"الكاتبون بالضّوء"‏ قَبَسٌ يضيء تجارب تنويريّة فذّة

 

‏سمير أحمد الشريف

قاص وكاتب أردني

 

 

في كتابه "الكاتبون بالضوء" يُطلعُنا كايد هاشم على تجارب قامات ثقافيّة وأدبيّة ‏وفكريّة، أسَّست لحياتنا الثقافيّة بتفانٍ وإخلاص؛ تجارب ستظلّ بصمتُها ماثلة في ‏الساحة الثقافيّة الأردنيّة والعربيّة، تميَّز أصحابُها بالعصاميّة والمواقف الوطنيّة ‏والانفتاح على الثقافة الإنسانيّة. وهذا ليس بغريب على مشروع كايد هاشم الفكري ‏والثقافي والذي يأتي في أولويّاته البحث والتوثيق للثقافة الوطنيّة في مرحلة التأسيس ‏والبناء للأردن الحديث.‏

يُعدُّ كتاب الأديب الباحث كايد هاشم الصادر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر ‏‏"الكاتبون بالضوء"، مدماكًا جديدًا في التأريخ للأدب المحلي الأردني، وهو بمثابة ‏رسوم قلميّة تُسلِّط الأضواء على تجارب تربط الواقع بوشائج الفكر والأدب وقضاياه ‏على الساحة الثقافيّة فيما يعبِّر عن الإنسان العربي فكرًا وطموحًا وإنجازًا، وقف فيه ‏على محطات مفصليّة في تجربة رجال كانت لهم بصمتهم في الساحة الثقافيّة الأردنية ‏والعربية. ونحن في هذه العجالة سنتوقف مع بعض هذه القامات الأدبية والفكرية التي ‏وثّق الباحث لها. ‏

من هؤلاء "حسن الكرمي"؛ الرجل الموسوعي الذي يمثل حالة استثنائية غير عادية ‏في الثقافة والفكر، توقف الباحث أمام مذكّرات "حسن الكرمي" التي تحكمها خطوط ‏ثلاثة؛ أوّلها الخط السير ذاتي الحياتي المعروف، ثم الجانب المرتبط بالحياة العامة التي ‏انعكست على حياته سلبًا وإيجابًا كأحداث فلسطين وتداعيات الحربين الكونيّتين، فيما ‏تمثَّل البُعد الثالث في الجانب الفكري العقلي وتجربة الكرمي الثقافية وأثر البيئة عليها، ‏ورحلاته إلى بريطانيا وعمله في إذاعتها، وعكوفِه على منجزه الأهمّ في مجال ‏المعاجم واللغة، ودعوته المخلصة الصريحة بضرورة إصلاح المعجم العربي بما ‏يتوافق مع روح العصر.‏

وأمام منجز "عقيل أبوالشعر"، نجد الكاتب يقف وقفة اندهاش وحيرة من عدم وجود ‏آثار للرجل وغيابها عن المتابعة والدَّرس، على الرّغم ممّا يمثله "أبوالشعر" من حالة ‏متفرِّدة من الوعي الفكري للقضايا العربية القوميّة لدرجة يمكن القول معها إنَّ "عقيل ‏أبوالشعر" بكتاباته يشكل سلاحًا مقاومًا وخبرة مميزة بالاتصال بالعالم الخارجي في ‏فترة تاريخيّة مفصليّة، ويكفي التَّنويه لروايته المطبوعة في باريس سنة 1921 التي ‏تشير إلى أنَّ الرجل كان رائدًا من روّاد الوعي العميق للخطر الصهيوني على ‏فلسطين.‏

و"عيسى الناعوري"، الذي تربطه أواصر وثيقة بالثقافة الأجنبية، خاصة اللغة ‏الإيطالية والإنجليزية؛ فكان يتقنهما بحيث يكتب بهما مباشرة، ناهيك عن تمكُّنه من ‏الترجمة من العربية للّغة الأجنبية والعكس، ثم جهوده الفذّة التي بذلها في دراسة الآداب ‏الأجنبية، والتواصل مع رموزها ودراسة نتاجاتهم، وبخاصة في الأدب الإيطالي. ‏وممّا يلفت نظر المتابع، في مجال الترجمة، ترجمات الناعوري لمختارات من قصائد ‏عربيّة وإيطاليّة للإنجليزية، ظهرت ضمن منشورات المؤتمر العالمي الثاني للشعراء ‏في الصين سنة 1973، تلك الترجمات تشي بأنَّ الناعوري كان من السبّاقين الذين ‏التفتوا لشعر المقاومة الفلسطينيّة، وأنه آمن بروح التفاعل بين الشرق والغرب، وحقَّق ‏ذلك عمليًّا وهو مدرك ما لذلك من دور إنساني، يتجاوز السياسي والاقتصادي، ومن ‏هنا كانت له إطلالات ووقفات مع الأدب الإسباني والبرتغالي، وعلاقات مميّزة مع ‏الكثير من المستشرقين والمستعربين.‏

لم يقف الكاتب مع "جبرا إبراهيم جبرا" مع رواياته وترجماته وقصصه ولوحاته ‏وأشعاره، بل وقف مع نصّ نثري له تحت عنوان "القدس: الزَّمان المجسّد" والذي ‏جعله "جبرا" فصلًا لدراسته النقدية ضمن كتابه "الرحلة الثامنة" بعد نشره في مجلة ‏‏"حوار"، مصوِّرًا التطور العمراني والديمغرافي للقدس في العصر الحديث من جهاتها ‏الأربع خارج أسوار المدينة القديمة واتِّصالها بضواحي المدينة خلال القرن التاسع ‏عشر، موضِّحًا تأكيد المقدسيّين على عروبة مدينتهم، معتمدًا على شهادته من خلال ‏مشاهد من ذكرياته خلال السنوات التي عاشها وعائلته في القدس الجديدة في حي ‏‏"جورة العناب" وسجَّل ذلك إبداعيًّا في روايته "البحث عن وليد مسعود" ومنحه مسمّى ‏آخر "جورة النسناس" واصفًا المنزل الذي سكنته العائلة والطرقات التي سلكها "جبرا" ‏للمدرسة الرشيدية والمحالّ والمعالم التي يمرُّ بها، كان "جبرا" ورفاق كليَّته يقفون من ‏مكانهم التنسُّكي على ذلك الجبل الذي وقف عليه يومًا الخليفة "عمر بن الخطاب" ليرى ‏بيت المقدس للمرَّة الأولى، منوِّهًا لشعور كل فلسطيني بحلم العودة كاسترداد للذات ‏والنفس المفقودة، حتى أصبحت عبارة "لا بدَّ من العودة" توحي في واحد من معانيها ‏وتلتصق بالمعنى الروحي الإيماني، حيث يرى "جبرا ابراهيم جبرا" في القدس معجزة ‏تاريخية.‏

‏"سليمان الموسى"، الفتى الذي عشق الحرف والكتاب، وترك القرية سعيًا لتحقيق ‏طموحاته وآماله ودخول عالم الثقافة السحري؛ هرب إلى حيفا ويافا حيث الكتاب ‏والصحيفة والمجلة وآفاق الثقافة وتجاذباتها، وتشاء الأقدار أن يتمّ في يافا مشروعه ‏الكتابي الأوَّل عن الحسين بن علي والثورة العربية وهو ما زال في سن لم تتجاوز ‏العشرين عامًا.‏

للراحل "الموسى" آثار تاريخية وأدبية لعلَّ في مقدِّمتها سيرته التي تشير لعصاميّته ‏ومتابعته وجَلَده في البحث والتأليف، خاصة في ظلّ بيئة فقبرة بسيطة الإمكانيات وما ‏رافق ذلك من بدايات تأسيس الدولة الأردنية انطلاقًا للأفق العربي والعالمي دون ‏وجود مؤسسات ثقافية، وبلا إمكانيات ماديّة تلبي تلك الطموحات، ممّا جعل "الموسى" ‏كغيره يعتمد على نشاطه وجهده الشخصي ليشقّ الطريق حتى يحقِّق المساواة مع قرينه ‏في الدول العربية الأخرى.‏

ممّا يلفت النظر هنا تلازُم التاريخي بالأدبي في تجربة "الموسى" في اشتغال مميّز ‏يوظّف فيه أسلوبه الأدبي في كتابة التاريخ ويوظف التاريخ لطرح أسلوبه الأدبي ‏السردي، دون أن يهمل أيّ من هذين الجانبين، وظلَّ وفيًّا لكتابة التاريخ وعينه على ‏الأدب.‏

تنوَّعت اهتمامات "الموسى" الكتابيّة، فقد تناول سيرة "برنارد شو" التي أغرم بها ‏كثيرًا، وعُرف عنه اهتمامه بكتابة التمثيليّة الإذاعيّة، ولا ننسى إعجابه بالكاتب ‏والمسرحي الإنجليزي "سومرست موم" وترجمته لبعض قصصه كقصه "عقد اللولو"، ‏إضافة لترجمة سيرة "موم" ملخَّصة، وكذلك إعجابه بالكاتب المصري "سلامة ‏موسى".‏

توقَّف الباحث كايد هاشم مع الأستاذ "مفيد نحلة" في كتابه "تأشيرة سفر" والذي يقدِّم ‏فيه صورة غير تقليدية من أدب الرحلة؛ لما فيه من مغامرات غير مألوفة في حياة ‏الأدباء المعاصرين، مدفوعة بعاطفة الحنين والاشتياق للوطن، ليقدِّم صورة بلاغيّة ‏عصريّة، كاشفًا قدرة الإنسان على تحدّي نفسه وقدرته على مقاومة ضعفه وتشبُّثه ‏ببصيص الأمل، حيث قرَّر "مفيد نحلة" العودة للأردن بعد إقامته في ألمانيا وتنقُّله بين ‏عدد من مدنها والمدن الهولنديّة برًّا بسيارة صغيرة مستعملة، وخارطة للطريق سار ‏عليها وحيدًا، منطلقًا من مدينة "فوبرتال" شمالي ألمانيا الغربي متَّجهًا للنمسا عبورًا ‏بيوغسلافيا فبلغاريا وتركيا وصولًا لأنطاكيا ثم إلى حلب ودمشق وعمّان، وما يتيحه ‏ذلك للمسافر من الاقتراب من نفسه والغوص في دهاليز ذاته وتأمُّلها ومراجعتها ‏والحوار معها بفعل الوحدة، وما يمثِّله -من جانب آخر- من الاتِّصال الإنساني ‏التَّعويضي الذي يجد فيه الغريب ما يُزيل عنه بعض ما يضايقه من وحدة وشعور ‏بالخوف، وذلك بلغة شعريّة تكتسي بملامح فكريّة وصور وجدانيّة مشحونة بطاقات ‏تعبيريّة بديعة، وبسرد قصصي يجعل من الكتاب نصًّا لا يخضع للتَّجنيس الأدبي.‏

وفي تناوله لتجربة الدكتور "يوسف بكار"، يرى كايد هاشم أنَّ أهمّ ما يركز عليه ‏‏"بكار" في كتبه ومحاضراته تأكيده على أنَّ النَّقد السليم ليس عمليّة تحكمها قواعد ‏ومنهجيّات لتحليل النص، بقدر ما هي عملية أخلاقيّة ومسؤوليّة علميّة تجاه الثقافة ‏والمجتمع والذات، فقد اتَّخذ الدكتور "بكار" لنفسه أسلوبًا خاصًّا في الكتابة والتأليف، ‏كان فيه نسيج خاص، يعبِّر عن رؤيتِه وطبعِه، ولم يكن مقلِّدًا لمدرسة بعيْنها. ‏

وهناك الكثير الذي يتعلّمه المرء من مدرسة الدكتور "بكار"؛ من ذلك: أدب الاختلاف ‏ونزاهة الرأي واحترام الرأي الآخر، وعلى رأس كل ذلك التواضع والتعامل بأبويّة ‏وحميميّة مع طلبته ومحاوريه، ناهيك عن تمتُّع الرجل بثقافة موسوعيّة في القديم ‏والحديث، نستطيع معها أن نُطلق عليه "النّاقد المعلِّم". يروي كايد هاشم موقفًا حدث ‏مع الدكتور "يوسف بكار" يدلّل على متابعته واهتمامه، يقول: "لقد فاجأني في جلسة ‏استراحة في مؤتمر أدبي، بعد أن سلَّمت عليه وعرَّفته بنفسي، أنه قرأ كتابًا لي، وأثنى ‏عليه، ولم يكُن يومها قد وصلتني نسخة من الكتاب بعد".  وفي موضع آخر يضيف ‏كايد هاشم: إنَّ مِن المُلفت في نقد أستاذنا "بكار" انحيازه ومتابعته للشِّعر ونقده بنسبة ‏لا توازيها اهتماماته ومتابعته للسَّرد.‏

‏"تيسير سبول" من الكُتّاب النادرين الذين كان لسيرتهم سطوةٌ وتأثيرٌ على المتلقّي ‏توازي أهميّة نصوصهم الإبداعيّة التي تحتاج في هذه الحالة لأكثر من مدرسة نقديّة ‏للتعامل معها، وإنْ كان لكلّ نصّ فضاؤه ومفاتيحه التي تُتيح للناقد أنْ يتعاملَ مع ‏النص من خلالها. ‏

تحضُر هنا وبقوَّة، عند الحديث عن "تيسير سبول"، الطريقة التي أنهى بها حياته؛ ‏والتي كان لها كبير الأثر في إضاءة إبداعه بعمق وتمحيص، والمعروف أنه حاول ‏الانتحار قبل محاولته التي أنهت حياته.‏

كثيرون تناولوا حياة "السبول" وأدبه، وعلى رأسهم أستاذنا الدكتور إحسان عباس ‏والدكتور سليمان الأزرعي الذي عُرض كتابه "الشاعر القتيل/ دراسة في حياته ‏وآثاره"، في برنامج "ثمرات المطابع" الذي كان يُبثّ من القسم العربي في إذاعة لندن.‏

السؤال الذي يحضر هنا وبقوَّة: لماذا حظيت رواية "أنت منذ اليوم" لتيسير السبول ‏بهذا الكم من الاهتمام والمتابعة النقديّة، هل هناك مبالغة في قبول النص فنيًّا؟ هل ‏لانتحار الرجل علاقة بزيادة هذا الاهتمام؟ خاصة إذا عرفنا أنَّ رواية "تيسير سبول" ‏فازت بجائزة "النهار" (1968) في حينه مناصفة مع رواية "الكابوس" لأمين شنّار، ‏وقد صُنِّفَ العملان معًا ضمن خانة "الرواية الحديثة"، وحظيت "أنت منذ اليوم" ‏بمُتابعة لافتة، في حين نسي النَّقد أو تناسى العمل الذي اقتسم الجائزة مناصفة?