عبد المجيد محمد خلف
روائي وناقد سوري
تَضَعُنا الكاتبة كفى الزعبي أمام جملة من الأسئلة التي لا بدّ من الإجابة عنها، والبحث في الأسباب التي أدَّت إليها في الرواية، من خلال حكاية بطلها "راعي"، المثقّف، الذي تدفعه ظروفه إلى الانتقال من القرية إلى المدينة، لتبدأ رحلة بحثه في الحياة عن ذاته؛ وذلك عبر رحلة وجودية يصفها بطل الرواية بـِ"اللّعنة".
"اللَّعنة تعرف طريقها إليّ... اقتربت المرأة منّي وأنا أغلق باب غرفتي التي استأجرتها، وانتقلت إليها للتوّ، وسألتني: هل أنت مستأجر جديد لهذه الغرفة؟ أجبتها: نعم، فأخبرتني بأنها جارتي، وتقيم بالمنزل المجاور، وراحت بعد ذلك تحدثني عن رجل عجوز كان يقيم بهذه الغرفة قبلي. قالت إنه مات فيها قبل شهر، ولولا الرائحة الكريهة التي انبعثت منها بعد أيام من وفاته، لما علم بموته أحد"، يروي لنا "راعي" بطل الرواية عن نفسه، وعن ملازمة الحزن والألم له، منذ أول لحظة فتح فيها عينه على الحياة، وأول لحظة انتقل فيها من القرية -التي شهدت تنشئته الأولى، وأمعنت في عذابه- إلى المدينة التي دأبت على قتل روحه شيئًا فشيئًا، لتكمل مشهد العذاب في رحلته الوجودية، واصفًا إياها باللّعنة، وهي بالفعل لعنة حلّت عليه، وأحاطته بدوّامتها من الجهات كافة؛ ليضيع في دروب تلك اللعنة -والتي قصد بها المجتمع من حوله- وبين أناسها الذين لم تعرف الرحمة إلى قلوبهم سبيلًا، ولم يدركوا معاناته، وعذابه اللامتناهي في الحياة، بل وحتى قيمة ثقافته، واهتماماته.
عالم مسكون بالشرّ، مدينة تنال منه، ومن أمثاله الذين لا شيء لهم في الدنيا، لا منقذ لهم، ولا سند يلتجئون إليه في ظروف كتلك الظروف التي وُضع فيها "راعي"؛ بطل الرواية، الذي أخذ يسرد قصة حياته، في اللحظة التي انتقل فيها إلى الغرفة التي استأجرها، ليعود بعدها بنا إلى التفاصيل الصغيرة التي دفعت به إلى مغادرة قريته، والنأي بنفسه عنها، وعن كل ما يمت لأهله بصِلة، وخاصة والده الذي أمعن في تعذيبه، وما كان الشقاء الذي يعانيه إلا بسببه فقط، هو وحده من كان مسؤولًا عن الوضع الذي آل إليه ابنه "راعي"؛ فعدم الاهتمام به، إهماله، ونبذه، ونبذ، ورفض رغباته، واهتماماته بالعلم والثقافة، ونعته إياه بالحمق وعدم الفائدة، ومحاولة جعله -مثله مثل غيره من الآباء في المجتمع- أن يكون على شاكلته، ويمضي في الطريق التي يرسمها له، ليكون ناجحًا بحسب رأيه في الحياة، ليتمّ وأد أحلامه، وقتلها، فيغدو محلًّا لسخرية الآخرين به، فلا يكتمل نضوجه العقلي، ولا العاطفي، نتيجة النبذ والطرد والإهمال، فيدخل في دائرة الضياع، ويدور حول نفسه في حلقة مفرغة لا نهاية لها، ويكون مصيره الاغتراب عن المجتمع، والناس الذين من حوله، والذين هم أيضًا بدورهم أهملوه، وسخروا منه، ليصل به الأمر إلى درجة الجنون والتيه عن الوجود كله "غرباء!...الغياب. الغرباء هم أولئك الذين ينتمون إلى (هناك ما)، وليس إلى (هنا)، وهذا الـ(هناك ما) غائب، وهذا الـ(هنا) حاضر، وفي حضوره نحن غرباء. وهؤلاء الغرباء كلهم أنا، والغياب كله أنتِ".
• أسئلة لا بدّ منها
قلق وجودي، مسيرة حياتيّة يرافقها الكثير من الوجع، غربة روحيّة، محاولة الابتعاد عن الناس، والعيش في عزلة تامة بعدما برهنوا أنهم أصبّوا الجحيم بالنسبة إليه، رحلة البحث عن الأمان، الحرية، الخلاص، طرح أسئلة كثيرة بحاجة إلى الإجابة عنها في ظل هذا الضياع الإنساني، وانشغال الناس بالأمور المادية، ونبذ الثقافة والمعرفة، وكرهها، معاداة الكتب، وقرّاءها، واقع سوداوي مؤلم، صراعات لا تنتهي، وواقع يؤدّي إلى الوقوع تحت سطوته، وسلطته التي لا ترحم، بيئة محافظة على التزلُّف والخداع، وتعيش في نفاق، وكل ما حوله مظاهر برّاقة، ووهمية، وأفراد يدّعون بما ليس فيهم، ابتداء من الحلقة الضيقة التي يعيش فيها الشاب المثقف "راعي"، وهي الأسرة، وتأثير والده فيه، وجبروته وقسوته عليه وعلى أمه، وانتهاء بالحلقة الأكبر، وهي المجتمع بأكمله، الذي لا يتركه وشأنه، ويمعن في تعذيبه، واغترابه؛ لتزداد الهوّة بينه، وبين الآخرين الذين يحيطون به.
تضعنا الكاتبة كفى الزعبي أمام جملة من الأسئلة التي لا بدّ من الإجابة عنها، والبحث في الأسباب التي أدَّت إليها في الرواية، من خلال حكاية بطلها "راعي"، المثقّف، الذي تدفعه ظروفه إلى الانتقال من القرية إلى المدينة، لتبدأ رحلة بحثه في الحياة عن ذاته، وسعادته، ليصطدم في خطوته الأولى من جولته، عندما يستأجر غرفة بسعر زهيد في مدينة عمّان.
• معاداة الثقافة
في واقع كالواقع الذي وصفته لنا الكاتبة، تصبح الثقافة أمرًا يدعو إلى السخرية، وكل ذلك بسبب الجهل المستشري فيه، والذي يؤدي إلى تسلُّط التديُّن، والأفكار السلبيّة تجاه العلم والقراءة، فوالده الجاهل كان يكره الكتب، ويدّعي الالتزام بالدين، ولا يفقه شيئًا فيه، ويعادي ابنه لشرائه لها، ويعتقد بأنها هي التي دفعت به إلى الإلحاد والزندقة، والفشل في حياته، ويصرف وقته دون فائدة عليها؛ لأنه كان يريد له أن يعمل مثل باقي أبناء جيله، يكسب المال، ويتزوج من امرأة، ويقضي عمره برفقتها، كما فعل هو مع أمه، وبنجب أطفالًا، ويلبي غرائزه ورغباته، ولكنه لم يفعل، بل سلك طريقًا مناقضةً تمامًا للطريق التي رسمها له الأب، لأنه كان يجد ضالته في الكتب وعشقه، ورغبته في الخلاص من هذا العالم الذي يخنقه بالوعي والثقافة، ومن جهل يحيط به، لذلك كان ينطلق قاصدًا المكتبة في جبل عمّان، ليحقّق حلمه، وينفكّ من أسر التشاؤم الذي ينغزه "كسوسة دءوب"؛ على حدّ قوله، ليجسّد هذا الشخص صورة جيل بأكمله، يعاني من هذه الحالة، وهذه الأزمة المتمثّلة بالمتزمِّتين، وضعاف النفوس، والمتمسكين بالجهل إلى أبعد درجة، ليصبح ضحية لهم.
• تفاصيل وأحداث
حب الكتب، والتعلّق بها يدفع بطل الرواية إلى بذل كل جهده لاقتنائها، على الرغم من معاداة الأب لذلك، لجهله وبخله. تزورهم "أم عائشة" قريبتهم، يكره الوالد زياراتها، ويطلب من زوجته ألّا تستقبلها في الدار، وبموت "أم عائشة" بحادث سيارة، يطمع الوالد بأموالها، تصبح ابنتها "عائشة" يتيمة، وهي بنت بلهاء، لديها مشكلة في عقلها، يقرِّر الوالد أن تعيش معهم في البيت، طمعًا في الاستيلاء على أرضها التي ورثتها بعد وفاة والديها، ويضع يده بالفعل على أموالها بلا وازع من ضمير. يعمل "راعي" وهو ابن سبع عشرة سنة ليكسب بعض المال، فيشتري به الكتب، ومن خلال حديثه مع العمال يسمع بقصص عن الجنس لأوّل مرّة في حياته، يدفع به الأمر إلى ارتكاب الخطيئة مع "عائشة" لأكثر من مرة، بدافع من غريزته المكبوتة، وحرمانه من العاطفة في المنزل، حين تدخل إلى غرفته في الليل، وتنام معه في الفراش إلى جانبه، يعرف أهله بالأمر الذي جرى بينهما، يقوم الأب بضربه بشدة، وتوبّخه أمه وتقرّعه، يبحث الأب بعدها عن زوج ساذج مثلها ليزوِّجها به، ويضربها حتى يسقط الجنين الذي في بطنها، لتموت على إثر ذلك، ليبدأ "راعي" بلوم نفسه على موتها، فيتمنى موت والده الذي قتلها، ويفكر كثيرًا في الانتحار: "لطالما فكرتُ في الموت والانتحار، خطر لي أنه بعد هذا العرض لا بد لي -أنا الميت- من الاحتفال باحتساء كأس من الخمرة، كأنه ليس مشهد النهاية، بل مشهد لبداية أخرى، يدرك فيها العالم الخطايا التي ارتكبها بحقّي، ويبكي أسفًا عليّ، ثم يغمرني بالحياة".
لتكتمل الأحداث بعدها في الرواية مع "راعي" الذي يعمل (مدرّسًا) عن صديقه "أحمد" الذى كان يعمل معه في المدرسة، ويخوض معه في مواضيع كثيرة، يسهر معه، ويشرب، ولكن هذا الشرب لن يتسبب له بترك صلاته.
- - - - - - - - -
- كفى الزعبي: كاتبة أردنية، أصدرت خمس روايات، منها (ليلى والثلج ولودميلا- عام 2007)- تُرجمت إلى الروسية وصدرت في موسكو عام 2010، (عُد إلى البيت يا خليل) رواية باللغة الروسية صدرت عام 2009.
- رواية (شمس بيضاء باردة)، صدرت عن دار الآداب، بيروت، عام 2018، للكاتبة الأردنية كفى الزعبي، ودخلت في القائمة النهائية "القصيرة" للجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر) لعام 2019.