جماليّات الأسطورة في رواية "قربان مؤاب"‏

إبراهيم محمد أبوحماد

محامي وكاتب أردني

 

 

تُبحر رواية "قربان مؤاب"، لكاتبها يحيى عبابنة، في ميثولوجيا الملك المؤابي ميشع، ‏وتحاول بيان أنَّ العداء تاريخي وجودي بين الاحتلال الصهيوني والشعب المؤابي ‏والفلسطيني والشعوب التي سكنت حوران من العمالقة الباشانيين، وتناقش الرواية ‏أسطورة الحدث والمكان والشخصيات والكائنات والموجودات الأسطورية، ويعالجها ‏الكاتب يحيى عبابنة المتخصص بالساميات بشكل روائي خيالي.‏

في روايته "قربان مؤاب"، يحاول الدكتور يحيى عبابنة أن يعيد تشكيل الهويّة ‏الأردنيّة، فالتاريخ العربي القديم هو جزء من هويّتنا، والصراع العربي الصهيوني ‏صراع وجودي لاحتلاله الأرض، ومحاولة الهيمنة المستمرّة على المنطقة، وإحلال ‏شعب غريب محلّ الشعوب الأصليّة، وتآمر الإمبريالية الاستعمارية على الحق ‏الفلسطيني في الأرض والحريّة.‏

وتُشكِّل رواية "قربان مؤاب"، منشورات وزارة الثقافة الأردنية (2014)، ردًّا كتابيًّا ‏على ادِّعاءات "إسرائيل ولفنسون" في كتابه "تاريخ اللغات السامية"، بأنَّ التقارب بين ‏اللغتين العبرية والمؤابية يدلّل على قرابة بين الإسرائيليين والمؤابيين(ص101)، ‏ويؤكِّد يحيى عبابنة بأنَّ اللغة العبرية مسروقة من اللغة الكنعانيّة، فالعبرانيون قوم بدو ‏رحَّل سرقوا اللغة والآلهة الكنعانيّة "بعل" والحضارة الكنعانيّة.‏

ويضيف بأنَّ اكتشاف نقش الملك ميشع في ذيبان في العام 1868م، يكشف عن حقيقة ‏العلاقة بين العبرانيين والمؤابيين، وزيادة على ذلك فإنَّ الكاتب ينحو نحو الأسطرة ‏ليتجاوز العقل، ويروي لنا أسطورة مطويّة في الزّمن. فبينما التوراة تذكر بأنّ نصر ‏الملك المؤابي بسبب غضب الرب على ملوك إسرائيل، فالرواية والنقش يبيِّن الصراع ‏القومي والاقتصادي ومقاومة المؤابيين لهذه الهيمنة، التي تشكل في جزء منها امتدادًا ‏لصراع اليوم.‏

‏ وكما يؤكد العبابنة في روايته، ورشاد الشامي في كتابه "رؤى إسرائيلية فى إشكاليات ‏التاريخ والفكر الديني اليهودي" بأنَّ الأدوميين حُملوا قسرًا على اعتناق الديانة ‏اليهودية، ممّا ينفي أيّ ادِّعاءات بالهويّة العرقيّة الموحَّدة لليهودية(ص50)، وما يزال ‏البحث متواصلًا لبيان سبب اندثار المؤابيين والأدوميين؛ فيذكر "ولفنسون": بأنَّ ذلك ‏يرجع لكونها أمم صُغرى مقارنة بغيرها من الأشوريين والبابليين والفراعنة، وأمّا ‏التوراة فتزعم هلاك الأدوميين لتحقق الرؤى التوراتية، بهيمنة يعقوب على عيسو، ‏الذي من أحفاده أدوم.‏

كُتب نقش ميشع باللهجة المؤابية، والتي تعتبر إحدى اللهجات الكنعانية، لا كما يصفها ‏‏"ولفنسون" باللغة العبرية القديمة، ويدلّ على ذلك أنَّ آلهة المؤابيّين "كموش" وثنيّة، ‏وبأنَّ المؤابيين يؤمنون بتعدُّد الآلهة، وأنَّ العبرانيين موحدون ووثنيون، ويوضح ‏الكاتب بأن العلاقة العدائية بينهما تثبت بأن ديانة كل منهما وقوميتهما ولغتهما مختلفة، ‏وحيث أن للمؤلف كتابًا باللغة المؤابية فيُستنتج منه أنَّ المؤابية ليست إحدى الكتابات ‏التي تطورت إلى العربية، وبالنتيجة فإن ذلك يطرح أسئلة عن عروبة المؤابيين، ‏ويطرح تطوير علم الآثار الأردني لبيان لغتهم وحضارتهم وموجوداتهم الحضارية ‏وكائناتهم وديانتهم، بما يعطي صورة واضحة عن المؤابيين، وتجسيده بشكل مادي ‏متحفي أو سينمائي مرئي ليعطي تصوُّرًا أوضح عنهم، مما تترشّح معه هذه الرواية، ‏لكتابتها بشكل سيناريو وانتاجها تمثيلًا.‏

وإنّ الكاتب أدرج نقش ميشع وترجمته وقائمة بأسماء الأماكن المؤابية، وهو يطرح ‏رؤية أردنية للحضارة المؤابية من خلال نقش ميشع، والذي يُعرفنا على لغتهم ‏وصرفها وأصواتها، وأماكنهم وديانتهم، ولقد قُدِّمت العديد من الدراسات حول ‏المؤابيين للبحث في حضارتهم، وما ورد عنهم في النقوش الفرعونية والأشورية ‏والتوراتية، وإن الطرح التوراتي يُبين الحقد التوراتي على العمونيين والمؤابيين، ‏واتهامهم بأنهم أبناء زنا، ويُقدم الكاتب طرح القربان البشري في الرواية، وتعليله ‏الأسطوري الذي يتمثل في استثارة الشعب المؤابي للتضحية والقتال ضد العبرانيين. ‏وهناك إشكاليات عديدة وردت في التوراة تتحدث عن ديانة المؤابيين والبغاء الديني، ‏ولذا فإن التوراة تتحدث عن أمور مستقبلية، فالتوراة لم تنته كتابتها وأسطرتها بعد.‏

وفي الخيال الأسطوري، فإن الكاتب قدم الحقيقة التاريخية من مصادرها العلمية، ونقد ‏الرواية التوراتية، ومع اكتمال الرواية من حيث عدم خلق الأسماء للملوك الأدوميين، ‏وبخيال أدبي يُمتع القارئ في تلقي هذه الرواية التاريخية الأسطورية، مع إسقاطها ‏على أرض الواقع، فهي تاريخية تناقش الحاضر والصراع العربي الصهيوني.‏

ينقل لنا اللُغوي يحيى عبابنة أسطورة الملك المؤابي ميشع بشكل روائي، بما تتضمن ‏الأسطورة من خيال أدبي وديني، بهدف تحقيق التوازن النفسي للقارئ الحالي في ‏الصراع العربي الصهيوني، فهذه الرواية التاريخية، لا تخاطب الماضي، بل تناقش ‏وتسائل المعاصر والمستقبل، وبما يتوافق مع المجتمعات الحديثة البرجوازية، ‏المرتبطة بالمجتمع البرجوازي، وانتقاله من الملاحم البدائية إلى هذا الفن وفق ما ‏يذكره "هيجل"، ومن الممكن بيان الصراع الطبقي في التوراة بحيث أنَّ العبرانيين ‏كانوا يهدفون إلى السيطرة الاقتصادية على مملكة المؤابيين، فالصراع الطبقي ‏الاقتصادي يمكن تفسيره في هذه الرواية، وما زالت هذه المحاولات قائمة لغاية الآن ‏بالسيطرة على الأرض ومواردها الطبيعية، وبما يحقق أكبر عائد ممكن، مع استعمال ‏السكان في العمالة أو طردهم وفق مصالحهم، مما ينطبق عليها مفهوم الرواية ‏التاريخية بالتفسير المذكور برؤية "لوكاتش".‏

‏ لقد كان لنجيب محفوظ دور مهم في تقديم الرواية التاريخية المعاصرة، وفي ذلك ‏دراسات، نذكر منها دراسة د.سناء شعلان عن "الأسطورة في روايات نجيب محفوظ" ‏من منشورات نادي الجسرة الثقافي، وهناك العديد من الدراسات لروايات إبراهيم ‏الكوني والطاهر وطار، وفي الشعر لدى محمود درويش وبدر شاكر السياب، وتُشكل ‏هياكل هذه الدراسات نموذجًا يحتذى به في دراسة النزوع الأسطوري الروائي، وكيفية ‏تشكله في العمل الأدبي شعرًا أو نثرًا في المكان والزمان والكائنات والحدث ‏والموجودات والشخصيات والكائنات واللغة والبناء الفني والرمز والوصف ‏الأسطوري، إلا أنَّ مصر تزخر في تجسيد ذلك ماديًّا في متاحفها ومكتباتها والمعالم ‏الأثرية المتحققة للعيان، وهذا ما يعوزنا لتمثيله كواقع مادي ملموس، سواء في البتراء ‏أو جبل القلعة أو أم قيس وغيرها من الأماكن لبناء اللوفر الأردني، ممّا يثري السائح ‏والمواطن والباحث، والمبدع، أو تقديمها كأسطورة للأطفال، وفي محاولة لبيان ‏جماليات الأسطورة في رواية "قربان مؤاب"، نرصد الملامح التالية.‏

 

‏1-‏ المكان الأسطوري:‏

قدّمت الكاتبة حنين أبداح في دراستها "جماليات المكان في رواية قربان ‏مؤاب" المنشورة في مجلة ثقافات الإلكترونية ما يبين جماليات المكان حيث ‏أفرد الروائي لهذه الأمكنة قائمة بها (217) مكانًا، باعتبار الأسطورة تمثل ‏العقل الجمعي لمقاتلي مؤاب وباشان والفلسطينيين وفق تفسير "يونج" النفسي، ‏وبذلك فالمكان يمثل الحدث الأسطوري الذي يدور عليه الصراع برفض ‏الهيمنة العبرانية، وصراع الوجود، ورفض الاستغلال الاقتصادي الذي ‏يمارسه العبري مثل دفع الجزية الظالمة، وبذلك فالمكان يقدم تصور عربي ‏غير توراتي لهذه الأمكنة.‏

 

‏2-‏ الزمن الأسطوري

يستهل الكاتب الرواية بتقنية "الفلاش باك" والتذكر لخادم الفاكهة أدوني بحيث ‏يسرد الصراع بين المؤابيين والعبرانيين، وثنائية الآلهة لدى اليهود بعبادة الآلهة ‏بعل، آلهة الكنعانيين، وتتوالى عملية الاستذكار في حديث الملك الأدومي يقشان ‏والملك عمري في سرد الصراع بين العبرانيين والمؤابيين، واستخدَم عبابنة ‏تقنية الاستباق والتوقف في الوصف "كانت شمس تموز حارقة تنصب على ‏الأراضي التي تحيط ببحيرة الملح بلا هوادة فتضرب الأغوار بسهامها ‏الحارقة، وتسقط على الأدمغة فتكاد تغلي من شدة الحرارة، وكان القادة ‏اليهود...".‏

‏3-‏ الحدث الأسطوري

‏ يتمثّل الحدث الأسطوري في قوة المؤابيين عند رفضهم الاستغلال العبري، ‏وبناء قوتهم، لا كما تبينه التوراة بأنه غضب الآلهة على ملوكها الطغاة، مما ‏يبين أهمية العمل والعقل، لا انتظار الخلاص.‏

‏4-‏ الشخصية الأسطورية

تتمثل الشخصية الأسطورية بالملك ميشع، وبيان أنَّ عمله لم يكن فرديًّا، وإنَّما ‏من الشعب المؤابي وقادته من شخصيات أسطورية مثل داثار وأشهاد وبالاق ‏وحاروش وسباق وبلسام، وحوران قائد جيوش باشان، وبلسطونيوس قائد ‏القوات الفلسطينية، والذين أفرد لهم عبابنة قائمة في نهاية الرواية(215).‏

‏5-‏ الكائنات الأسطورية

تزخر الرواية بالكائنات الأسطورية التي تقدم قرابين للآلهة ومنها الأكباش ‏والخراف، وتقديم القربان البشري الأمير بلسام لاسترضاء الآلهة كموش "آيها ‏الألهة كموش لقد أرسلت إليك فلذة كبدي بيدي هاتين ‏

هل رضيت الآن يا كموش؟

هي مشيئتك!"(202-203).‏

‏6-‏ اللغة الأسطورية ‏

تنحو اللغة الأسطورية في الرواية نحو اللغة الفصحى في لغة السرد والسارد، ‏ممّا يعطيها جمالًا أدبيًّا في الطرح.‏

وعلى سبيل الختم فإنَّ الرواية تقدِّم رؤية نقدية أدبية ماتعة لتاريخ المؤابيين، ‏وتسرد نقش ميشع بحكائية، تؤسس لسردية أردنية جديدة، ولتكشف حقائق ‏وأماكن، وتردّ على الرواية التوراتية، ويا حبذا نقل العمل إلى الدراما ‏التلفزيونية، وقصص الأطفال. ‏