مداخلة د. رزان إبراهيم
أكاديمية وناقدة
في عمومها؛ فإنَّ العملية النقديّة تقتضي وجود مرتكزات معرفيّة، كما تتطلب متابعة مستمرة لكل ما يستجد على الصعيد المنهجي، خصوصًا أنَّ العالم يشهد قفزاتٍ نقديّةً متسارعة تتجاوز دروسًا أكاديميّة تلقاها الدارس في مرحلة دراسية معينة. والناقد الحق يُخضع نفسه لقانون التطوّر ويجدّد قناعاته، وهو ما يكسبه هيبته. وإن كان عمل الأديب شبيهًا ببناء آلة ضخمة، فإنَّ العملية النقديّة تتطلب نقدًا يوازي الجهد الذي يبذله الأديب، أمَّا التلخيص مع كلام مكرور يُقال في كلِّ النصوص الأدبيّة دون خصوصية تذكر فليس من باب النقد بشيء.
وفيما يلي محاور أساسيّة أطرحها للنقاش:
- الناقد بين زمنين: في الزمن القديم كانت الأعمال الإبداعيّة المطروحة قليلة والنقاد عددهم قليل، وكثير من الكتّاب ينتظرون المرور من قناة النقد. وقد كان للناقد دوره اللافت في تعريف الناس برواية جديدة مهمة، وكان معيار نجاح الرواية مرهونّا بما يكتبه النقّاد عنها، بما يعني أن سلطة الناقد كانت قوية. الآن باتت آليات التسويق الإعلاميّة تحلُّ مكان مرجعيات نقديّة يُعتدُّ بها، وشاعت ظاهرة قراء متابعين يقدمون نقدًا مغلوطًا يصدقه الكاتب نفسه فينشر بلا توقف.
- شيوع ظاهرة المتطفلين على النقد: وهؤلاء أفقدوا الناقد هيبته، وهو ما تتحمل مسؤوليته مؤسسات تحتفي بأي عمل روائيّ بما يتعارض مع ما يصف به ميخائيل نعيمة النقد بأنَّه غربلةٌ وليس احتفالية. وأعتقد أن دعم الروايات الساذجة أمر مدان في كل الأحوال. وأي مديح لرواية تافهة يحمل إدانة كبيرة لناقد يصنع نجوميّة خادعة ويشرعن ما لا يجوز شرعنته. وهو ما يفضي للحديث عن المؤهل الأخلاقي للناقد حيث الترويج المحكوم بعلاقات ومصالح خاصة، تتلاشى معه قدرة الناقد على أن يكون له موقف نقدي حر بعيدًا عن تحيّزات تؤطر أحكامه. في الإطار نفسه، فإنَّي أرى أنّه لا يجوز للناقد كما للمبدع عمومًا، باسم حرية الفكر والإبداع، أن يعرض بآخرين لأسباب ودوافع شخصيّة تبتعد عن الموضوعيّة. السب والشتيمة ليس نقدًا، وهذا ما يحصل بعد الإعلان عن جوائز لعبت دورًا في تعريفنا في عملٍ أدبيٍّ نفترض وجود نقد يرافقه، يعرض لجوانب الضعف أو القوة فيه، بدلًا من نقد انطباعيّ أو عاطفيّ انفعاليّ.
- الصيغة النقدية الغربية في التعامل مع النصوص الأدبيّة: المسألة الجوهرية الرئيسية التي تستحق التناول ونحن نعاين المشهد النقدي الأردنيّ أو العربي عمومًا ترتبط بما يرافق هذه المسألة من سؤال حول غياب الصيغة النقدية النابعة من الخصوصية العربية! لهذه القضية أبعاد كثيرة نجملها في الآتي: إنَّ النظرية جهد إنساني عام، والثقافة العربية غير منعزلة عن حركة المستجدات العالمية، ومن حقنا أن نحاكم نصوصنا باستخدام لغة عالمية، شريطة النأي عن أخذٍ أعمى. لكن لدينا مشكلة تتعلق بإجراءات نقديّة تُحمّل النص الأدبي فوق طاقته، وأحيانًا تفرغ النص من إنسانيته، والتجربة أثبتت تفشي تعقيدات وطلاسم يضيق بها القارئ، ومن شأنها حجب النص عن وقائع وجودية للحياة البشرية، والاكتفاء بمظاهر الخيال والجمال على أهميتهما.
- علاقة النقد بالإبداع: العلاقة تكاملية بين الناقد والمبدع. الناقد لن يخلق مبدعًا، الكاتب الأردني يشكو أن الناقد الأردني لا يواكب حركته الإبداعيّة، وأنّه لا يروّج لنتاجه. وأحيانا تسمع من يقول أنَّ لا وجود للنقّاد، علمًا أن النظريات النقدية تنبثق من نصوص إبداعية عظيمة، وهو ما يخلق علاقة جدلية مهمة بين العمليتين الإبداعيّة والنقديّة. الأديب قد يكبّل الناقد، لأنَّه بكل بساطة لا يتقبل النقد ويرى نفسه فوق النقد، والناقد أحيانًا يفضل السكوت عما يخلق له معركة يحسُّ بأنَّه في غنى عنها. أحيانًا يُطلب من الناقد تقديم عمل فيتبين له إنَّه ضعيف، فيحتار بين شهادة زائفة أو وضع العمل على محك النقد الموضوعي. هذا لا يمنع وجود روائيين يستقبلون ملاحظات الناقد بروح طيبة.
- أثر الصحف والمجلات الأدبيّة في الأردن: نعم هناك حصّة للنقد الروائي في الصحافة الدوريّة، تتوجه على الأغلب إلى عموم القراء المهتمين بالأدب، وبعروض نقديّة سريعة تقدمها الصحف، من شأنها توجيه الذائقة العامة.. تحضر قبالةَ مجلاتِ نقدٍ أكاديميّ يمارسه أساتذةُ الأدب في الجامعة لغايات البحث العلمي، ينأى عنها قارئ يجد في النقد الأكاديميّ تشريحًا طويلًا مملًا، لذلك أمامنا جهود أكاديميّة تبقى حبيسة الحقل الأكاديمي.