عندما يُبدع المُخرِج:‏ كيف يتحوَّل الممثِّل من دُمية إلى قلب نابض.. والعكس

أحمد طمليه

كاتب وناقد سينمائي أردني

 

على المخرج أنْ يضخَّ الروح في العمل الفنيّ، وأنْ يضخَّ الحياة في شخوصِه، وعليه أنْ ‏يستعينَ بما تمتلكه مخيّلته من إبداع لإضفاء لمساته الخاصّة التي تميِّزه عن غيره من ‏المخرجين، وتجعل من الإخراج إبداعًا وليس مهنةً حسب، فالمخرج المبدع يستطيع أنْ ‏يصنَعَ من حكاية بسيطة تحفة سينمائيّة، أمّا المخرج غير المبدع فلو وضعتَ بين يديه كل ‏الإمكانيّات فلن يقدِّم أكثر من صور متحرِّكة عديمة الحياة، على الشاشة.‏

 

تتمثَّلُ مهمَّة المُخرِج، كما هو مُتداوَل، في أنْ يروي القصة المكتوبة على الورق من ‏خلال الصور المتجسِّدة على الشاشة، غير أنَّ هذا التعبير يظلُّ ناقصًا، فأيّ مخرج ‏محترف، وقبل ذلك دَرَسَ هذه المهنة أكاديميًّا، يستطيع أن ينقل الكلام إلى صور، ولكن ‏هل معنى ذلك أنه قدَّم فيلمًا سينمائيًّا متكاملًا؟ وقبل ذلك، إذا كانت الأدوات الفنيّة ‏متشابهة، فما الذي يميِّز هذا المخرج عن ذاك؟ ولماذا نجد القلّة المهتمّة تبحث عن ‏المُخرج أوَّلًا قبل السؤال عن بقيّة طاقم العمل؟ وكيف يمكن لمُخرج أن يذهب إلى الناس ‏العاديين في مواقعهم ويصنع من تفاصيل حياتهم فيلمًا سينمائيًّا، كما فعل المخرج الصيني ‏‏"زانغ ييمو" في فيلم "الطريق إلى البيت" أو في فيلم "ولا أقل من واحد"، حين استعاض ‏عن الممثلين المحترفين بأناس قرويين وسكان مدن عاديين وقدَّم من خلالهم فيلمًا حقيقيًّا؟

إنَّ وظيفة المخرج الأساسية هي ضخّ الروح في العمل الفني، أي أن يجعل من السينما ‏واقعًا ولكن بلغة السينما، وليس المقصود هنا الواقعيّة البحتة، بل إضفاء المصداقية على ‏المشهد، على النحو الذي يبدو فيه طبيعيًّا حتى لو كان ضربًا من العبث، أو صنعًا من ‏الخيال. ولتحقيق ذلك، فإنَّ أهمّ ميزة يجب أن يتحلّى بها المخرج هي قدرته على التخيُّل؛ ‏أن يمتلكَ مخيّلة مبدعة تتيح له تخيُّل ما يريد الوصول إليه، أو بالأحرى ابتداع أفضل ‏السُّبل في تنفيذ المشاهد. وهنا لبّ الموضوع، فإذا تخيَّل المخرج مشهده على نحوٍ ركيك ‏وساذج، فستكون النتيجة مشهدًا ركيكًا وساذجًا، أمّا إذا تيسَّر له شيء من الإبداع في تخيُّله ‏للمشهد، فسينعكس ذلك على المشهد برمّته بما في ذلك أصحاب أدوار الكومبارس، حيث ‏سيظهرون على النَّحو الذي يليق. وسواء أبدع المخرج أو أخفق فسينعكس ذلك بشكل ‏واضح على أداء الممثلين، فأحيانًا نراهم في منتهى إبداعهم، وأحيانًا نراهم أصغر من ‏حجم طاقاتهم، إذْ يظهر الواحد منهم عديم الحيلة أقرب إلى الشخصية المحنَّطة التي تفتقد ‏الحيويّة والحياة. ‏

نستشهد على ذلك بأداء الممثل هشام سليم الذي قدَّمه المخرج يوسف شاهين في فيلم ‏‏"عودة الابن الضال"، فلفت أداؤه الأنظار، وقدَّم دورًا ينبض بالحياة، وقد تعايش المُشاهد ‏مع شخصيّة "إبراهيم" التي أدّاها هشام سليم، الباحث عن حلم السفر إلى الخارج، وظلَّ ‏‏"إبراهيم" في الذاكرة على الرغم من انتهاء مدّة عرض الفيلم، أحيانًا نراه في الشوارع، أو ‏في البيوت التي نزورها، وقد نصادفه في زقاق. وقد نتعرَّف عليه في عمل فني آخر، ‏لمخرج آخر، وقد تقمَّص دوره ممثل آخر، فالشخصية الحيّة تبقى حيّة في الوجدان.‏

في المقابل، فإنَّنا نرثي الحال التي ظهر عليها هشام سليم في فيلم داود عبدالسيد "أرض ‏الأحلام"، فعلى أهميّة الفيلم، وأهميّة المخرج، إلا أنَّ الدور الذي أدّاه هشام سليم، وهو ‏الشاب الذي يحثّ والدته على السفر إلى أميركا لعلّها تحقِّق له فرصة العمر إذا ما ‏استقطبته لاحقًا، بدا محنَّطًا يفقد لمسات المخرج الخاصة، فسقط هشام سليم ضحيّة رؤية ‏المخرج الضيِّقة لهذا الدور.‏

ومن إبداعات المخرجين على الممثلين نستذكر كيف أظهر المخرج الراحل عاطف الطيب ‏الممثلة لبلبة في فيلم "ليلة ساخنة"، فعلى الرغم من الباع الطويلة لهذه الممثلة في مجال ‏التمثيل، وهي باع تمتد لعقود، إلا أنَّ مخرجًا لم يكشف عن موهبة لبلبة في التمثيل كما ‏كشف عنها عاطف الطيب وهو يقدِّمها بدور فتاة ليل مفعمة بالحياة.‏

ونتذكَّر في هذا السياق أيضًا الفيلم المتميز "موظف ومخبر وحرامي" للمخرج داود ‏عبدالسيد، فالمخرج هنا خرج عن المألوف وقدَّم فنتازيا سينمائية الهدف منها عرض ‏شرائح اجتماعية دون أن يرتبط بخيط درامي محدَّد.‏

إذًا، على المخرج أنْ يضخَّ الروح في العمل الفنيّ، وأنْ يضخَّ الحياة في شخوصه، وعليه ‏أن يستعين بما تمتلكه مخيّلته من إبداع لإضفاء لمساته الخاصة التي تميِّزه عن غيره من ‏المخرجين، وتجعل من الإخراج إبداعًا وليس مهنةً حسب، ولنتذكَّر ما قاله المخرج نجدت ‏أنزور في لقاء تلفزيوني: "يكفي أن ينظر المشاهد إلى الشاشة ومن أوَّل لقطة يعرف أنَّ ‏ما هو معروض هو أحد أعمالي". ولنتذكَّر أيضًا أنه إذا ما تمكَّن المخرج المبدع من ‏أدواته فإنه يستطيع أن ينهض بالعمل برمَّته وليس بحاجة للاستعانة بأحد. ولنأخذ تجربة ‏المخرج الإيراني ماجد الماجدي في فيلم "لون الفردوس"، فباستثناء الدور الذي أدّاه الأب، ‏وهو ممثل إيراني محترف، فإنَّ جميع الأدوار الأخرى تقاسمها أناس عاديون يظهرون ‏على الشاشة لأوّل مرّة، ومع ذلك فقد نجح المخرج في تقديم عمل فني متكامل.‏

ومن المفيد الإشارة هنا إلى أنَّ كل ما هو مطلوب من المخرج يتأتّى من خلال الإبداع ‏وليس من خلال أيّ شيء آخر، والإبداع هو الشرط المستحيل لغير المبدع، بمعنى يستطيع ‏المخرج المبدع أن يصنع من "حدّوتة" بسيطة تحفة سينمائية، أمّا المخرج غير المبدع فلو ‏وضعتَ بين يديه كل الإمكانيات فلن يقدِّم أكثر من صور متحرِّكة عديمة الحياة، على ‏الشاشة. وإذا ما أخذنا بهذه المفاهيم وأسقطناها على الساحة الفنية العربية، فإنَّ عدد ‏المخرجين المبدعين بالكاد يعدّون على الأصابع، وما هم دون ذلك مجرَّد فنيين يقدِّمون ‏صورة، ولكنها صورة غير حيّة بالتأكيد. وقد تسبَّب ذلك في شيوع أفلام تكشف عن ‏قباحة الوجه الآخر للعملة، ألا وهو الوجه الذي يفتقد الإبداع.‏

واللافت أنَّ أعداد المخرجين الفنيين اللذين يفتقدون الإبداع في ازديادٍ متنامٍ وهم غزيرو ‏الإنتاج، فما من عام إلا وتجد للواحد منهم فيلمًا وربما أكثر، ربّما ليغطّوا بذلك على ‏افتقارهم للإبداع والحرفيّة. في حين أننا نجد المخرج المبدع مقلّ في إنتاجه وهذه مفارقة ‏غريبة، واللافت أكثر أنَّ مثل هؤلاء المخرجين يجدون دومًا من المنتجين مَن يموِّل ‏أفلامهم ومن الممثلين مَن يلتفّ حولهم ويشاركهم العمل، مع العلم أنَّ المكتوب يُقرأ من ‏عنوانه، واسم المخرج يكفي لأنْ يدلّ على مضمون الفيلم، وإذا سألتَ أحد الممثلين عن ‏سبب قبوله العمل مع هذا المخرج في عملٍ ما، يستعيد الممثل مقولة قديمة جديدة مفادها ‏‏"الانتشار ومن ثم الاختيار"؛ أي أنهم مضطرّون أن يقبلوا بالأدوار التي تُسند إليهم بغية ‏الانتشار الذي قد يُتيح لهم لاحقًا اختيار الأدوار التي يريدون، وهم لا يعرفون أنه ‏بانتشارهم هذا إنَّما "يحرقون" أنفسهم أمام الجمهور.‏

وحتى نقترب من الصورة أكثر نقول: إنَّ السينما تحتاج إلى مخرج مبدع أكثر من حاجتها ‏إلى ممثل، ومن الأمثلة على ذلك "ريغان" الذي كان ممثلًا تلفزيونيًا وسينمائيًا، وقد ‏اعترف ذات يوم، بتأثير موهبته كممثل على عمله كرئيس للولايات المتحدة حين صرَّح ‏قائلًا: "كيف يمكن لرئيس الاضطلاع بمهام عمله إذا لم يكن ممثلًا". وهو مُحق في ذلك، ‏فالأصل في عمل الرئيس أن يؤثر بالجمهور. وهناك قصة الرئيس الأميركي "كلينتون" ‏مع عشيقته "مونيكا"، إحدى المتدربات في البيت الأبيض، فهي قصة سينمائية قبل أن ‏تكون حدثًا واقعيًّا، فيها الكثير من مقومات الفيلم السينمائي بدءًا من الحبكة، مرورًا ‏بالعقدة، ثم ذروة العقدة، فالتفاصيل العديدة المتداخلة التي يغلب عليها المبالغة والتهويل ‏وصولًا إلى النهاية السعيدة، تمامًا كما يحدث في السينما، فالرئيس زادت شعبيّته أمام ‏جماهيره ونظر إلى نزوته بالكثير من الود والتعاطف، والزوجة سامحت زوجها بهدوء ‏ودون مشاكل تُذكر، والفتاة المخدوعة بحب الرئيس غدت شخصية شهيرة تلاحقها ‏عدسات الكاميرات، وتفرد لها صفحات الجرائد. أليست هذه سينما؟ ‏

وفي جميع الحالات، ما يحدث مع الرؤساء مشابه لما يحدث مع نجوم السينما، فالمعروف ‏أنَّ الممثل النجم، ولكي يحافظ على نجوميّته، مضطر لإقامة علاقات معينة عاطفية على ‏مرأى ومسمع من جمهوره، وتجده يكشف عن الهواية التي يمارسها، والنشاطات التي ‏تحظى باهتماماته، سواء هواياته الرياضية أو حتى طريقة ارتدائه لملابسه، وكثيرًا ما ‏يضطرّ لأن يخترع مأساة حياتيّة تثير التعاطف معه، ولنتذكَّر في هذا السياق القصيدة التي ‏أهداها الرئيس الأميركي جورج بوش لزوجته في حينه وهي في إجازتها الخاصة للإيحاء ‏بالجانب العاطفي من شخصيّته لجماهيره ومعجبيه. المطلوب من الرئيس، كما هو ‏المطلوب من النجم السينمائي: ممارسة أنواع كثيرة من التمثيل الحياتي للمحافظة على ‏مكانته وعلى الوضع الذي اكتسبه كنجم محبوب.‏

في أميركا، ينجح الممثلون بتولي مناصب سياسية مستفيدين من قدراتهم على التمثيل، ‏ذلك أن الدعاية الانتخابية تعتمد بالدرجة الأولى على التمثيل، فعلى الرغم من الخراب ‏الروحي داخل المجتمع الأميركي إلا أن المرشح يجب أن يظهر في دعايته الانتخابية إلى ‏جوار زوجته الأنيقة، وأن يبدو هو أيضًا أنيقًا وجذابًا، ويا حبّذا لو كان لديه بنت أو ولد ‏ليوظّفهما في دعايته الانتخابية ممّا يظهره أبًا صالحًا. وعلى الرغم من الأزمة الوجودية ‏التي يعيشها أغلب الشعب الأميركي بسبب تسيّد المادي على الجوانب الروحانية إلا أنّ ‏المرشح يظهر في دعايته الانتخابية وهو بعيد عن كل هذه العقد والمشاكل؛ إذ نراه وهو ‏يصيد السمك، أو وهو يرعى الأطفال في حفل خيري ما، أو يصافح معاقًا، أو يلقي نكتة ‏يضحك لها المستمعون إليه. وعلى الرغم من ابتعاد الشعب الأميركي عن الاهتمام ‏بالشؤون الخارجية، وفق ما هو مسجّل بدراسات وإحصاءات رسمية، إلا أنّ الرئيس ‏بمجرّد أن يتبوّأ منصبه يصبح هاجسه "حشر أنفه" بكل كبيرة وصغيرة في قضايا العالم ‏من حوله!‏

الحياة في أميركا تشبه السينما من حيث الإيقاع السريع في الأحداث، والتصرفات، وردود ‏الأفعال، والحوارات، والموسيقى، والديكور، والأداء، ولكنها سينما هوليوديّة، سينما ‏‏"أكشن": فيها حركة أكثر ممّا فيها مضمون، وفيها إبهار أكثر ممّا فيها إقناع، وفيها نجوم ‏يظهرون كل يوم على شاشات التلفزيون: يهدّدون، ويعربدون، ويزبدون، ويمثلون، ‏وبمجرد أن تُطفأ الأضواء يغيبون عن الشاشة... يغيبون عن الذاكرة.‏

 

‏ ويبقى السؤال: أين المخرج في الفقرات الأخيرة الواردة أعلاه؟ أجيب: موجود ولكنه لم ‏يظهر لأسباب فنيّة.‏