فاطمة الزهرة العسيري
كاتبة مغربية
"ما رأيكَ أنْ نغيِّر نظرتَنا للفشل؟"، بهذا السؤال الذي يشرك فيه "تشارلز بيبين" Charles Pépin القارئ، يستهلّ الفيلسوف الفرنسي كتابه عن "فضائل الفشل" Les vertus de l'échec، وهو عبارة عن بحث يستدرجنا فيه المؤلف لتغيير نظرتنا السلبيّة للفشل، والنَّظر إليه باعتباره الخطوة الأولى لبداية مسار حقيقي نحو النجاح.
أنْ تخفقَ لا يعني أنَّكَ فشلت. ومع ذلك، فإنَّ العديد من الآليّات تقودنا إلى التفكير في الفشل بطريقة دراماتيكية. لكن، ماذا لو كان الفشل أخيرًا جزءًا من النجاح؟
يقدِّم "تشارلز بيبين" في كتابه (فضائل الفشل)، الذي نشرته دار Allary Éditions، تحليلًا أصليًّا للفشل، بعيدًا عن المعايير الاجتماعيّة الحاليّة، معتمدًا على العديد من النصوص الفلسفيّة والأمثلة الواقعيّة. يقول تشارلز: "في فرنسا، لا يُنظر إلى الفشل بشكل جيد. إنَّنا نعتبره ضعفًا وخطأ، وليس دليلًا على الجرأة والخبرة. إنه من النادر أن يخلو أيّ نجاح من عقبات، ولنا في العديد من الأسماء أمثلة ملموسة، فعلى سبيل المثال لا الحصر؛ (تشارل ديغول) Charles de Gaulle و(رافاييل نادال) Rafael Nadal و(ستيف جوبز) Steve Jobs و(توماس إيديسون) Thomas Edison و(جي كي رولينج) J.K. Rowling، فجميعهم عانوا من نكسات دراميّة قبل أن يحققوا إنجازاتهم الباهرة. إنَّ إعادة قراءة مسار حياتهم يعلّمنا كيف نجح كل هؤلاء لكن بعد فشلهم؛ قراءة تبيِّن لنا كيف أنَّ كل اختبار يواجهنا برغبتنا الحقيقيّة أو العميقة، يمكن أن يجعلنا أكثر وضوحًا، وأكثر نضجًا، وأكثر حيويّة".
• ضرورةُ الفشل
لا يمكننا إنكار الفشل، إنَّه ضرورة، ويجب علينا أن ندرك ذلك ونتقبَّله، لأنَّه ومن دونه، لا يمكن أن يكون هناك تعلُّم أو اكتشاف لرغبة عميقة. يقول المؤلف: "إنّني غير مقتنع بوجود شخص فاشل، فالفشل ليس ذاتيًّا، بل إنَّ الفشل مرتبط بمشروعي، لقد أخفقتُ في مشروعي، لكنني لست فاشلًا". فإذا كُنّا مهووسين بالنجاح، فإننا نخضع لضغوط شديدة، والفشل هنا ليس ببعيد المنال. في بعض الأحيان، نعتقد أنَّنا نكرِّر إخفاقاتنا نفسها، بيد أنه يمكننا أنْ نرى أنَّ هذا ليس هو الحال دائمًا. قد تتكرَّر إخفاقاتنا، ولكن ليس بشكل متطابق. وفي الواقع، فإنَّ حريّتنا هي التي تخيفنا، يقول "بيبين": "تخوننا الجرأة والخوف من أن نحطِّم أنفسنا، فنضيّع بذلك طموحاتنا ونفشل في كسب الرهان، لأنه في لحظة الجرأة كنّا محطّمين بسبب الخوف من الفشل، هذا الخوف يجعلنا متوترين عندما نريد أن نجعل حياتنا سلسلة من الخيارات العقلانية، ولكن الأمر يصبح لا يطاق حالما ندرك أنَّ حياة صانع القرار لها نصيبها من الأخطاء والآمال المحبطة والفرص الضائعة".
إنَّ الفشل سمة إنسانيّة، ذلك أنَّ الحيوانات لا تخفق ولا تفشل، لأنَّ غريزتها هي التي توجِّهها. الحيوانات تفعل الأشياء بشكل مثالي، مثل المهر الذي، بعد ساعة من الولادة، سوف يخطو خطواته الأولى. أمّا نحن فسنسقط أكثر من ألفي مرَّة، ولن نمشي لمدة عام، نحن لسنا جيدين بما فيه الكفاية، حيوانات غير مكتملة كثيرة الإخفاق. يواجه الطفل منذ الولادة إخفاقات متكررة، والتغلب عليها سيساعده على التقدم بسرعة كبيرة. وبعد ذلك سيتعلم هذا الطفل ركوب الدراجة، وبعد ذلك سيقود السيارة، إننا نتعلم من فشلنا بل وأكثر من ذلك؛ نستمع ونتعلم من إخفاقات الآخرين، إننا نفشل لأننا وببساطة نتمتع بالحرية، لسنا مصممين بغرائزنا لفعل ما نفعل. نحن نخطئ لأننا أحرار من الخضوع لغريزتنا الطبيعية. نتعلم من خلال الفشل، ونصحِّح أخطاءنا الأوليّة.
• كيف يمكنُ تحويلُ الفشل إلى قوّة؟
يدحض "تشارلز بيبين" الاعتقاد الشائع والخاطئ بأنَّ الفشل علامة على الضعف. في الواقع، نجد أنَّ أعظم النجاحات نادرًا ما تحدث دون أن تُختبر من خيبات أمل كثيرة. ويوضِّح المؤلف هذا الأمر في ضوء تجارب العديد من الرياضيين ورجال الأعمال والفنانين الذين كافحوا بالفعل، وشهدوا صعودًا وهبوطًا، قبل تأسيس أنفسهم في الجزء العلوي من لوحة الإعلانات. يقول "بيبين": "هناك حالات فشل تقوّي إصرارنا وإرادتنا، وهناك حالات أخرى تزجّ بنا في مستنقع الاستسلام، وتجعلنا أكثر عدوانيّة، يجب علينا أن نحوِّلها إلى طاقة إيجابية تمدّنا بالقوة والمثابرة وتعطينا قوة دافعة للتغيير، وتجعلنا أكثر حكمة وعقلانية".
يشير المؤلف إلى أنه إذا كان الفشل يُنظر إليه بشكل سلبي وسيئ في فرنسا، فإنه في الولايات المتحدة الأميركية يروَّج له باعتباره علامة على الخبرة والجرأة، ففي هذا البلد تنظَّم مؤتمرات "failcon"، حيث تأتي شخصيات عديدة لتبيِّن بالتفصيل الصعوبات التي أدَّت إلى نجاحها. يقول المؤلف أيضًا إنَّ البنوك الأميركية تقدِّم قروضًا إلى روّاد الأعمال الذين فشلوا بالفعل أو أفلسوا، حيث تعتبرهم قد تعلّموا واستفادوا، وبالتالي لن يرتكبوا الأخطاء نفسها مجدّدًا! فإنْ كانت شركتك قد أفلست، فهذا لا يعني بالضرورة بأنك لن تكون رجل أعمال ناجح في وقت آخر من حياتك.
يتطرَّق "تشارلز بيبين" أيضًا لموضوع الفشل من منظور التحليل النفسي، ويوضِّح أنه يمكن تفسير الفشل على أنه فعل ضائع، واعتباره فرصة للتساؤل عن رغباتنا العميقة وما نحن عليه حقًا. فأحيانًا لا نتفوَّق، وقد لا نتعلَّم من ذلك شيئًا، وهذه هي طبيعة الحياة الحقيقية. "فعندما أواجه الفشل، وأكرِّر ذلك، ربما يكون السبب هو أنني لم أستمع إلى رغبتي العميقة. ربما ينشب صراع داخلي: فشلٌ واعٍ، ونجاحٌ غير واعٍ. إنه الفعل الفاشل. ومن خلال هذا المنظور يُنظر إلى الفشل على أنه عبارة عن أفعال فاشلة، ويتم التعبير عن اللاوعي من خلال الفشل، وغالبًا ما يكون الاكتئاب هو الطريقة الوحيدة للتوقف عن المثابرة بالطريقة الخاطئة، أي الفشل الوجودي. حتى لو كان يبدو وكأنه نجاح. مثال ذلك؛ بعض رجال الأعمال أصحاب الشركات الكبرى ممَّن حقَّقوا نجاحات في عملهم، غير أنهم يحسّون بنوع من الاكتئاب العميق، واللاوعي يملي عليهم أن يتوقفوا عن الرغبة والإثارة، ويطلب منهم إيجاد أو استعادة رغبتهم العميقة".
فضيلة الفشل الأولى هي إعداد أنفسنا لفشل المستقبل؛ فأنا أتعلّم، وأثابر، وهذا هو طريقي. من المسلَّم به أنَّ الفشل ليس ممتعًا، ولكن المرء يقترب من حقيقة رغبته العميقة من خلال تجربته ضدّ الفشل، كل شيء ضدّ الفشل. ومن الفضائل الأخرى كذلك أنه يقدِّم لنا وقفة للتأمُّل ومساءلة للذات، والعودة إلى أنفسنا، إنه يمنحنا فسحة للتوقف عن المضيّ قدمًا؛ التَّراجع للوراء وإعادة التخطيط مجددًا- المحاولة مرَّة أخرى، محاولة تلو أخرى، ولو كانت بدَوْرِها فاشلة، غير أنها فاشلة بشكل أفضل، "عليك التقدُّم في فشلك"، هذه حكمة "صامويل بيكيت" Samuel Beckett؛ أن تفشل، ولكن أفضل من ذي قبل.
• تجاربٌ وعِبَر
يقدِّم لنا "بيبين" مجموعة من الأمثلة الحيّة؛ بدءًا بالياباني "سويشيرو هوندا" Soichiro Honda الذي كان الفشل يلاحقه منذ سنواته الدراسية الأولى، لقد أخفق في مقابلة عمل في شركة "تويوتا"، وتم رفض مشروعه، وكانت النتيجة فترة طويلة من البطالة، عمل خلالها "هوندا" على صناعة سيّاراته الخاصة. لقد عشق السيارات والآليات، ويقول عن ذلك: "لقد تسمَّرتُ أمام أوّل سيارة رأيتها، وأعتقد بأنَّ هذه اللحظة ولّدت لديّ فكرة اختراع سيارة من تصميمي على الرّغم من أنني كنتُ ولدًا فاشلًا في تلك الأيام"، يعلِّق المؤلف أنَّ "سويشيرو" كان سيئًا دون وعي في المقابلة التي أجراها في شركة "تويوتا"، ذلك لأنَّ تأسيس شركته الخاصة كان في الحقيقة هي رغبته العميقة. وفي هذه الحالة، كان إخفاقه في شركة "تويوتا" مصدرًا للنجاح الهائل الذي أراده اليابانيون.
ينتقل "بيبين" بعد ذلك إلى مثال "ميشيل تورنييه" Michel Tournier، فقد كان غرضه الأساسي هو اجتياز مباريات التبريز في الفلسفة، ولكنه فشل في مسعاه لسنوات عدّة. وفي الثانية والأربعين من عمره، نشر روايته الأولى، "الجمعة" أو "حياة الفطرة" Vendredi ou les limbes du Pacifique، ممّا جعله واحدًا من أعظم الكتاب الفرنسيين المعاصرين. ربّما كانت إخفاقاته تلك في نهاية المطاف تجسيدًا لرغبته العميقة في أنْ يصبحَ كاتبًا.
ومن تجارب الرياضيين يسرد لنا "تشارلز" قصة لاعب التنس الأميركي "أندريه أغاسي" Andre Agassi وكيف عانى في مسيرته الحياتية حتى أصبح لاعبًا استثنائيًّا، فبعد فترة من الاكتئاب الشديد والإخفاقات التي عاشها في حياته، وغياب المعنى عن حياته بسبب الطغيان الأبوي الذي أدّى به إلى المكان الذي لم يختَر الذِّهاب إليه، إلى درجة أنه لم يختبر أيّ فرح أو سعادة لمدة سنوات، غير أنه آمن بقدراته متجاوزًا كل الإخفاقات ليصبح المصنّف الأوّل عالميًّا في التنس في العام 1995 وهو في سن الخامسة والعشرين.
يستشهد "تشارلز بيبين" بمقولة "توماس إيديسون": "لم أفشل آلاف المرّات، لقد تمكّنت من آلاف المحاولات التي لم تنجح"، إنها الحكمة التي نتعلّم من خلالها التقليل من شأن إخفاقاتنا والاستفادة من تعثُّراتنا. يدعونا المؤلف في نهاية هذا الكتاب إلى تعديل نظرتنا وطريقة فهمنا لهذه الظاهرة، إنَّ طريق النجاح يمرُّ عبْر محطّات الفشل، لقد كان "وينستون تشرشل" Winston Churchill محقًّا عندما قال: "النجاح هو انتقالك من الفشل إلى الفشل دون فقدان حماسك".
