عدوّ الله

قصة: د. أحمد الزعبي

كاتب وأكاديمي أردني

 

 

 

‏ كنتُ جالسًا في شرفة بيتي أتناول قهوتي في الصباح، وأطالع صحف اليوم، حين سقط على ‏أرض الشرفة أمامي هاتف "موبايل" بشكل مفاجئ. تناولتُ "الموبايل" ونظرتُ إلى البيوت ‏والشقق القريبة منّي، وفي ظنّي أنه سقط سهوًا من أحدهم واستقرَّ في شرفتي... لكنّي لم أرَ أحدًا. ‏أعدتُ النَّظر إلى الشارع وتفحّصتُ المارّة لعلّ أحدًا يبدو عليه القلق أو البحث عن شيء فقده... ‏ولكنّي لم ألمح أيّ شخص يبدو عليه أنه قد فقد شيئًا ما.‏

‏ انتظرتُ قليلًا... لعلّ أحدًا يطرق بابي يسأل عن "تلفونه" الذي سقط منه دون قصد...أو أنّ أحدًا ‏رماه في لحظة انفعال أو صدام مع آخر... لكنّ شيئًا من هذا لم يحدث. قلتُ في نفسي: أفتح ‏‏"الموبايل"... وأتَّصل بأحد الأرقام، وأسأل عن صاحب هذا الرقم بعد أن أشرح الأمر لِمَن يردّ... ‏مثلما يحدث معنا حين نعثر على أيّ "موبايل" في الشارع.‏

‏ لكنَّ المفاجأة... أنني حين فتحتُ "الموبايل" ظهَرَتْ صورة لشاب في منتصف العشرينات من ‏العمر يبعث برسالة صوتيّة إلى كل مواقع التواصل الاجتماعي... والـ"واتس أب".. وأخيرًا إلى ‏مَن يعثر على هذا "الموبايل"... يقول في رسالته:‏

‏(أنا فلان الفلاني -وذَكَرَ اسمه كاملًا وعنوانه مفصَّلًا- أرجو ممَّن يعثر على هذا التلفون أن يسلّمه ‏إلى أسرتي في العنوان المذكور... ففيه تسجيل بالصَّوت والصُّورة لِما حدث معي... حتى لا يتَّهم ‏الأهل أحدًا بقتلي... وحتى تعرف الدُّنيا كلّها حقيقة المأساة).‏

أُصبتُ بالدهشة... وانتابني الذُّعر من هذه الكلمات التي بدت كالألغاز حينًا... أو أنَّ كارثة قد ‏وقعت حينًا آخر... ودفعني الفضول والخوف إلى مشاهدة التسجيل الذي ذكره بالصوت والصورة ‏تحسُّبًا لأيّ خطر... وتجنُّبًا لأيّ مصيبة قد تقع على رأسي...‏

وفعلًا فتحتُ زرّ التسجيل، وظهر الشاب نفسه... يقف مذعورًا أمام مدرسة للأطفال... ويبدو أنّ ‏هناك احتفالًا ما، حيث يحتشد مئات الأطفال وعدد من المدرّسين والمدرّسات، يتوسّطهم ضيف ‏أو مسؤول كبير يُلقي كلمة في هذا الحفل... بدا الشاب قلقًا... كأنّه يُخفي شيئًا ما في جيبِه... ‏وفجأة أخرج تلفونه من جيبِه الآخر -لاحظتُ أنه التلفون نفسه الذي سقط في شرفتي- وتحدّث مع ‏شخص ما:‏

الشاب: ألو... هل أستطيع التحدّث مع الأمير؟

الأمير: نعم... أنا معك.‏

الشاب: هل يمكن تأجيل المهمّة... فالهدف... المسؤول... (عدوّ الله) يتوسَّط مئات الأطفال ‏والمدرّسين... وأيّ تفجير... صحيح أنه سيصيب الهدف... ولكنه سيصيب الكثير من الأبرياء... ‏ويُزهق كثيرًا من الأرواح... مرّة أخرى أرجو تأجيل المهمّة.‏

الأمير: مَن كلّفك بالمهمّة؟

الشاب: حضرتكم.‏

الأمير: وما واجبك؟

الشاب: السَّمع والطاعة والتنفيذ.‏

الأمير: إذن... اسمع وأطِع ونفّذ... فالغاية تُبرّر الوسيلة... لا تُضِع الفرصة... فعدوّ الله أمامك... ‏أمّا القتلى الآخرون... الأطفال... أحباب الله.... فهُم شهداء....‏

وأُّغلَقَ التلفون.‏

وقف الشاب حائرًا... يده تقبض بقوّة ورعشة على قنبلة فتّاكة في جيبه... ورأسه يمور بصور ‏ومشاعر لا حصر لها... كيف يختار اللحظة المناسبة لإصابة الهدف؟ ثم كيف يُحدد اللحظة التي ‏تكون فيها خسائر الأطفال أقل؟ ثم كيف يفرّ من المكان وينجو بجلده؟ ثم كيف...؟ وكيف....؟ ‏وكيف....؟ ‏

تجمَّد الشاب مكانه... وانتابته رجفة حادة... ثم قال: (في تلك اللحظة انبثق من أعماقي طفل ‏كالعفريت... انتصب أمامي... تسرّب في دمائي... تجوّل في كل أزمنتي... الماضية والحاضرة ‏والقادمة... زكمتني رائحة الدماء المتناثرة على وجهي وملابسي... أفقدني النطق والسمع عويل ‏الأمهات وصرخات الأطفال... وفرَّت منّي الذاكرة بعيدًا... ‏

‏ فحين كنتُ قبل قرابة عشرين عامًا بين هؤلاء الأطفال... ألعب... وأقرأ... وأعزف... ‏وأغني... وآكل (سندوتش) أمي... كبرَت صورة الطفل في أعماقي ورأسي... ومسحَت جنوني ‏في هذه اللحظة العمياء... وحلّت محلّها لحظة طفوليّة أخرى أعادتني إلى طبيعتي... إلى ‏آدميّتي... أقسمتُ لنفسي أمام نفسي أنّني بشر... أعدتُ القسم ثلاثًا... إنّني والله بشر... بشر... ‏بشر... ومَن يغلب مَن....‏

وغلبني الطفل العفريت الآدمي... فانسحبتُ بهدوء من المكان... يدي على قنبلتي العمياء في ‏جيبي... وضحكات الأطفال ترنّ في وجداني... تُعيد إليّ آدميّتي وطفولتي... وها أنا ذا... أذهب ‏بعيدًا... إلى مكانٍ خالٍ من البشر والشجر والحجر... وقد أفجّر نفسي بقنبلتي... أو أفجّر قنبلتي ‏بنفسي... لا فرق... فإذا كانت الحال اليوم هي هكذا... فكيف ستكون الحال إذن غدًا؟ إنّني لا ‏أريدُ أن أسمع عنكم شيئًا... فما عدتُ أعرفُ مَن هو عدوّ الله الحقيقيّ... مَن هم أعداء الله... ومَن ‏هم أحباب الله...‏

وها أنا أرمي هذا "الموبايل" –الوثيقة- إلى هذه الشرفة التي أمامي... راجيًا ممّن يعثر عليه أن ‏يلبّي طلبي... وينشره في كل الدنيا.... فإنْ عُدتُ أكون له من الشاكرين... وإن لم أعُد أكون له ‏من الشاكرين أيضًا.‏

ملاحظة:‏

‏ لم يكن هذا الشاب يعلم أنَّ ابنه الصغير قد أُحضِرَ إلى الاحتفال من مدرسته القريبة، مع أطفال ‏آخرين من مدارس مجاورة، ليتسلّموا جائزة التفوُّق في الموسيقى وفي مواهب أخرى...‏