قصة: نادية أحمد محمد
كاتبة مصرية
حينما تحوَّلَت "فتحية" إلى نمرة غاضبة تحوَّلتُ -رغمًا عنّي- إلى فأر مذعور، عيناها المتأجِّجتان صبَّتا نارهما فوق وجهي، قالت إنَّها لم تعُد تتحمَّل المكان، الرُّطوبة ستقتلها وقد قرَّرَتْ أن تتركني.
تهاويتُ، تفتَّت جسدي قطعًا مغسولة بماء القلق، حدَّقتُ في لمعة عينيها السوداوين، فيهما حدَّة قرار لا رجعة فيه، أنا أعرف عنادها، وجهها الصغير بتعرُّجاته الناعمة الملساء ومكوِّناته الدقيقة التكوين يرسم لوحة تنطق بالإصرار.
حدَّقتُ في الولد الباكي داخل إطاره المعلَّق على الجدار متسائلًا كيف أثنيها عمّا انتوته، أجبرُها على التَّراجع عنه، أحثُّها على البقاء حيث نحن الآن في "البدروم"، وأقنعها بالرِّضا بوجودنا في هذه الحجرة؟
هذا هو المكان الذي اختاره صاحب العمارة لي، أمرني أن أستلمه بمجرَّد استلامي العمل بوّابًا ففرحتُ، في هذه المنطقة لا يوجد سكن للفقراء إلا في "البدروم" أو على السَّطح، أمّا ما بينهما فلا يحقُّ لك التفكير فيه.
الغريب أنَّ "فتحية" منذ اليوم الأوَّل لها هنا لم تفرح مثلي، ولم تقبِّل يدها ظهرًا وباطنًا، وأطلقت شكواها طيورًا زاعقة في فضاء الحجرة تذكِّرني ليل نهار برفضها له وإنكارها لبقائنا فيه، الصُّعود مثل بقيّة الناس إلى ما فوق الأرض، ذلك أملها منذ أتينا إلى هنا.
حينما حدَّثتُها عن القناعة والصَّبر وضرورة انتظار فرصة ننتهزها وننتقل لمكان آخر كما تريد، صرَخَتْ مُطالِبةً بصعود الدَّرَجات القليلة الفاصلة بيننا وبين أرض الحارة فورًا، أضاءت المصباح الهزيل لتكسر حدّة العتمة المُسيطرة في وضح النهار على حجرتنا الصغيرة، وأبانت ذراعيها آثار سطو الحشرات الطائرة المتوطِّنة حجرتنا على دمائها شديدة الوضوح. حدَّقتُ في براح وجهها متأمِّلًا ما آل إليه حاله، كان يومًا رائق البياض كنهار يفيض بالصَّحو، تتبارى على صفحته ملاحة الشُّروق مع صفاء السّحر مع روعة المساء في أحضان ضوء البدر وإطلالات النجوم، الآن صارت كائنة ليليّة، تصاحب الظلمة أسفل الدَّرجات القليلة بيننا وبين ناس ما فوق الأرض، ولا تمتلك إلّا اختلاسات تختلسها بين الحين والآخر لتنفذ بعينيها من فتحات شبّاك حجرتنا الصغير الذي يكتفي بتعقُّب أقدام المارّة وبقايا أشلاء الضوء المترامي على تراب الطريق، تضع مقعدًا بجوار الشبّاك تقف عليه، ترقب الخطوات المارّة إلى الدَّرجة التي صارت فيها خبيرة في تحديد ناس ما فوق الأرض من دقّات خطواتهم، قائلة إنَّ لكلٍّ منها ملامح لا تخطئها أذن.
وقد كنتُ كثيرًا ما أراها تقف أمام الشبّاك من الخارج تحدِّد بعصا صغيرة في يدِها حدود مستطيل صغير أمامه، قائلة إنَّها تحلم أن تتَّصل بناس ما فوق الأرض بهذا المستطيل. أسألها:
- كيف؟
تقول لي:
- نحوِّل هذا الشبّاك إلى باب، أمامه درجات قليلة صاعدة إلى الطريق تتقافز عليها أشعة الشمس ناشرة نورها في أركان الحجرة.
تذكَّرتُ هذا، عدتُ إليها وقد أشرق ضياء الأمل في صدري، قلتُ بقوّة وأنا أرجو أن تتقبَّل وعدي مثل كلّ مرَّة وتتراجع عن تصميمها:
- سأحوِّل الشبّاك إلى باب، أمامه درجات تجعلنا من ناس ما فوق الأرض.
رأيتُها تتبسم لي برثاء.
نفختُ في كلماتي حرارة أكثر راجيًا أن تلين.
لم تكن تنظر إليّ، ولم تنبس بحرف.
فردَتْ ذراعيها من جديد، رفرفا في فضاء الحجرة، دارَتْ دورتين باحثةً عن مخرج، اتَّجهت عيناها إلى ما خلف القضبان، انطلَقَتْ!! .