الوعي الجمعي وثقافة الهامش ‏ في رواية "جماعة الرب" للرِّوائي عبدالسلام إبراهيم

عزيز العرباوي

كاتب وناقد مغربي

 

 

تَلتئمُ الأماكن والفضاءات في رواية "جماعة الرب" للروائي المصري عبدالسلام إبراهيم لتضمّ ‏تلك الديناميّة المختزلة للوعي الجمعي والشُّعور بالوجود والحضور الطاغي لإنسان الهامش. ‏فمفهوم الفضاء في الرِّواية متعلِّق بحضور الكائن البشري وتفاعله وبروز وجوده الثقافي ‏والاجتماعي داخله. ومعناه مرتبط بالأساس بوجود تبادل رمزي يشكِّل دعامة واعية للتَّعبير ‏والتَّفكير والتَّفاعل.‏

هناك علاقة قويّة بين المكان والإنسان، يحدِّدها الروائي عبدالسلام إبراهيم من خلال خلق ‏علاقة مع المجال الحيوي المجدِّد لنشاطات الإنسان وطقوسه الشعبيّة وإنتاجاته الثقافيّة البسيطة ‏والمفتقرة إلى الوعي العالِم. فالحياة العلائقيّة التي تربط الناس في الأحياء الشعبيّة والحَواري ‏والفضاءات الشعبيّة تمتدّ لتُنتج نوعًا من الوعي الجمعي تعبِّر عن الواقع في إطار رمزيَّته ‏الماديّة والمعنويّة. ‏

إنَّ الحياة في المجتمع المصري البسيط تحتفظ بتلك القدرة على منح مجال كبير من الحرية ‏للتعبير والتفكير والممارسة. فهي أكثر من كونها أماكن للارتباط الاجتماعي فقط، وإنَّما كونها ‏مجالًا لممارسة الاستقلاليّة والانفتاح على الآخر مع وضع ضوابط مجتمعيّة تحقِّق نوعًا من ‏التوازن الثقافي والاجتماعي وحتى الاقتصادي بين أفراد المجتمع.‏

من هنا، يبدو لنا أنَّ الروائي عبدالسلام إبراهيم قد فَهِمَ هذا المجتمع من خلال وقوفه على قيمه ‏الاجتماعية والفضائية والثقافية. لقد انطلق من هذا الفهم العام ليصل إلى تحديد شبكات ‏العلاقات العامة والخاصة في هذا المجتمع. وهو في روايته "جماعة الرب"(*) نجح إلى أبعد ‏تقدير في التعبير عن الوعي الجمعي وعن ثقافة الهامش في المجتمع المصري دون مركّب ‏نقص أو السقوط في الرقابة الذاتيّة القاتلة للإبداع الحقيقي.‏

 

من السُّلطة الدينيّة إلى سلطة الهامش

عالم الأحياء الشعبيّة والحواري عالم مليء ودينامي إلى أبعد الحدود. عالم متحرِّك لا تتوقف ‏فيه الحركة ولا تغادره الأحداث المثيرة والمؤثرة التي تخلق نوعًا من الصدمة لدى المتتبِّع ‏وحتى لدى ساكنيها أنفسهم. عالم يتميز بالوفرة في الوقائع والأحداث التي تثقل كاهل الجميع ‏وتخلق نوعًا من الدهشة العظيمة في العقول والقلوب. فحالة "عصمت عطيتو" مثلًا، الذي ‏تعرَّض لعقاب شديد (طبَّقته عليه جماعة دينيّة تدَّعي المحافظة على الأخلاق...) أفقده ‏خصيتيه جزاء له على تحرُّشه ببائعة الخبز، هي حالة إنسانية تعبِّر عن معاناة الرجل الشرقي ‏المحروم من الحياة البسيطة والعاديّة، من حياة سعيدة تقيه الفقر والفاقة والحاجة إلى رغباته ‏الإنسانية الجنسية والبطنية. فبمجرَّد أن يعبِّر الإنسان المقهور في المجتمع المقهور عن رغباته ‏يصير مُدانًا ومجرمًا ويُعاقَب عقابًا شديدًا لأنه تجرَّأ وأفصح عنها علنًا. ‏

إنَّ سلطة المجتمع قوَّة يلجأ إليها الحاكم لخلق نوع من التبعيّة واستعباد الضعفاء، وبالتالي ‏التنصُّل من واجباته تجاه الناس والشعب، فمثل هذه السياسات هي مَن تخلق نوعًا من الوعي ‏الجمعي بتكريس سلطة أخلاقيّة تُراقب الناس في حركاتهم وسكناتهم حتى الممات. بل تكرِّس ‏ثقافة مجتمعيّة ترسم الحدود وتبدع القوانين وتؤطِّر العلاقات بإيعاز من السلطة العليا ‏وبمباركتها. يقول الروائي في الصفحة 56 من الرواية: "بالتصفيق والغناء استقبل ‏المتاعيس المنتظرون في الخارج خبر ولوج العريس وانطلقت البنادق في موالٍ متواصل ‏من التهنئة تحت هدير الرصاص وتحوّل الهزيع الأخير من الزفاف إلى غناء همجي تتخلّله ‏طلقات رصاص الفرحة لمدة ثلاث ساعات متوالية بعد الولوج، لكن لم يعرف الصاخبون ‏السبب في التوقُّف المفاجئ للغناء وانطلاق رصاص تحذيري، وركض البعض في اتجاه ‏كوبري الضبعية العلوي وآخرون نحو نهر النيل ومجموعة أخرى توجهت إلى مركز ‏الشرطة. فوجئ البعض بصرخات النساء تصدر من الشارع الغربي، منطلقة من بيت ‏العروس والتي توجهت بعد ذلك إلى بيت العريس مباشرة، وحدثت مناوشات بين الطرفين ‏كادت أن تتحول إلى اقتتال لولا أن ذكرهم البعض بالمصير المجهول للعروس".‏

هذه اللحظة من السرد توحي بأنَّ هناك امتلاء فكري لدى الكاتب يحاول تصريفه لقارئه ‏بطريقة ما، بأسلوب شيِّق مفعم بالأحاسيس والمشاعر المؤثِّرة فيه. هناك وعي بوجود لحظات ‏إنسانية توحي بالألم والإنهاك والفوضى، لكنها في الوقت نفسه، لحظات تؤكد نوعًا من ‏التأسيس لثقافة شعبيّة، ثقافة هامشية يصعب اختراقها أو حتى توجيهها إلى وجهة أخرى. ‏هناك سبُل وقنوات لتكريس الشهوات واللذائذ التي لا تتوقف مصحوبة بالمعاناة والجراح ‏والآلام قد تقود إلى العدم والانغلاق، لكن الناس لا يرعوون ولا يترددون قيد أنملة عن ذلك. ‏إنهم يبحثون عن خلاصهم في عذاباتهم وآلامهم، كأنهم في جحيم لا يطاق وفي نعيم في آنٍ ‏واحدٍ. ‏

هناك نوع من الفوضى على مستوى المشاعر والسلوكات والوعي يتجلّى بوضوح في كامل ‏النص الروائي، وكأنَّنا بالروائي عبدالسلام إبراهيم يهدف إلى نقد الواقع الاجتماعي في مصر ‏ما بعد الثورة، وإلى مهاجمة السلطة الدينية التي أفرزتها الثورة وجعلتها تتحكَّم في رقاب ‏الناس وفي أعضائهم الحميمية وتحاسبهم على نواياهم وأحلامهم.‏

يشعر أفراد المجتمع البسطاء منهم والفقراء والضعفاء الذين يقضون جزءًا من حياتهم في ‏البحث عن لقمة العيش وإمكانية الاستمرار في الحياة مع فئات موسرة متسلطة على جميع ‏المستويات، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، بالظلم والإهانة. إنهم غير قادرين على مواجهة هذه ‏السلطة الجبارة، نظرًا لعدم استطاعتهم مواجهة أكثر من فئة وأكثر من مظلمة، فيحتكمون إلى ‏الاستسلام والبقاء في الظِّل دون أن يُسمع لهم صوت أو حسّ، حيث نجدهم يلجأون إلى ‏ممارسة الطقوس الشعبيّة التي يجدون فيها الراحة والسلام الروحي، وإلى البحث عن خلاص ‏لهم في فضاءات دينية محدَّدة كالأضرحة والزوايا، ممّا يجعلهم يتعرَّضون إلى الاستغلال من ‏طرف جماعات دينية وفئات سياسية لتحقيق مآربها وغاياتها السياسية والاقتصادية التي تعود ‏عليها بالنفع والربح الكبير. فحتى أفراحهم وحفلاتهم تغرق في الطقوس الشعبيّة المرفوضة ‏ثقافيًا والقريبة إلى الجهل والتخلف. ممّا يؤدي بهم إلى السقوط في الصراعات الكثيرة والجرائم ‏الخطيرة التي تودي إلى الهلاك والضياع.‏

 

المرأة المصريّة والبحث عن الخلاص

ماذا يدور في خيال المرأة عمومًا وفي ذهنها عندما تشعر بألم ما أو بفقْدٍ يكاد يقتلها ويُحيلها ‏إلى سراب؟ أهو البحث عن خلاص نهائي؟ أم البحث عن لحظات مليئة باللذة والمتعة ‏والخروج من الورطة القاتلة؟ ‏

عمومًا، وبنظرة تحليلية إلى الواقع، وإلى ما جاء في رواية "جماعة الرب"، نجد أنَّ المرأة ‏العربية عامة، والمصرية خاصة، قد انخرطت في الثورة على القيم السائدة اجتماعيًا والتي ‏جعلتها أسيرة تقاليد ذكوريّة استعباديّة واعتبارها متاعًا وموردًا للمتعة وإطفاء الشهوة. تمرَّدت ‏على ذلك بكل ما تملك من قوة وحيلة، تارة بالخروج في الثورات والمظاهرات، وتارة أخرى ‏بالهروب إلى بلدان أخرى وترك الجَمَل بما حَمَل، خاصة إذا أحسَّت بالوحدة والعجز وعدم ‏القدرة على الحب أو الشعور به في مجتمع يعتبر الحب شيئًا ممنوعًا، فما بالك بالبوحِ به ‏والكشف عنه؟ يقول الروائي على لسان الساردة التي تعيش معاناة من نوع خاص، معاناة ‏البحث عن ابن الحلال، عن الحب، عن الخلاص الذي يأبى أن يأتيها، عن ملجأ لها يقيها ‏الحاجة إلى الاستمتاع بأنوثتها الباذخة: "حاولتُ صناعة ابن الحلال مثل ماهيتاب؛ لكن ‏بحرفية متناهية الدقة، إذا نظرتِ إلى شاب لا تجعليه يظن أنكِ تنظرين إليه، بل انظري ‏إلى ما وراءه حينئذٍ سوف ترينه، دون أن تلتقيَ عيناك بعينيه، النظرة الخاطفة التي لا ‏تستغرق ربع ثانية سوف تمكنكِ من رؤيته تمامًا وفي الوقت نفسه تلفتين انتباهه، ولن ‏يحسب أنكِ نظرتِ إليه، لأنَّ الطرف الآخر يستغرق ثانية كاملة إذا شعر أنَّ هناك مَن ينظر ‏إليه، تلك الموهبة التي اختصّ بها الله النساء لماذا لا نستغلها في البحث عن ابن الحلال ‏دون أن يقلِّل ذلك من شأن أنوثتنا التي نحافظ عليها دائمًا؟ لمدة ستة شهور ظللتُ أحاول ‏صناعة ابن الحلال، وفشلتُ كثيرًا وكأنَّ صناعته تحتاج لتدريبات شاقة حتى يخرج من بين ‏يديكِ ابن حلال، يظلّ مؤمنًا حتى نهاية عمره بأنكِ صنعتِه، ولا يمكن أن تتمرَّد الآلة على ‏صانعها حتى تتعطّل".‏

عندما يصير ابن الحلال، والزواج هو عنوان الخلاص للمرأة الشرقية، فإنه من الصعب ‏الحديث عن تحوُّلٍ اجتماعي وثقافي ينتهي بتطور في الوعي الفري والجمعي معًا. مثل هذه ‏الأفكار والرغبات قد تُنتج نوعًا من النكوص في بناء مجتمع متطور حديث يقوم على المساواة ‏والعدالة والكرامة الإنسانية. فما دامت المرأة تمثل نصف المجتمع، وهي قاصرة على تحقيق ‏نوع من الاستقلالية في ممارسة حقوقها، فإنه من السهل جعلها في حكم التابعة للرجل ونظرته ‏الاستمتاعية لها.‏

إنَّ المرأة التي لا تجد خلاصها إلا في زواج كيفما كانت ظروفه وطبيعته، هي امرأة قابلة ‏للاحتكار الذكوري والتحكُّم في مصيرها ومستقبلها. تتوقّف حياتها في حيِّز ضيِّق ملؤه ‏الصخب والإنجاب والجنس والاهتمام بالآخرين دون التفكير في الذات وتحقيقها بطريقة ‏أخرى. المرأة العربية، والمصرية على الخصوص، ينبغي أن تكتب قصَّتها وتبدع روايتها ‏الخاصة من خلال مواقفها واختياراتها الكبرى البعيدة عن سقوطها بشكل عفوي في حبائل ‏الرجل والاستقرار بين يديه كجارية. ‏

الروائي عبدالسلام إبراهيم، وهو يستحضر العديد من الأحداث التي تعرَّضت لها العديد من ‏النساء، سواء المصريات منهنّ أم السوريات الهاربات من جحيم الحرب المدمِّرة، يبحث عن ‏التأكيد على فشل المجتمع العربي عمومًا في حماية نصفه الآخر، وإكسابه مناعة قويّة تجعله ‏في منأىً عن الاستغلال والامتهان. يقول على لسان الساردة في الصفحة 219 من الرواية: ‏‏"على الرّغم من أنني أبيْتُ أن أتحدث مع نسرين في اليوم التالي لزواجها من أبي؛ إلا ‏أنني كنتُ أستمع لحديثها ومحاولاتها المستميتة لإرضائي، وكانت تؤكد لي أنها لم تأتِ ‏لتحلّ محلّ أمي، بل جاءتْ لتلوذ وتستكين بمكانها كعابر طريق اشتدّ عليه الحَرّ في ‏صحراء لا ترحم آدميًّا تحت شمس كونيّة أرسلتْ أشعتها لتؤدِّب كل مَن أتتْ به الأقدار في ‏هذا الطريق، وحينما بلغ به القنوط أشده عثر على شجرة وارفة استظلَّ بها ثلاثة أيام ‏متتالية، وهيّأ لنفسه تحتها مجلسًا اندملتْ عليه كل الجروح والبثور التي خلّفتها الرمال ‏الملتهبة، وحينما رحل عابر السبيل هذا جاء بعده عابر آخر؛ لا ليحتلّ مكان الرجل، بل ‏جاء لينعم هو الآخر بالظِّل وبالمجلس الذي أعدّه، وتلك هي الحياة تمضي، ويرحل ‏عابرون، ليحلّ محلهم قادمون آخرون".‏

بالطبع، هناك وعي لدى الروائي يتجلّى في أنَّ المرأة المصرية تعاني في كل شيء، في كونها ‏الفرد الأكثر عطاء، والشخص الذي يتعرَّض للنقد مجتمعيًّا في كل فشل قد يصيب الأسرة ‏وأفرادها الآخرين. وبالتالي، فهي في فوَّهة البندقيّة دائمًا، وفي موقع الانتقاد على جميع ‏المستويات. إنَّها الفرد الأكثر عُرضة للظلم والاحتقار سواء كانت زوجة، أم عاملة، أم فتاة ‏متعلمة... لأنَّها غالبًا ما لا تردّ على الإهانات التي تتعرَّض لها وتحاول ردعها، وهذا ما يخلق ‏لديها نوعًا من النكوص والإحساس بالدونيّة والضعف في مجتمعها الصغير والكبير. ‏

‏- - - - - - - - - - - ‏

‏(*) عبدالسلام إبراهيم، جماعة الرب، رواية، دار عرب للنشر والترجمة، ط1، القاهرة، 2018.‏