مداخلة أ. نضال برقان
صحفي وشاعر
تجتهد الملاحقُ الثقافيّة الأسبوعيّة في الصحف اليوميّة في إيجاد حركةٍ فاعلةٍ ومتواصلة في بحيرة النقد في الأردن، إذ تشكّل منصة رئيسة لمن يرغب بممارسة النقد، سواء كان ذلك الراغب متخصّصًا بالنقد أو بغيره، كأن يكون شاعرًا أو روائيًّا مثلًا، وهذا الأمر ليس جديدًا على المشهد الثقافيّ الأردنيّ، بل والعربيّ أيضًا.
وقد أفردت جريدةُ الدستور صفحاتٍ خاصّةً للثقافة منذ بداياتها، في العام 1967، الأمر الذي انعكس إيجابيًّا على مجمل مفردات المشهد الثقافيّ، وعلى رأس تلك المفردات يتربع النقد، إذ كانت تُفرد له مساحة تزيد عن ثلثي الملحق، والحال نفسه ما زال قائمًا من حيث الاحتفاء بالنقد والنقّاد، انطلاقًا من أهمية الدور الذي يضطلع به النقدُ في تطوير مجمل مفردات المشهد الثقافيّ.
غير أنَّ جملةً من التحديات التي ظهرت في العقد الأخير، وربما قبله بقليل أيضًا، كانت لها تأثيرات سلبيّة على الدور الذي تضطلع به الصحافة في خدمة الثقافة بعامة، والنقد الأدبيّ بخاصة، ومن تلك التحديات يبرز غياب الملفات الثقافيّة بعامة والنقديّة بخاصة عن تلك الملاحق، وهو غيابٌ أثّر سلبًا على سويّتها الفنية، وأبعدها عن واحدٍ من أهم أدوارها الرئيسة: إثارة النقاش والجدل، وقد كان النقّاد دائمًا هم عماد تلك الملفات، وبالتالي فإنَّ اختفاءها أخفى معه أيضًا أداةً مهمّة من الأدوات التي كان النقّاد يمارسون من خلالها مهنتهم.
وبسبب ما تعانيه الصحافة الورقيّة من تحدياتٍ ماليّة في العالم أجمع، باتت الملاحق الثقافيّة رهينة ما يجود به (صندوق البريد)، وهو الصندوق الذي يحفل، عادةً، بكتابات جيّدة مرةً، وضعيفة مرات عديدة، أو بكتابات إخوانيّة فيها من المجاملات الكثير، ما جعل الكثيرين من القرّاء يعتقدون أن تلك الإخوانيات هي نقود، أما كتّاب تلك الإخوانيات فراحوا يعتقدون أنهم نقّاد، لدرجة أنَّ بعضهم راح يضع قبل اسمه، مثلا: الناقد والروائيّ فلان، أو الناقد والأديب فلان، وهكذا.
كما أنَّ شيوع منصات التواصل الاجتماعي، جعلت الكثير من غير المبدعين يرون أنفسهم مبدعين متميزين، فمن هُم مِن غير الشعراء أو النقاد الأصيلين، على سبيل المثال، يرون أنفسهم شعراء مجنحين ونقادًا لا يُشقّ لهم غبارٌ، وكلّ واحد من هؤلاء يريد منصّة، وفي حال ردّه من قِبل المؤسسات الإعلامية سيأخذ الأمر على محمل شخصيّ، أو سيعمل على استخدام نفوذ فلان، أو غيره لكي ترى كتاباته النور، ليس بوصفها نقدًا فقط بل بوصفها فتوحاتٍ نقديّةً..
فثمّة على السطح ركاكة، فيما يتمّ نشره، هنا وهناك، في العديد من الأجناس الأدبيّة، ومن ضمنها في النقد، وثمّة عزوف من قِبل بعض النقاد عن الانغماس بالمشهد النقديّ المحلي، مؤثرين التحرك في فضاءٍ عربيّ، ومن خلال نقود ليس لها علاقة بالمشهد الإبداعيّ الأردنيّ من قريب، أو من بعيد، الأمر الذي انعكست نتائجه السلبيّة على المبدعين الحقيقيين قبل انعكاسها على المدّعين منهم.
النقدُ، كما هو معروف، منه ما هو وصفيٌّ، يتناول خصائص النصِّ دون الحكم عليه، ومنه ما هو تقييمي (أو قيمي) يتناول الحكم على مدى جودة أو رداءة هذا النص أو ذاك، استنادًا لمقاييس يعلّل على أساسها، قياسًا، مدى جودة النص وقيمته الأدبيّة، وإن كان النوعُ الأولُ شائعًا فيما يُنشر عبر الملاحق الثقافية، فإنَّ النوع الثاني يكاد يكون معدومًا، وذلك تجنبًا لوقوع الناقد في خلافات شخصيّة مع صاحب النص، الذي لا يؤمن، غالبًا، بعبارة (رحم اللهُ امرأً أهدى إليَّ عيوبي)، وفي هذا السياق لنا أن نتخيّل ذلك الأثر الذي تركه انسحاب النقد القيمي من المشهد الثقافيّ، بخاصّة فيما يتعلق بشيوع الركاكة من دون أن يكون هناك من يقرع الجرس.
بسبب ذلك كله، وبالضرورة بسبب غيره أيضًا، فإنَّ حركة النقد الأدبيّ في الأردن لا تبدو بخير.