د. هدى ميموني
باحثة وناقدة مغربيّة
تزخر المملكة المغربيّة بفنون تراثيّة وغنائيّة وفلكلوريّة متنوِّعة، فلا تخلو منطقه فيها من نوع فنّي يؤصّل لتقاليدها وعراقة حضارتها الضّاربة في جذور التاريخ.. وتشتهر رقصة وممارسة "التبوريدة" في المغرب، التي ارتبطت منذ قرون بالمَواسم، على أنَّها رمز أساسي لكل الاحتفالات والمهرجانات السنويّة. ورقصة "التبوريدة" التي كانت ولا تزال الفُرجة الرَّئيسة خلال تلك المواسم فرضت نفسها منذ تسعينات القرن الماضي؛ وذلك باعتمادها ضمن المسابقات الرسميّة للجامعة الملكيّة المغربيّة حتى أصبحت ضمن فنون الفروسيّة التقليديّة.
لم يعُد فنّ التبوريدة حكرًا على الرجال، ولم تعُد حلبات ركوب الخيل بمواسم الأولياء الصالحين والأعراس والمناسبات الوطنيّة فضاءً فولكلوريًّا رجاليًّا بحتًا، تكتفي فيه النساء بالتطلُّع لفنون وطقوس فولكلور الفرسان وشموخ خيولهم من وراء جلابيب أزواجهنّ، وإطلاق الزغاريد بين الفينة والأخرى للافتخار والتَّباهي بما يقدِّمه الذكور داخل حلبات فولكلورية تراثية ظلَّت لعقود طويلة حكرًا على الجنس الخشن. لقد اقتحم الجنس الناعم أخيرًا هذا المجال وأصبح يضاهي أكثر الفرسان حنكةً وتجربةً وفنًّا.
تُعدُّ حليمة البحراوي، حين كانت في الثانية والعشرين من عمرها، أوَّل فارسة مغربيّة تغزو عالم الفانتازيا وتدخل (محرّك) الخيّالة ممتطية فرسًا شامخةً وحاملة بندقية البارود التي طالما أرعبها صوتُها لتعزف به أحلى الموسيقات الحربيّة ذات الرقصات العسكريّة بالخيول.. حليمة التي لم تتمكّن من متابعة دراستها بالتعليم العمومي، بعد أن استحوذت التبوريدة وطقوسها على تفكيرها اليومي، استطاعت أن تتأقلم مع الأجواء الرجاليّة داخل "السربة"، وتعلّمت أصولها وأتقنت تفاصيلها، ولم يعُد أحد من أفراد السربة أو الأسرة أو المستمتعين بأجواء التبوريدة يشكّ في قدراتها الكبيرة التي ميّزتها وسط فريق من الذكور يفوق العشرين فارسًا.
بمرور الأيام ضاعفت حليمة من تجربتها وإتقانها لفن التبوريدة، وشكّلت فريقًا من الفتيات الرشيقات اللواتى قبلن التدريب على ركوب الخيل والرقص به وحمل السلاح وإطلاقه بنغمات معيّنة، ولم يتأخّر الوقت حتى اكتسبت مكانة مهمّة في حلبات الفروسيّة، وأصبحت اسمًا لامعًا في عالم التبوريدة.
شكلت حليمة أول فريق خيالة من الإناث سنة 2002، وأسست داخل (محركها) بالبادية مدرسة لتعليم الفتيات فنون الرقص بركوب الخيل وممارسة طقوس التبوريدة، وقد لقيت مدرستها إقبالًا كبيرًا فاق العشرين طالبة، معظمهم طفلات صغيرات السن، وأصبحت مقدمة "سرية" الإناث التي غزت بها كل المعارك الفنية المغربية.
لم تكتف بذلك حسب، بل فضَّلت متابعة دروس في اللغات الحيّة لتكون سفيرة مغربيّة لفن التبوريدة خارج أرض الوطن، وهذا ما جعلها تصبح قدوة لعدة فتيات في العديد من مدن المملكة المغربية على اتساع جغرافيّتها اللائي سرن على دربها وشكّلت معهنّ فرقة (سربة) نسائية أصبحت تضاهى أكبر الفرق الذكوريّة، وقد أرغم حب حليمة لعالم رقص الخيول وتفانيها في خدمته، والدها على حب الفروسية أيضًا، والرَّقص بركوب الخيل، حيث التحق بها في سربة واحدة، وبدأ معها رحلة مثيرة في عالم التبوريدة الذي لم يكن يومًا يظن أنه سيتآلف بحصان.
• أنماط مغربيّة مختلفة
في وقتنا الحاضر برعت فرق عديدة، منها فرقة المقدمة البحراوي النسائيّة، التي تحمل اسم "سربة نادي السلام"، في طريقة سباقها ونوعيّة لباسها الذي يمزج الأصالة بالمعاصرة، وكانت في كل عرض ترسم لوحات نسائيّة أعادت الثقة في الجنس اللطيف، وخاصة في عالم القرى، حيث تكون طلقاتهنّ الباروديّة أدق من طلقات الفرق الرجاليّة. وهي تضمّ في صفوفها الفارسة مريم كحيل، التي تُعدُّ أصغر فارسة في المغرب الآن، ذلك أنَّ عمرها لا يتجاوز 14 عامًا، وذلك بعد أن أدمنت الرقص بركوب الخيل، وتفرَّغت لحمل بندقية البارود، واستعراض مهارتها فوق حصان العائلة.
تمارس حليمة التبوريدة الخيايطيّة، نسبة إلى الشرفاء الخيايطة بإقليم ابن سليمان، وتتميّز بطقوسها الخاصة من حيث اللباس وأداء الفارسات، فعند انطلاق السربة تنقل الفارسة البندقية في حركة دورانيّة انتقاليّة من يد لأخرى يمينًا وشمالًا، وعند الاقتراب من النهاية تضع أسفل البندقيّة (وهو ما يسمى "الراية") على صدرها، ثم ترفع البندقية نحو الأعلى وتطلق البارود في الوقت نفسه مع رفيقاتها. وخلال هذا الاستعراض تتزيَّن الفارسة بقفطان مغربىي وبغطاء للرأس يسمى (الشد) يكون من لون ثوب القفطان نفسه، وبسروال طويل من لون القفطان والشد نفسه أيضًا، إضافة إلى حذاء جلدي تقليدى (بلغة بوتير) وتغطّي الكوعين وجزءًا من الساقين بما يسمى (التماك). وتتمثل في ثلاث استعراضات هجوميّة متتالية (حركات، جمع حركة)، بمعايير تنقيط مواءمة بحسب تقاليد منطقة كل سربة مشاركة. كل حركة تنقط وفق المعايير الفرعية لتناسق الانطلاق والتسارع وانسجام الفرسان في الحركات، ومزامنة إطلاق النار.
ولأنَّ المغرب يزخر بالعديد من الأنماط الموسيقية التراثية، التي تعتبر ذخيرة فنية حيّة، ومخزونًا ثقافيًّا وطنيًّا، من حيث هو علامة وشهادة على مستوى ما بلغه الإبداع الفني في المغرب منذ زمن بعيد، فقد ابتدع المغاربة في هذا المجال قوالب موسيقية شكّلت بدورها رافدًا من روافد الموسيقى العالمية.
ويمكن الجزم بأنه ليس من السَّهل استحضار الخصائص العامة للتراث الموسيقي المغربي وحصرها، وذلك لاعتبارات متعددة أهمها الغنى على صعيد الأنماط، والتنوُّع داخل كل شكل، ناهيك عن التعدُّد اللغوي، والثراء الشكلي (آلات ولباسًا وطقوسًا)، دون إغفال ذلك التباين على الصعيد الموسيقي الصرف، من حيث الإيقاعات والمقامات.
ويشتهر الجنوب برقصات أحواش و(الكدرة) والأدب الحساني، فيما يحضن الشمال ألوانًا فنيّة مختلفة من بينها (العيطة الجبليّة) التي تتقاطع مع عيطات (المارساوي) بمناطق أخرى، بينما تشتهر مناطق الأطلس في الأوسط بفن أحيدوس، والمناطق الشرقية برقصة الركادة والراي، فيما تشكل (الدقه المراكشية) وسام أهالى مدينة مراكش ونواحيها.
ولعلَّ من أشهر الفنون المماثلة التي تشكل خارطة طريق التراث الفكلورى المغربي فن (الهيت) الذي تشتهر به مناطق بعينها في إقليمي تازة وتاونات المجاورين في الشمال الشرقي، وهي مرتبطه بشكل وثيق مع ألعاب الفروسية التقليديه أو (التبوريدة) التي يُقام لها مهرجان سنوي في مدينة تيسة التي توصف بـ(مدينة الخيل والملح). ولطرافة وأهمية هذا الفن التقليدي المحض الذي تشتهر به قبائل الحياينة قبل غيرها يمكننا أن نلامس الجوانب الواضحة والخفيّة من فن متأصل في التقاليد المحليّة.
كما تشتهر قبائل الحياينة الواقعة بمنطقة تيسة في إقليم تاونات على بعد حوالى 55 كيلو متر من العاصمة العلمية المغربيه فاس، والمعروفة بجيادها الأصيلة التي جعلت منها (مهد الخيل)، بفن الهيت أو (الهايتي)، كما تعرف محليًّا، ويرى فيه أهل المنطقة (خليلًا للفرس وربيبًا للجواد) وفلكلورًا شعبيًّا متوارثًا عن الأجداد يطبع الفارس ويبصم خطواته وإيقاعاته رقصه وتحرُّكاته، ولا تكاد دار بالحياين تخلو من فرقة مختصّة في هذا الفنّ الإبداعي الذي أضحى (مظهرًا من مظاهر الجهر بالزواج والفرحة بالانتصار).
أهالي منطقة تيسة يسكنهم حب (الهيت)، ويتوارثون حبه والتعلق به وبالخيل والفروسية التقليدية أو(التبوريدة) و(الزهو) و(النخوة) أبًا عن جدّ، ويُعدُّ الحفل من دون فرق مختصّة في هذا الفن أو ما يسمى بـ(الباعة) كأنه (طعام دون ملح ولا توابل) نظرًا إلى الفرحة التي تخلقها، خاصة في الأعراس والحفلات، لكن أمام الواقع الذي يعيشه هذا الفن الجميل المتغلغل في أفئدة محترفيه لا يخفي الناس تخوُّفهم من انقراضه، خصوصًا أمام عزوف الشباب عن تعلُّمه والحفاظ على استمراريّته ودوامه.
• فروسيّة البارود تُبهر "دولاكروا"
لقد اهتمَّ الفنانون العالميون منذ قرون، بهذه الفنون حيث كان تصوير فروسيّة البارود، إحدى الثيمات المفضَّلة لرسّامي تلك الفترة. وها هو "أوجين دولاكروا"، الذي يُعتبر أوّل فنان تشكيلي اهتم بثيمة الرقصات الحربيّة، التي كانت موضوعًا للعديد من لوحاته، بين سنتي 1833 و1847، وقد استلهم "دولاكروا" أعماله من تدوينات رحلته المغربيّة سنة 1832 وخصوصًا في سيدي قاسم والقصر الكبير ومكناس، التي شهد فيها استعراضات تبوريدة.
وقارَبَ "دولاكروا" تلك الفنتازيا بأسلوب الرَّسم التاريخي والحربي، مركّزًا على الألوان القويّة لإظهار جماليّة حركيّة الخيول، كما في لوحة فنتازيا (1832 (بتثمين أبعاد التناسق والحركية والسياق الحربي، ويتجلّى ذلك بالخصوص في لوحاته) مناورات عسكرية مغربية) المسمّاة أيضا "فنتازيا مغربية".
وطأت أقدام "دولاكروا" أرض المغرب في 25 كانون الثاني/ يناير1832، ولم تكد تمضي ثلاثة شهور على وصوله حتى صار متيّمًا بأرضها، فأرسل إلى شقيقه خطابًا قال له فيه: "وداعًا، أخي الطبيب، الإفريقي يُرسل لك محبّته," وقد قضى "دولاكروا" ستة أشهر في المغرب كان إنتاجه فيها من اللوحات غزيرًا. وقد مثّلت تلك اللوحات الروح العربيّة والبيئة العربيّة الثائرة.
وفي تلك الأشهر الستة غدت المغرب جزءًا من حياة "دولاكروا"، فتسلّح بفرشاته لجمع وتسجيل كل ما وقعت عليه عيناه من ألوان وأزياء واحتفالات ومناظر طبيعية بتفاصيلها الدقيقة. وبرع في تصوير العلاقة الحميمية بين العربي وحصانه. ولكن ككل الأشخاص المفرطين في الرومانسية سرعان ما تحوَّل موقف "دولاكروا" إلى النقيض، فملَّ الحياة في المغرب، وبدأ يُفكر في العودة إلى فرنسا.
ظنَّ "دولاكروا" أنَّ بعودته إلى فرنسا ستصبح لوحاته كجذور الأشجار المنزوعة من تربتها، فما إن يبتعد بها عن المغرب حتى تفقد معناها وتبدو مجرّد رسوم وألوان لا تحمل في طيّاتها روح أفريقيا، ولكنّ مخاوف "دولاكروا" ذهبت أدراج الرياح، فسرعان ما أصبحت مجموعة اللوحات التي سجّلتها ريشته، والتي تعدّت المائة لوحة، تعبيرًا عن الكيفيّة التي ينظر بها العربي إلى الخيول وإلى حياته. لم يكن "دولاكروا" مدرِّبًا للخيول ولا فارسًا، ولكنه كان ينظر إلى الخيل من وجهة نظر العرب إليها، فهم يعتبرونها فردًا من العائلة ولها بالنسبة لهم دلالات روحانيّة ودينيّة عديدة، لذلك استطاع "دولاكروا" التعبير عن الأبعاد العميقة لمعنى الخيول في حياة العرب، وبذلك اختلف تصويره للبيئة العربيّة عن مَن سبقه ممَّن حاول تصوير تلك العلاقة بين العربي وحصانه.
ثمّة مقولة ترى أنًّ التراث والتعامل معه "قضيّة فاشلة إن لم أقل متجاوزة"، وإنَّ الانجذاب إلى هذا التراث هو "عملية للحدّ من الطاقة الإبداعيّة للمبدعين، لأنه لا يوفِّر لهم مجالًا للابتكار الخلّاق"، وأنَّ "هذا الخلق والابتكار لن يكون نشازًا خارجًا عن المؤثرات المحليّة الذاتيّة الضّاغطة مسبقًا على مشاعر المبدع وأحاسيسه الفنيّة رغمًا عنه". لكنَّنا نرى أنَّ المغرب في حاجة إلى مبدعين قادرين على تلبية انتظارات المغاربة الخلاقة الرائقة، لذا ندعو إلى تجاوز معوق اللغة الإبداعيّة التبسيطيّة، والعمل في مجالات أرحب وأوسع، دون السقوط في العشوائيّة أو محاولة التوطين الموسيقي التعسُّفي، الذي يسيء إلى المادة الإبداعيّة ولا يخدم لا التراث ولا الإبداع على حدّ سواء.
ولا يمكن في أيّ بلد -وخاصة المغرب المعروف بتنوُّع روافده الموسيقية- يريد الحفاظ على هويّته وصيانة مقومات وجوده، الاستغناء عن التراث عند أي إبداع موسيقي، ذلك أنه يجب، حتميًّا، الانطلاق من أساس الهوية الموسيقية المتمثلة في هذا التراث نفسه، الذي يجب الحفاظ عليه وصيانته لأنه في البدء والختام أصل الهوية ومرآة فن كل بلد. فالإبداع لا يأتي من عدم، بل يستنبط من التراث وخاصة منه القوالب التقليدية، باعتبار ذلك هو الهوية الحقيقية لكل مبدع، ولذا من المستحب تطوير هذا التراث والأنماط التي تندرج ضمنه، ليس لمحوه أو لتعويضه، بل لإثراء الإبداعات والاقتباس منه، من أجل خلق آفاق جديدة ورؤية معاصرة للفن.
إنَّ الموروث الفني والثقافي هو مفخرة كل بلد أصيل، وما يُروَّج له حاليًّا في الساحة الفنيّة ما هو إلا تقليد وإعادة صياغة لتراث أجنبي تمَّ تطويره في بلد ما، أمّا في البلاد العربية فهناك شعور بنفور "مبدعينا من تراثنا مخافة أن يُتَّهموا بالمتخلفين أو الساذجين".
إن التوثيق لكل الفنون الجميلة والأنماط الموسيقية التراثية في كل المناطق المغربية٬ عن طريق الأبحاث والنصوص٬ والصوت والصورة٬ أصبح اليوم ضرورة ملحة من أجل الحفاظ على الذاكرة الموسيقية والغنائية المغربية٬ ودفع أجيال من الشباب إلى التصالح مع تراث الأجداد٬ وإلقاء أضواء كاشفة عن أهم ملامح هذه الأنماط وأبرز روادها وما يتوسلون به من آلات وترية وإيقاعية٬ والمصطلحات المستعملة في هذه الأنماط التراثية وبنياتها وأدوارها اللحنية. تلك دعوة موجهة لكل باحث وفنان غيور على تراث بلده٬ من أجل إنقاذ الموروث الموسيقي التقليدي بمختلف عناصره في الفنون الحربية الموسيقية والاستعراضية والحفاظ عليه واستدامته.
المراجع :
1- موسوعة الفنتازيا المغربية والعربية .
2-Marc-Antoine Jullien, Auguste Jullien et Hippolyte Carnot, Revue encyclopédique: liberté, égalité, association, vol. 40, Paris, Arthus-Bertrand,
3-M. Peyron, «Fantasia», dans Encyclopédie berbère, vol. 18, Aix-en-Provence, Édisud,2019. 45-Marie-Pascale Rauzier, Cécile Tréal et Jean-Michel Ruiz, Moussems et fêtes traditionnelles au, Morocco Courbevoie, ACR Edition, 2019.
5- L’histoire des Arabes de Nessadiou dévoilée, sur Nouvelles Calédoniennes, 2018.
7- Houda Maimouni , Une approche de la problématique de l’identité: le Maghreb arabe contemporain, Paris, L’Harmattan, 2014.