"بندورة الحيّة"‏ بين تقاطع الأحداث وخيط البطولة

‏يوسف حسن ناجي

كاتب أردني

 

تمتلك الشخصيات في "بندورة الحية" سحرها الخاص، بحيث يجد فيها القارئ متعة كبيرة، ومع أنَّ ‏الكاتب مخلد بركات اتَّكأ على الواقع في ترسيم هذه الشخصيات، إلا أنه تجاوز الواقع وكأنَّ تلك ‏الشخصيات قفزت من مخياله وراحت تتجوَّل في بيوت القرية ونواحيها، لتنبعث منها وتتحلّق حولها ‏عناصر السَّرد، فيبقى أثرها محفورًا في ذاكرة القارئ الذي يقع تحت سطوة الاسترسال في تأمُّلها، هي ‏شخصيات أغنى ثراؤها النص فكريًّا وجماليًّا.‏

 

ليسَ من السَّهل قراءة رواية الأديب مخلد بركات "بندورة الحيّة"؛ فلم يترك الكاتب للقارئ فرصة يتنفَّس ‏منها رائحة التوقُّف والتبصُّر، بل سحبه معه لاهثًا وراء الأحداث المتقاطعة ليرتقها بخيط حركة الأبطال ‏والشخوص الذين لعبوا أدوارًا رائعة في تنظيم الحدث الأكبر للرواية.‏

الرِّواية بنت بيئة اكتملت فصول ثقافتها، وترسَّخت عند ساكنيها، وهذا ما يُحسب للكاتب بمحافظته على ‏النَّبض الحيّ لهذه الثقافة من خلال الصور الحيّة التي تترجم واقع الحال، والمصطلحات ذات الدلالة ‏المعبِّرة عن جغرافية المكان، إضافة إلى إثراء الرواية بشخصيات ليست هامشيّة بل هي فاعلة وهي ‏بصمة من بصمات المكان الذي وُلدت فيه وتعيشه، وحتى نكون قريبين أمام قارئ هذا النص لا بدّ من ‏الإشارة إلى هذه الدلالات التي أجاد الكاتب في رسمها وتوظيفها دون رتوش. ‏

مَن يحاول رسم نبض حياة المكان عليه أنْ يدرك أنَّ أبطال روايته ليس بالضرورة أن يكونوا من البشر ‏فقط، لأنَّ الصورة التي يريدها لا تكتمل بذلك، فلا بدَّ من مشاركة المكان، والشجر، والحيوان وأيضًا ‏الصور الوصفيّة التي تكمل المشهد، وهذا ما وعاه كاتبنا والتفت إليه، وعمل على توظيفه.‏

‏ نبدأ بشخوصه -بحسب درجة حضورهم- من أجل رتق تقاطع الأحداث كما أسلفنا، فحركة الشخوص ‏في النهاية تؤلِّف الصورة الكليّة للمشهد الدرامي في القرية التي اختارها ميدانًا خصبًا لروايته.‏

‏"صبحا"؛ البطل الغائب الحاضر في الرواية، والكل ينتظر عودتها، وهنا أراها تتشابك قليلًا مع مفهوم ‏شخصية "غودو" في مسرحية "صموئيل بيكت" المسمّاة "في انتظار غودو"، فهي الغائبة التي ينتظر ‏الجميع عودتها، "هو ينتظر قدوم صبحا ببقجتها الطاهرة، المليئة بحكايا النواطير، ودردشات الأمهات ‏عند الآبار الرومانية وهنّ يغسلن صوف الأغنام، ويدعسنه بأقدامهنّ العارية ليشعّ أبيض ‏كالشحم"(ص33). ‏

هذه "صبحا" التي وُلدت ذات خميس والجميع بانتظارها، لكنَّ الكاتب لم يترك صورتها منفردة، بل هي ‏جزء من اللوحة التي يرسمها، ونلاحظ الصور الحياتيّة المرسومة ببراعة، فحكايا النواطير والبقجة، ‏وغسيل الصوف بالدَّعس، إنها لقطة لحالة تعيشها القرية وقت جزّ الصوف، و"صبحا" الغائبة لن تعود، ‏وهي تثري حديث الناس في القرية، وفي العادة يكون هناك في القرية غائب ليطول الحديث عنه، ‏واختار الكاتب "صبحا". ‏

‏"فلاح"، شقيق "صبحا" الغامض في حضوره، والغامض في غيابه، وكأنه شخصيّة دون هويّة، ومثل ‏هذه الشخصية تلازم القرية، فهو الوحيد الذي أكمل علمه، وكان الأوَّل في مرحلة التوجيهي، ولكن ‏غموضه ترك الألسن للتحدُّث عنه بما ليس فيه، وهو غير عابئ بما يقولون، وقد حسبه بعضهم بديلًا ‏لـِ"سلامة"، وألبسه بعضهم ثوب العلم والطب، حتى معلم المدرسة يقول: "واحتاروا في أمره، في سرِّه ‏الباتع، ظلّ قابعًا في حجرته بعيد العليّة يؤمّه المرضى من القرى البعيدة، كي يشفي أوصابهم من وراء ‏حجاب، شهرته طارت إلى الآفاق"(ص25).‏

‏"حمدان" و"هلالة" والدا "صبحا" و"فلاح" اختار الكاتب من حياتهما الصُّور الجوانيّة غير المُعلنة وغير ‏المُباحة عند كثير من المجتمعات، وقد تكون أحيانًا من المحظورات، لكنَّها صور مُعاشة في البيئة التي ‏يتحدَّث عنها الكاتب، وبالتالي يتحدَّث بها الكل علنًا ضمن ثقافة اجتماعيّة "وتندسّ بجانبه، يشمّر عن ‏ثوب أكلته الحقول... وتعلو همهمات مكبوتة والخرابيش القريبة مفتوحة على الحكايات وآهات ‏مكبوتة"(ص10). إذن الخرابيش مفتوحة على الحكايات، وأصحابها يعرفون كلّ شيء "كثيرًا ما تناول ‏رجال القرى مناقب هلالة، ومكامن الجاذبيّة فيها"(ص41)، من هنا ندرك أنَّ الحديث عن خصوصيّات ‏العلاقات الأسرية ليست حكرًا على النساء، بل أيضًا هي حكايات يتداولها الرِّجال. ‏

‏"سلامة" وزوجته، "سلامة" عرّاف القرية وساحرها وهو شخصية ذات حضور في كل القرى الأردنية؛ ‏لذلك حرص الكاتب على حضوره، أمّا زوجته، ففي العادة يكون دورها هامشيًّا، وهنا هو كذلك، لأنَّ ‏العرّاف لا يسمح لأحد أن ينتزع الأضواء عنه حتى لو كانت زوجته، والشخصية هنا مهلهلة حتى لا ‏تكون أسطوريّة، وهناك مَن يتطاول عليها، ومَن يطعن بقدرته على العمل الخارق، حتى زوجته، وقد ‏لمسنا ذلك حين ذبح الديك متوهِّمًا أنه قد ذبح "فلاح"، فتصرخ بوجهه: "أنت ذبحت ديكنا اللي ما لنا ‏غيره"(ص32)، وأرى أنَّ فكرة ذبح "فلاح" من قِبل "سلامة" أمرٌ طبيعيّ، فهو لا يريد منافسًا له، ‏خاصة بعد أن سمع في القرية مَن يقول: "فلاح يبرئ الأكمة"(ص26)، وعلى الرغم من تطاول بعضهم ‏على "سلامة" إلا أنَّهم لا يستغنون عنه عند المصاعب، وتبقى له عزوته في ذلك، ونلمس هذا عند ذهاب ‏‏"هلالة" إليه لتسأله عن ابنها "فلاح". ‏

الأستاذ، وهو في العادة يكون من خارج القرية، وهنا نسبه الكاتب إلى بلاد الشام، وهذ الأمر مألوف، ‏واعتادته كل القرى، وأقول هنا لقد تأخَّر الكاتب عن ذكر اسم الأستاذ واكتفى بكلمتي أستاذ أو معلم حتى ‏صفحة 45، أي بعد مرور ثلثي الرواية، ومع ذلك، فقد تمّ رسم هذه الشخصية بدقَّة من خلال علاقتها ‏بمَن حولها؛ الطلاب، الأهالي، العادات، ونلمس حوارات الأستاذ مع التلاميذ وكأنّها دروس حول ما ‏يدور في القرية بعيدًا عن التعليم، ومستلزماته التربوية. أمّا خروج الأستاذ من هذه اللعبة الروائية ‏وعودته إلى بلده، فإنَّني أراه خروجًا موفَّقًا، وجاء ضمن سياق الأحداث فعلًا مألوفًا.‏

‏"نعمان"، أو الفتى الأعمى، وهنا أتوقف قليلًا لأقول إنه في كل قرية شخصيّة هزليّة كوميديّة، لكن ‏الكاتب أراد الخروج عن المألوف ليكون الفتى الأعمى بديلًا عن تلك الشخصيّة التي اعتادها الناس ‏خاصة في حكايات الأفلام المصريّة، وهو هنا أعمى وبصير في الوقت ذاته، إنه يقود درّاجته بين ‏الأزقّة، وامتلاكه دراجة في الوقت الذي لم تتمّ الإشارة إلى وجود سيارة في القرية دليل على تميُّزه عن ‏أقرانه بفعلٍ لا يستطيعون عمله، قيادة درّاجة وهو أعمى، و"نعمان" متميِّز أيضًا بقوّته بين أقرانه، ‏وتفوّقه عليهم بالمواجهة، إضافة إلى ركوب الدراجة التي لم يكن أحد يتقن قيادتها "هجم التلاميذ على ‏الطفل الأعمى لكنه لاكمهم ببسالة، وطرحهم أرضًا تباعًا"(ص17)، وهو خارج حسبة اللّوم والتّقريع ‏والعقاب، كما سمعناه يتطاول على المعلم أكثر من مرّة، خاصّة عندما وصفه المعلم بصفات جيدة "قُل ‏أيها الأعمى الصغير، فأنت لوحة خلفيّة لحكايات القرى التي سوف تُروى في يوم ما"(ص39)، فيردّ ‏عليه "نعمان" بالبصق في وجهه، وهذا غير مألوف إلّا لشخصية مثل شخصية "نعمان"، ثم مناداته ‏باسمه: "الإطار معتم ومثقوب يا لطفي، ومزع يمزعك"(ص39).‏

الثمانية وتاسعهم كلبهم؛ هؤلاء شخصيات في القرية تمثّل مجموعة من الشباب تَوافقوا على كل شيء ‏جيد ورديء بمسمّى العصابة، ويكون بينهم التابع وهو هنا الكلب، كانت هذه الشخصيات مكمِّلة لصورة ‏الناس الذين يعيشون في القرية، وهنا قد يمثلون دور الرّاوي أو الحكواتي في المسرح الشعبي، فنسمعهم ‏عند كل ظهور لهم يُنشدون "تاج وليدك الأنوار لا الذهب، سيصلب منه حب الآخرين، سيبرئ الأعمى، ‏ويبعث من قرار القبر ميتًا هدّه التعب"(ص14)، ومثل هذه الأناشيد نسمعها أكثر من مرّة ونلمس فيها ‏الإشارة إلى السيد المسيح عيسى عليه السلام.‏

الخرّوبة، الديك، الدجاجات، الحصيني، أبو سعد، الثيران، الخيول، كل بيت في القرية يمتلك شجرة ‏خرّوب في وسطه، وقد كادت تمتلك صفة القداسة عند بعضهم، ولهذا فقد مرَّ ذِكْرُها أكثر من مرّة، وأهم ‏الصور البانورامية لشجرة الخرّوب هي "الخرّوبة شجرة الأحلام، شجرة اليتمان، وجوقة الموتى، ‏تكاثرت أعشاش الدوري وعصافير التين فيها، وتخشّنت مناقير أفراخ أبي زريق فيها "زرياب ‏الأوراسي"، حتى غدت غربانًا بيضاء منقّطة"(ص55).‏

الديك عند القرويّين مهم جدًا، فهو السبب الوحيد للتكاثر، وكان أهل القرى يتفاخرون بعدد دجاجاتهم كما ‏يتفاخرون بخيلهم، وكانت حراسة الدجاجات مهمة جدًا من الثعلب "الحصيني" العدوّ الأكبر للدجاجات، ‏وفي العادة يُكرم القرويون الضّيف بذبح الدجاج وليس الديوك، ونرى غضب زوجة "سلامة" عظيمًا ‏عند ذبحه للديك، وجاء على لسان الأستاذ: "الديك هنا مشبع بالرُّموز والدّلالات الميثولوجيّة، الديك كاهن ‏عتيق عندما يصيح تسكت القرى عن الكلام المُباح احتفاءً بالأنوار المخبّأة في دياجير الظلام"(ص 33).‏

هذا التتبُّع لخيط البطولة -كما قلت- كان لرتق تقاطعيّة الأحداث، ولتكتمل عند القارئ صورة الرِّواية ‏كاملة بنبضها الجغرافي الحقيقي، وأظن من حق القارئ أن يتلمَّس هذه الصُّور حتى يصل في النهاية إلى ‏نقطة يستطيع معها قراءة النص بسهولة أكثر ومتعة متزايدة.‏