عِنْدَمَا يَسْتَمْتِع المَوت بالحُب والحَياة

 

عبد الهادي شعلان

كاتب مصري

 

 

في الفيلم السينمائي ‏Meet Joe Black‏ أو "لقاء جو بلاك"، يتلبّس الموت جسد شاب صدمته ‏سيّارة، في رغبة منه بتجربة حياة البشر ولو لمدة ساعات. تنقضي الساعات بعد أن اختبر فيها ‏الموت أو "جو بلاك" لذَّة الحياة على هذه الأرض، وحان وقت رحيله، فكيف له أن يترك الحياة بعد ‏أن تذوَّق مُتعها ومباهجها؟! الأداء المميز للممثل "براد بيت" بَعَثَ لنا الرسالة؛ لقد بكى الموت على ‏الدنيا، ثم مَسَحَ دموعه، فالواجب واجب وقد وَجَبَ عليه أن يرحل، لا مفرّ. والفيلم على الرّغم من ‏فكرته الغرائبيّة بتجسيد الموت على الأرض، إلّا أنه دعوة صريحة للحياة.‏

 

‏                    ‏

الموت لا يريد أن يترك الحياة، لقد أحسَّ الموت بلذَّة الدنيا، فأراد أن يمكث فيها، أن يستمتع بالفَرَح، ‏بالمشاعر الإنسانية القوية، يستشعر الحضن الدافئ، والقبلة الرائعة. يعيش الموت في الحياة وكأنه قد ‏أخذ إجازة على جزيرة.‏

هل يمكن أن يسير الموت إلى جانبك؟ لقد قرَّر أن يخطف حياتك، وفي الوقت نفسه تكون لديه ‏الرغبة بأن يعيش في هذه الحياة وقتًا قصيرًا؛ كي يُجَرِّب الحياة، وبالتالي يمنحكَ قليلًا من الوقت ‏مقابل أن يعيشَ معك ساعات فوق هذه الأرض، ربَّما هذه فكرة مجنونة، لكن هذا ما حدث في فيلم ‏‏"لقاء جو بلاك" الذي تمَّ إنتاجه عام 1998 وقام بإخراجه "مارتن بريست"، وكتب له السيناريو ‏‏"رون أسبون" و"جيف رينو"، وقام بالبطولة "براد بيت" والعملاق "أنتوني هوبكنز"، والممثلة ‏الإنجليزية "كلير فورلاني". وحصد الفيلم أرباح توازي 143 مليون دولار من عرضه في جميع ‏أنحاء العالم. ‏

يتجسَّد الموت في الفيلم رجلًا كاملًا، بعد أن تَلَبَّس جسد شاب صدمته سيارة. ذهب الموت، الذي ‏سُمّي في الفيلم "جو بلاك"، للقاء رجل الأعمال "بيل باريش" الذي كان على وشك الاحتفال بمرور ‏خمسة وستين عامًا على مولده، ومن هذه اللحظة والموت يتحرَّك أمامنا على الشاشة في صورة ‏الشاب "جو بلاك" أو "براد بيت"، شاب وسيم وجميل، يمكنك أن تحب طلّته، وتنسى أنه الموت، ‏يتعامل مع الحياة بلذّة غريبة، تعجبه زبدة الفستق، ويستلذّ بحضن الفتاة التي تحبّه؛ الموت الآن ‏معجب بالحياة.‏

في نهايات الفيلم الذي استغرق حوالى ثلاث ساعات، وفي اللحظة التي سيفارق فيها الموت الحياة، ‏وسيترك الأرض التي عاش فيها بضعة أيام، كان الموت حزينًا، وكل ما يحيط به يغمره الحزن ‏الشفيف، فالمقعد الذي كان يجلس عليه رخام رمادي مزخرف، يشي بحالة نهاية الفيلم ونهاية حياة ‏الموت المسمّى "جو بلاك"، وحياة "بيل". ألوان المشهد كلها في الجانب الذي كان يجلس فيه "جو ‏بلاك" توحي بالفناء، وكأنَّها ساعة الفجر، لحظة انسلاخ الظلام، وكأنَّ هناك ضوء يقاوم ظلمة ‏السماء بشراسة كي يظهر، على العكس تمامًا، في الجانب الآخر، فالإضاءة المزهرة تضجُّ بالفرح ‏والحياة بمناسبة عيد ميلاد "بيل"، الذي حان ميعاد موته الآن.‏

أدَّى "براد بيت" لحظة الاستعداد لمفارقة الحياة ببراعة، وسيطر على المشهد بدمعة سقطت من ‏عينيه، وفي اللحظة نفسها ظهر داخل عينيه بريق الإضاءة الموجود على الجانب الآخر، إنَّها الدنيا ‏فَرِحَة ومزهرة، وجميلة، تعيش في لحظة فارقة في عيد ميلاد إنسان يوشك على ترك العالم، والآن ‏سيرحل الموت عن هذه الأرض أيضًا، لقد جاء في زيارة قصيرة، والزيارة أعجبته وأثَّرت في ‏روح الموت، وقلبه، لقد تذوّق الموت طعم الحياة، والحنان، والدفء، وشَعَرَ بحضن المرأة التي ‏أحبّته، ذاق القُبْلة، فكيف له أن يترك الحياة بعد هذا التذوق اللذيذ؟!‏

الأداء المميز لـِ"براد بيت" بَعَثَ لنا الرسالة؛ لقد بكى الموت على الدنيا، ثم مَسَحَ دموعه، فالواجب ‏واجب وقد وَجَبَ عليه أن يرحل، لا مفرّ.‏

مناسبة عيد الميلاد هي مناسبة الوفاة، وتلك رسالة ضمنيَّة بأنَّ الموت هو بداية عيد جديد للمتوفى، ‏رسالة تقول إنَّ هناك حياة أخرى، ففي يوم المولد يموت، وسيخرج من الموت ليولد من جديد، ‏فالحياة تخرج من الموت، والموت يخرج من الحياة. ‏

هذا يذكرنا بمشهد المرأة العجوز التي قابلها "جو بلاك" في المستشفى، فقد قالت إنها مثله، تعني مثل ‏الموت، ليست في المكان الصحيح، مكانها الذي ترغب فيه هو العالم الآخر، تريد أن ترحل وتترك ‏هذا العالم، وأن تذهب للعالم الذي يناسبها، كانت سعيدة وهي تترك هذا العالم، ماتت مبتسمة، مع أنها ‏في البداية كانت تظنّ أنَّ الموت روح شريرة، ظهر لها ولنا أنَّ الموت ليس روحًا شريرة. لقد أدَّت ‏الممثلة "لويس كيلي ميلر" المشهد بعفويَّة حتى إنها عُرفت في هذا الفيلم بميت "جو بلاك"، فقد ‏جعلتنا نشكّ بالفعل أنها ماتت وهي تؤدّي الدور، وأنّ روحها قد سُحبت منها بهدوء وسلاسة، وأنّها ‏ذهبت حيث النعيم وهي تحمل داخل قلبها كل الصُّور الجميلة التي عاشتها في هذه الحياة.‏

أحسنت "كلير فورلاني" في دور "سوزان" ابنة "بيل"، ساعدها على أداء دورها وجهها البريء ‏وملامحها المريحة المحبوبة للكاميرا، كانت طوال الفيلم مُحِبَّة، عَاشقة، في حالة سلام دائم مع ‏الحياة، ومع نفسها ومع الآخرين، تسبِّب السعادة والفرح بِطَلَّتِها على الجميع، حتى إنها أحبَّت ‏الموت، وأحبّها الموت، هذا الذي استغربه الجميع ورأوا فيه أعمالًا غرائبيّة. أحبَّته هذه المُحِبَّة ‏بالفطرة. تمتَّعت كلير بحياء وبشاشة حتى إنك طوال الفيلم تخشى أن يكون "جو بلاك" الموت ‏سيأخذها هي، وعندما أراد ذلك، انزعج الأب "بيل" وانزعجنا معه، فنحن لا نريد لكل هذه الرِّقة أن ‏تموت.‏

كان الموت ممتنًّا للأب "بيل" لأنه مَنَحَه فترة طويلة في الحياة معه، لم يكن الموت يدرك أنَّ هذه ‏الحياة جميلة بهذه الروعة، "بيل" عامل الموت بكل احترام ومحبَّة، لم يفزع منه، لم ينزعج، لذلك ‏كان الموت ممتنًّا لـِ"بيل"؛ لأنه استقبله بترحاب شديد وبرضى تام.‏

في النهاية حين ينظر "بيل" والموت إلى الدنيا وهي تزهر وتطلق صواريخها الملوَّنة أمامهما يقول ‏‏"بيل" لـِ"جو بلاك": "يَصْعُب الرحيل، أليس كذلك؟"، إنه يدرك حلاوة رونقها، ويدرك جمالها، ‏ويعلم أنَّ حلاوتها قد سيطرت على روح الموت، يجيب الموت: "إنه كذلك يا بيل"، يقرِّر "بيل": ‏‏"تلك هي الحياة.. صدِّقني".‏

حين يتساءل "بيل" وهو ينظر في عين الموت: "هل ينبغي أن أخاف؟"، فهو ذاهب للموت، وتارك ‏للحياة، ولا يعلم بالضبط شيئًا عن هذه الطريق الفارقة بين الحياة والموت ومدى صعوبتها، لكنَّ ‏الموت يطمئنه بأنَّ الخوف، ليس لرجل مثله، فهو قد عاش الحياة وترك فيها كَمَّا هائلًا من الحب ‏والمحبَّة، أولاده ومَن يعملون معه، كلهم يحبّونه. يبتسم "بيل" ويصعد السلالم الرّمادية بينهما مساحة ‏خضراء، يقترب من مساحة كبوّابة تؤدّي لضوء رائق. هو يصعد السلالم لأنَّ روحه ستصعد، ‏وسَيَدْلِف من بوّابة مُضَاءة بضوء ناعم وجميل، سيصل لعالم آخر مريح ومضيء.‏

يعود الفيلم في الدقائق الأخيرة ليمنحنا الشكّ الطّريف، فالموت يعود مرَّة أخرى للفتاة، في صورة ‏الفتى الذي قابلته في المقهى في بداية الفيلم، ربَّما ما حدث طوال الفيلم حدث داخل خيالنا نحن ‏المشاهدين، فما كان الموت ليس هو الموت، ربّما عاد فتى المقهى الذي دخل الموت جسده، وينزل ‏‏"جو بلاك" مع "سوزان"، نزولًا للحياة عكس الصعود الذي صعده الأب "بيل"، يذهبان معًا نحو ‏النور، نحو الصواريخ المضيئة التي تبهر السماء.‏

هل اتَّحَدَ الموت بالحياة؟ النهاية موحية، سواء كان الشاب هو الموت أو لم يكن، ففي النهاية ‏انتصرت الحياة، وازدهرت السماء بالصواريخ وملأت الألوان المبهجة الشاشة ووضعت في قلوبنا ‏فرحًا شفيفًا.‏

ينتهى الفيلم بالنزول للحياة؛ معترك المتعة واللذة، والبهجة والرغبة، إنها الحياة، ينبغي أن ننزل إليها ‏وأن نعيش فيها ونعيشها في وقت واحد، ونترك الموت وراءنا.‏

الفيلم على الرّغم من فكرته المجنونة بتجسيد الموت على الأرض، إلا أنه دعوة صريحة للحياة، ‏فالموت نفسه أُعْجِب بالحياة، ولم يكن يريد أن يتركها. إلى جانب ذلك فالفيلم لا يدعو لكراهية ‏الموت، بالعكس، فالموت جاء شابًا وسيمًا، وليس شريرًا. ومن جانب آخر فهو يُطَمْئِن الذين يفعلون ‏ما يؤدّي للمحبَّة، فهؤلاء لا خوف عليهم مثل "بيل"، ومثل السيدة العجوز في المستشفى، كلهم ومَن ‏على شاكلتهم سيرحلون عن هذا العالم بسلام وعلى وجوهم ابتسامة رائقة لاستقبال عالم آخر مليء ‏بالنور والخضرة.‏