لقاء حميم

موسى إبراهيم أبو رياش

كاتب أردني

 

 

صَلَّى على جنازة والده، وشيَّعها إلى المقبرة، ثم اتَّخذ ركنًا قصيًا، يراقبهم عن بُعد ‏وهم يهيلون عليه التراب بهمّة ونشاط، وبعد موعظة قصيرة، غادر الجميع. سار ‏على مهل تجاه القبر؛ ليتأكد من خلوّ المكان، جلس عند رأس أبيه، بكى بحرقة، ‏دعا له طويلًا، تنهَّد، وقال: "أتعلم يا أبي أنَّ هذه هي المرَّة الأولى التي أجلس ‏معك وحدنا؟ وقد كنتُ أسمعكَ دائمًا يا أبي، قبل أن أُطرد من بيتك، وأنت ‏توبِّخني وتؤنِّبني وتضربني أحيانًا، وأنا صامت لا أنبس بحرف، واليوم ستسمعني ‏يا أبي وأنا أحدثكَ، وأنا أعلم أنكَ لن تستطيع منعي أو أنْ تردَّ عليّ. لا، لا يا ‏أبي لن أعاتبكَ، أو أحاسبكَ، معاذ الله، فأنت أبي وصاحب الفضل عليّ، ‏وسأحترمكَ ميتًا كما أحترمتكَ حيًّا".‏

مسح دموعًا انهمرت من عينيه، ثم قال: "لن أشكو يا أبي، فقد فات أوان ‏الشكوى. أعلم يا أبي، وسامحني، أنك كنت مغلوبًا على أمرك، ومضطرًا ‏لمعاملتي بقسوة إرضاءً لزوجتك وإخوتي، التي كانت تلحُّ عليك وتشكوني دائمًا، ‏وأنا يتيم الأم منذ طفولتي، وكنتُ أظنُّها ستكون أمًّا لي؛ لأنها كانت صديقة ‏وجارة عزيزة لأمي، ولكن، لا يهم يا أبي، لا أم إلا التي ولدت، وما عداها ‏سراب، وهم، وغالبًا ما يكون الواقع أسوأ من كل توقُّع، هذه هي الدنيا في هذا ‏الوقت يا أبي. لستُ غاضبًا، وقد كنتُ، أسامحكَ يا أبي، وأسامح إخوتي ‏وزوجتك الثانية، وأسامح كل مَن أساء إليّ".‏

يتلفَّت حوله، وينظر في جهات المقبرة: "لا عليك يا أبي، سأبقى بجوارك إلى ‏حين، لا، لا، لن يفتقدني أحد في بيت العزاء، وسيأكلون الطعام، ويضحكون ‏ويتمازحون وينكتون، ولن يسأل عنّي أحد، فما فعلوها من قبل، ولن يفعلوها بعد ‏رحيلك. أأُخبركَ بأسوأ من ذلك يا أبي؛ لم أعرف خبر موتكَ إلا عن طريق ‏الفيسبوك، فلم تردع هيبة الموت وجلاله إخوتي، ولم يخبرني أحد منهم، وهم ‏يعلمون مكاني، لم أحاول وداعكَ قبل دفنك؛ لئلا أتسبَّب بمشكلة في غير وقتها ‏ولا مكانها، فأنتَ في قلبي يا أبي عزيزًا مكرّمًا، لم تبرحه ولن تبرحه إلى الأبد، ‏فما حاجتنا إلى الوداع إذًا؟!".‏

يصمت قليلًا، يمسح دموعًا عن خدَّيه، يستغفر ويحوقل: "عندما تعرَّضتُ ‏لحادث السَّير، ومكثتُ في المستشفى أسبوعين، شعرتُ بحاجتي إليك يا أبي، ‏إلى رؤيتك، إلى لمسة من كفِّك، إلى نظرة من عينيك، إلى دعائك، إلى عبارة ‏‏(الحمد لله على السلامة)، فنحن أحوج ما نكون إلى أحبَّتنا حين ضعفنا ولو كان ‏من حولنا كل الناس. أعلم أنكَ ربما لم تسمع بخبر الحادث، ولو سمعت فلن ‏يسمح لك أولادك وزوجتك بزيارتي؛ لئلا يرقّ قلبك، وتتغلّب عواطفك، وتعود ‏الصلة بيننا، علمًا أنَّ إخوتي سمعوا بما أصابني من صديق مشترك، وأنا على ‏ثقة أنهم لم يخبروك، ولِمَ يخبرونكَ أصلًا؟ وأنا بالنسبة لهم لا شيء، ذكرى ‏قديمة، كان وانتهى.‏

أعلم يا أبي أنكَ تنازلتَ عن كل أملاكك لإخوتي، ولم تترك لي شيئًا، وليكن يا ‏أبي، فما حاجتي إلى أملاككَ وقد فقدتكَ إلى الأبد، وأيّ شيء يا أبي يعوّض ‏خسارتي فيك؟ أنا صادق يا أبي، وما حاجتي إلى الكذب عليك وأنت بين يدي ‏الله، نعم، خسرتك يا أبي؛ لأني كنت أعلم أنَّ وراء قسوتكَ قلبًا عطوفًا باكيًا، ‏وعينين تدمعان في وحدتك، وأنّك كنتَ تداري يا أبي؛ ليسير المركب ولا تعصف ‏به الرياح الهوجاء، أعلم أنك حاولت يا أبي، حاولتَ حتى لم يعُد في اليد حيلة، ‏ورأيتَ أن تضحّي بواحد من أجل عيون إخوتي وأمهم، حسبتها صحّ يا أبي، ‏وأنتَ تدرك في قرارة نفسك أنك لن تخسرني، فأنا ابن حبّك الأوّل، زوجتكَ ‏الأولى، التي لفظت أنفاسها تنطق باسمك وهي تراكَ باكيًا ملتاعًا ضائعًا".‏

مسح عينيه ودموعه المنسابة، بعد أن علا نشيجه، ثم هدأ: "لن أترككَ يا أبي، ‏سأزوركَ كل يوم إن شاء الله ما لم يمنعني ظرف قاهر، سأرشّ على قبرك ‏الماء، وأضع عليه وردة، صحيح أنّ الطريق طويلة، وصحّتي عليلة، ولا أملك ‏سيارة، ولكن لن يمنعني ذلك من زيارتك، فقد حُرمت منك حيًّا، ولن أُحرم منك ‏ميتًا. سأحدّثكَ يا أبي في الأيام القادمة عن أحفادك وشوقهم لزيارتك، سأخبرك ‏عن زوجتي التي كانت تتمنى أن تخدمكَ وتأنس بوجودك وتنال بركتك، سأحكي ‏لك عن أبي منصور وأبي لطفي وأبي عدنان والمختار أبي نعيم أصحابك في ‏حيّنا القديم، الذي تركَتْه مع زوجتك بعد أن بِعتَ البيت، أمّا أنا فقد استأجرتُ ‏بيتًا متواضعًا بالقرب منه، لأبقى في مكان عشتُ فيه طفلًا، وعاشت فيه أمي، ‏فرائحة الأم هي ما تبقّى لي يا أبي بعد أن تركتَني مكرهًا، وقطعتَ حبال ‏الوصل.‏

سأخبركَ بسرٍّ يا أبي؛ لن أترككَ أبدًا، سأشتري قبرًا لي بجوارك تمامًا؛ لنكون معًا ‏في موتنا، بعد أن حُرمنا أن نكون معًا في حياتنا. لا تحزن يا أبي، هنا لن ‏يزعجنا أحد، سنكون خفافًا من أيّ مسؤولية، سنتحدث كما يحلو لنا، سنتحدث ‏عن أمي التي تحبّ، وعن أحفادك الذين أعلم أنكَ تحبّهم، وكنتَ تتمنى أن ‏تحظى برؤيتهم واحتضانهم وتقبيلهم، سيحضرون قريبًا لزيارتك، سيعوّضونك عن ‏الحرمان والبُعد، فهم أطفال أنقياء لم يتلوّثوا بعد".‏

نظر إلى ساعته: "اعذرني يا أبي، فيجب أن أعود إلى البيت، إلى بيتي في حيّنا ‏القديم، فهناك بيت عزائكَ الحقيقيّ، حيث أحفادكَ وزوجتي يبكون منذ قرأنا خبر ‏موتك، يبكون حسرةً وحزنًا وألمًا وفقدًا، وأصحابكَ وجيرانكَ القدامى ينتظرون ‏عودتي لتعزيتي فيك، وحتى جارتنا أم خضر، بكت عندما أخبرتُها بموتكَ وأنا ‏في طريقي إلى الصلاة عليك".‏

وقف، وأخرج من جيب سترته الداخلي قارورة ماء، رشَّها على تراب القبر على ‏مهل، ثم أخرج من جيبٍ ثانٍ وردة بيضاء، وضعها على القبر، وقرأ الفاتحة. ‏سمع نهنهة بكاء، مسح دموعًا تسحُّ من عينيه، ومضى مبتعدًا متهالكًا يتوكَّأ ‏على عصاه.‏