولهذا ولّدت رؤى مختلفة في معاينة الإنسان وانكساراته وأحلامه بالعيش، ‏بحيث تسنّى لها أن تُغاير الأدوات الكلاسيكية مثل: (الحارس في حقل الشوفان) ‏لـ"جيروم ديفيد سالينجر"، و(عوليس) لـ"جيمس جويس"، وكثير من الأعمال ‏لـ"هاينرش بول"، و"غونتر غراس"، و"زجفريد لينتس"، و"مارتن فالسر"، و "ت.س. ‏أليوت"، و"فيرجينيا ولف"، وفيما بعد عربيًّا (اللص والكلاب) لـ"نجيب محفوظ". ‏

الرِّواية بعد كورونا

بعد مضيّ أسبوع على عزلة الإنسان في منزله تفاديًا لشرور الـ(كورونا) أخذنا نشهد ‏ظهور نصوص تأمليّة على وسائل (التواصل الاجتماعي) لكُتّاب مغمورين وكُتّاب ‏مكرَّسين للحال التي يعيشونها وراء أبواب منازلهم وأمام شاشات التلفاز مراقبين أخبار ‏الوباء، بل حتى ظهرت نصوص لقرّاء لا يدرجون أنفسهم في خانة الكتّاب. أمّا على ‏صعيد القرّاء فقد التفتوا إلى روايات الوباء على سبيل المثل لا الحصر: (دفتر أحوال ‏عام الطاعون) للإنجليزي "دانييل ديفو"، و(الحب في زمن الكوليرا) لـ"ماركيز"، ‏و(الطاعون) لـ"ألبير كامو"، و‎)‎استئصال) للروائي المغربي "الطاهر بن جلون"، ‏و(أيبولا 76) للروائي السوداني "أمير تاج السر". ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل ‏ظهرت أصوات روائيّة تنوي الكتابة عن مرحلة كورونا على الرغم من عدم ‏انقضائها، بل حتى مع مضيّ أشهر ظهر على الصَّعيد العربي عدد من الروايات ‏أخذت موضوعاتها من هذه المنطقة التي جوبهت بتحذير من تسريد الـ"كورونا" في ‏هذه المرحلة؛ لأنَّ هذا الأمر فيه مغامرة لأسباب كثيرة؛ أهمّها أنَّ الشرط الزمني لم ‏يتحقَّق بعد إزاء هذه المسألة، لكنَّ كل ما سلف ذكره يُعدُّ إشارات مهمّة إلى طبيعة ‏النمط الروائي القادم. ‏

يستقي الرِّوائي مادته لخلق روايته من ثلاث جهات: الماضي، والحاضر والمستقبل ‏عبْر أدواته التي أنتجتها خبرته وموهبته، فإمّا نقرأ له رواية تاريخيّة، وإمّا رواية ‏تُعاين الواقع بحسب أدواته، وإمّا رواية (دستوبيا)، لكن في زمن الكورونا، وحيث ‏وجد الروائي نفسه مثله مثل سائر البشر يركن لهذا الشكل الغريب من أشكال العزلة، ‏فإنه وبالتأكيد سينحاز إلى تأمُّل أبعاد الكون: (نفسه، مكانه، وزمانه) وهذا التأمُّل ‏بالطبع سيفضي إلى سؤال المصير الذي لن يؤدّي إلى إجابة إلّا على المدى الطويل، ‏وهذا عائد إلى طبيعة المرحلة وتعقيداتها. ‏

إنَّ مسألة التَّباعد ستحفر عميقًا في نفس الكاتب وذهنيّته، وسيجد نفسه -بوعي غير ‏مباشر- قبالة مُساءلة نفسه أوّلًا، مساءلة بالطبع تقود إلى الجديد الباحث عن إجابة ‏والمتأمِّل بمستوى غير نمطي، سيتأمَّل طفولته، وشبابه، وكهولته، وحتى سيؤدّي به ‏هذا إلى تأمُّل فكرة الموت التي ازداد التفكير بها والفيروس يتربَّص بكل واحد على ‏وجه هذه البسيطة. ‏

ربَّما تأتي التغييرات على الرِّواية من جهتين، وسيكون للتغيير شكلان؛ حيث سيذهب ‏النَّمط القادم إلى تأمُّل اللّحظة الرّاهنة واللّحظة المستقبليّة بوعي سردي مفتوح ينسف ‏العناصر الروائيّة التي كانت سائدة، لكن سيقابل هذا الشكل الروائي المرتقب شكل ‏روائي رقمي يتَّكئ على الرُّؤية العالميّة في الذِّهاب بالإنسان إلى أقصى حدود الرَّقمنة، ‏ويأخذ شرعيّته منها؛ فقد هيأت طبيعة المرحلة الإنسان إلى تغييرات من هذا النوع؛ إذْ ‏ارتفعت أسهم الكتاب الإلكتروني والتسوُّق عبر الإنترنت وتسديد الفواتير، والمعاملات ‏المالية الإلكترونية، وتراجَعَ مقابل ذلك الإقبال على الكتاب الورقي بنسبة تضاف إلى ‏النِّسب السابقة في التناقص المستمرّ لعدد المقتنين له. يعتقد كثيرون أنَّ الحال ستعود ‏إلى ما كانت عليه قبل كورونا، لكنَّني أرى أنَّ الإنسان كما يعيش حربًا في هذه ‏المرحلة، فإنه سيخوض حربًا قادمة، للآن ليس واضحًا مَن سينتصر فيها. ومن هنا ‏أرى أنَّ الشكل السردي للرِّواية سيكون حرًّا وربَّما يُبنى على شيء من شكل رواية ‏الحداثة التي نسفت ما قبلها من أشكال كلاسيكية، وهذا بالطبع قادم من رفض شكل ‏مرحلة الكورونا بكل ما خلّفته على الروائي الذي عانى عزلة قسرية لم تكن مناسبة لا ‏للكتابة ولا للقراءة؛ لأنَّ شرط الاستقرار لم يتوفَّر، بل جوبِه بحالة قصوى من القلق، ‏وحينما نقول: "شكلًا حرًّا" فهذا يعني الابتعاد المتعمَّد عن الالتزام بشكل الرِّواية سابقًا، ‏لأنَّ الأشكال السابقة لا تخدم التوجُّه الروائي الجديد، فهو تأملي يغوص بالذات ‏الإنسانيّة قبالة عالم هدَّدها بشراسة، ليس على صعيد ما تمخَّض عن فيرورس كورونا ‏فقط، بل عمّا تمخَّض عن التحوُّلات العالميّة أيضًا، والتي شيَّأت الإنسان وراحت ‏تسعى إلى تصفيته من كثير من العناصر التي لا تتوافق مع متطلبات السوق، وهذا ‏الغوص يُراد له لغة تقع في المنطقة الوسطى بين لحظة الدراما التأمليّة ولحظة الشِّعر، ‏فبرأيي لن يصبح للُّغة الواصفة للمكان وللشكل الخارجي للشخصيات أيّ نفع أمام هذه ‏اللغة التي تغور عميقًا في مجاهيل الإنسان، وهذا بالطبع سيقرِّبها من علم النفس ‏وخاصة (كارل غوستاف يونغ) الذي تتطابق طروحاته فيما يخص الذاكرة الجمعيّة مع ‏ما أفرزته مرحلة الكورونا من تساؤلات وحيرة بشريّة أمام التكهُّنات بمصير العالم ‏الذي تتعالى حياله آراء تتعلق برقمنته، وبضرورة تصعيد العلم والابتكارات الجينيّة ‏بمعزل عن الرفوضات التي تتكئ إمّا على رؤى دينيّة أو إنسانيّة. ‏

هنا يمكنني القول إنَّ هذا التيار الروائي القادم ربما يأخذ من أساليب وشكل ولغة ‏روايات الحداثة وروايات ما بعد الحداثة بعض العناصر، فقد نجد روايات فيها جانب ‏من تيار الوعي، والحساسية الجديدة، وتلك الروايات التي خرجت على كل عناصر ‏الرِّواية الكلاسيكية، لكن هل سيمضي هذا النمط الروائي الجديد لوحده في هذه الدرب؟ ‏بالطبع لا، فكما قلنا سابقًا سيوازيه نمط روائي رقمي، فقد سبق وأن ظهرت أوَّل ‏رواية رقميّة للكاتب الأردني "محمد سناجلة" (ظلال الواحد)، وتبعه عدد من الكتاب ‏العرب، وثمّة إرهاصات على الصعيد العالمي لهكذا نمط روائي، الأمر لن يقف عند ‏الشكل الذي نعرفه من الكتاب الإلكتروني، إنما سيمتد إلى رواية رقمية ذات محتوى ‏مختلف يتوافق مع ما يحدث وما سيحدث من تبدُّلات وتطورات على الصعيد العالمي. ‏

في هذه الأيام وما سبقها لم يحدث أي صراع بين الرِّواية الرقمية والرِّواية التي اعتدنا ‏عليها في كتاب ورقي أو ملف إلكتروني مثلما حدثت سابقًا صراعات بين الرِّواية ‏الكلاسيكية والرِّواية الحديثة، وحدثت سجالات كثيرة على هذا الصعيد، لكن المرحلة ‏المقبلة برأيي ربما تشهد شيئًا من هذا القبيل لأنَّ القادم من الأيام سينتصر للرواية ‏الرقمية شئنًا أم أبينا، وسينتصر لكل الأشكال الرقمية المتعلقة بالكتابة، لكن هذا لن ‏يطلعنا على مَن سيسود في النهاية، خاصة أننا أمام تراجُع عالمي في نسبة القراءة، ‏فما عادت على سبيل المثال وسائل النقل في لندن تشهد ذلك العدد اللافت من القرّاء ‏أثناء رحلاتهم، بل تشهد تبدُّل الكتاب بالهاتف والحاسوب المحمولين لصالح تطبيقات ‏لا علاقة لها بالكتاب والكتابة، وبرأيي سيتبدّل الأمر بنسب أكثر ممّا كان عليه. ‏

خلاصة

من المتعارف عليه أنَّ التبدُّلات الكبرى تُفضي إلى تبدُّلات أكبر، وأنَّ ما من زلزال إلا ‏ويؤدّي إلى انزياح في إحدى طبقات الأرض بما أنه جرّاء انزياح لطبقة أخرى، ‏وتفشّي وباء كورونا، ومن ثم ما تمخَّض عنه من آثار سلبيّة على الإنسان بكل هذه ‏الكارثية، لا بدَّ وأنْ يؤدّي إلى انزياحات كثيرة؛ منها انزياحات على صعيد الرِّواية ‏التي باتت في هذه الأيام من أكثر الأنماط الأدبيّة تداولًا على صعيد الكتابة والقراءة، ‏ولا بدَّ لما سيجيء من انزياح/ تبدُّل إلّا وأن يكون خارجًا على السّائد لا مستمرًا به، ‏لهذا أزعم أنَّ الراوية في المستقبل القريب ستبنى على تأمُّل الإنسان لذاته وعبر أدوات ‏جديدة ربَّما تُبقي على بعض ملامح ما كان منها، إلّا أنَّها ستكون ذات شكل ولغة ‏وأسلوب جديد: رواية تأمليّة ستطرح المزيد من الأسئلة حول مصير الإنسان. ‏