قراءةٌ في كتاب " نظام التّفاهة " للفيلسوف الكندي د." آلان دونو" ( (Alain Denenult
ديما الرجبي
كاتبة أردنية
"dema_ JHR" <dema_84@live.com
"عندما يتبوأ التافهون سُدةَ الحكم يصبح الأفراد محكومين بأنظمتهم"
هل فكرتَ يومًا في السّببِ الّذي يدفعُكَ حقًّا للعملِ؟ كيفَ تنظر إلى عملكَ؟ هلْ تراهُ حِرفة تُتقِنُها وتمتلِك الشّغفَ اتِّجاهَها أم أنّها بنظَرِك مُجرّدُ وسيلَةٍ للاستمرارِ بالعيشِ وكسبِ الدَّخلِ الماديِّ؟ جوابُكَ لِهذِهِ الأسئِلَةِ سَيحدِدُ موقِفَكَ مِمّا يُسمى بِـ"نِظامِ التفاهَةِ" وَمدى تعزيزِكَ لوجودِهِ، إِذْ إِنّه نِظام يَسلِب الحيويةَ مِنْ أي عملٍ كانَ سواءً الفكريّ أو اليدويّ، إنَّ التّفاهَةَ مِنْ مفهومٍ فلسفيٍّ تتعدَّى مضمونَها وتتخذُ وجهةً جديةً تؤدّي في العصرِ الحديثِ إلى تسليمِ البشريّةِ لمصيرٍ كارثيٍّ، إنها مسألَةُ البقاءِ لِلأقوى أو بالأَحرى الأَتفَهِ، وذلِكَ ضِمنَ شروطٍ وأنظمةٍ معقدةٍ، وسياساتٍ فاسِدَةٍ تُولي التّافهينَ في العالَمِ مقاليدَ الحكمِ في مَفاصلَ مُهمّةٍ في الحياةِ الحديثةِ وَهِذا ما يُشكِّلُ الإشكاليّةَ العُظمى، فَقَدْ اخترقَ التّافهون عالمَ الفنِّ والثّقافةِ والعلمِ، مُتربّعينَ على قِمَمِ الاقتصادِ الرقمي، سَتجِدُ في هذهِ السّطورِ القليلةِ القادمةِ نِقاشًا محتدمًا بِجدليّةٍ مُتصاعِدَةٍ حولَ القواعِدِ المُنقسِمَةِ بينَ الرّداءَةِ والانحطاطِ اللَّذَينَ سرّعا عمليةَ تدهورِ مُتطلباتِ الجودةِ العاليةِ في الحقولِ الاجتماعيةِ والعلميةِ والسياسيةِ والاقتصاديّةِ كافَّة وصولًا إلى الرأسماليةِ المَقيتةِ.
سأتطرق لبعض القطاعات التي تحكّم بها التافهون مستعينةً بأمثلة استخدمها الكاتبُ والفيلسوفُ الكندي "آلان دونو"، لإثبات وجهة نظره حول قيام ما أسماه " نظام التفاهة "، فلو بدأنا الحديث عن القطاع التعليميّ سنجد أنَّ النّظام التعليميّ الحاليِ في جميعِ أنحاءِ العالَمِ دونَ استثناء، هلْ حقًّا يُمكِن الاعتمادُ عليه لتنشئَة عقولٍ واعيَة لِما يجري حولَها؟! أو عقول تمتلِك ملكةَ التفكيرِ والتّفكّرِ بهدَفِ محاوَلَةِ التَّطورِ مثلًا؟! وإن كانَ الجواب "لا"، فأين يكمن الخلل؟ إنَ سيطرةَ نظامِ التمويلِ الدوليّ على الاقتصادِ واستعمارِ العقولِ من قِبلِ الإعلاناتِ التجاريةِ جعلَ مِنْ نخبةِ الأكاديميينَ جهازًا للصّناعةِ الماليةِ محدودةِ الأفقِ، وأغرقتِ الجامعاتِ ب"ِالتفاهَةِ" من خلالِ رضوخِها لأهدافٍ أقربَ ما تكونُ تجاريَة بعيدة كُلّ البعدِ عن أيّةِ فوائِدَ علميّة أو أكاديمية تُرجى؛ حيث أَصبحَ التعليمُ سلعةً والطالبُ مشتريًا، ولم يَعُدْ هناكَ ما يُسمى بِجوهرِ الأَداءِ عندَ الأكاديميينَ غيرَ انصياعِهم لأوامرِ التافهينَ المتحكمينَ في مفاصلِ القطاعِ التعليمي، الأمرُ الّذي أَدّى للابتعادِ عن عمليةِ المعرفةِ التي تسهِمُ في اكتشافِ الوعيِ وما هو قادر عليهِ، والاكتفاءِ بالتّوجُّهِ إلى ابتكارِ الترويجِ الدعائي التجاري.
وعليه فَقدْ كانَ ذلكَ كافيًا لتحديدِ المنهجِ الأكاديمي المُتّبعِ في أنظِمَةِ التعليمِ المُختلفَةِ والقائِمِ على بيعِ علاماتٍ تجاريّة بدلًا من نتائِجِ أبحاثٍ دراسيّة، لِتُمسي بذلِكَ الجامعات في العصرِ الحديثِ أداةً أساسيّة لِشركاتِ الضّغطِ السياسي الّتي ترغمُها على القيامِ بعروضٍ سياسيةٍ مبرمجةٍ، لإنتاجِ الفسادِ والتخويفِ والتلاعبِ، وهو ما يسمَّى بـِ"لعبةِ اللعبةِ" وتسليعِ الحياةِ العامةِ التي تنطوي على سلطةٍ خالصةٍ مُطلقةٍ من خلالِ خلقِ نظامِ تنافُسٍ يتجسَّدُ بِكُلٍّ مِنْ الرّأسماليّةِ وسُلطةِ المافيا المتمثِّلَةِ في الحكوماتِ الفاسدةِ، والَتي تُصدِّرُ هذهِ "اللُّعبةَ" لِمحدودي التّفكيرِ، جاعِلَةً مِنْ مُختَلَفِ الجامعاتِ والكلياتِ ومراكزِ الأبحاثِ العالميةِ العريقةِ في أمريكا الشماليةِ وأوروبا وشتَّى أنحاءِ العالَمِ، مصنعًا للخبراءِ، لا للمثقفينَ! مع اتّباعِ القاعِدَةِ العامّةِ الّتي تنصُّ على عدمِ وجودِ مكانٍ للعقلِ النّقديِّ والحسيِّ، حيثُ صارَ كلُّ شيءٍ مُلزمًا بِالتّقدُّمِ ضِمنَ شروطِ السُّفهاءِ التّافهينَ، وهذهِ هيَ بدايةُ سيطرتِهم على العالَمِ، وَهِيَ مرحلَةٌ مِنْ مراحلِ تطوُّرِ النِّظامِ الاقتصاديِّ الرّأسماليِّ.
فهل تعتقد أنَّ لعبة اللعبة تقتصر على القطاع التعليمي؟ دعني استعرض معك قطاعًا آخر يخضع لنظام التفاهة.
لنتطرق إلى ما يُسمّى سيطرةُ نظامِ السوقِ على المشهدِ الاقتصاديِّ العالميِّ بما يشبِهُ الاستعمارَ الاقتصادي.
يعملُ السوقُ اليومَ دونَ تدخلٍ من العقلِ البشريِّ، يُحرَّكُ من قِبَلِ "خوارزمياتٍ، وهو ما يجعلُ التكنولوجيا المسيطرَ الأولَ على سوقِ التجارةِ والتمويلِ، ويدفعُ الأفرادَ إلى الجهلِ في علمِ الاقتصادِ، أو فيما يُسمَّى بِـ"الاقتصادِ الغبي" في نظامِ التفاهةِ الّذي يحولُ دونَ اكتسابِ ثقافِةٍ خاصةٍ بِالمعرفَةِ الاقتصاديّةِ وَيُسيءُ استخدامَ الذكاءِ الفطريِّ، فعبارةُ "صُنِعَ في الصينِ" مثلًا، وقُدرةُ الصينِ على تحويلِ مشهدِها الصناعيِّ إلى منطقةٍ حرةٍ واسعةٍ؛ حتى يتمَّ إنتاجُ السلعِ الاستهلاكيّةِ للعالمِ بأسعارٍ منخفضةٍ بهدفِ خلقِ منطقةٍ تفضيليّةٍ، هو بمثابةِ دعايةٍ مِن صنعِ التافهينَ الذينَ يتسيدونَ المشهدَ الاقتصاديَّ، وهناكَ خبراءُ ينقذونَ هذهِ الصورةَ المطبوعةَ في عقولِ الأفرادِ في شتَّى أنحاءِ العالمِ، الأمرُ الّذي يعتبرُ استعمارًا اقتصاديًّا بحدِّ ذاتِه.
أمّا فيما يختصُّ بتوجيهِ العامّةِ إلى القيمةِ المطلقةِ للمالِ، فإنَّ ذلكَ يدفعُهم إلى الجهلِ في الاقتصادِ، فللنقودِ أثرٌ مشوَّهٌ، باعتبارها تركِّزُ نشاطَ العقلِ على وسيلةٍ تجعلُه يفقدُ الإِدراكَ العقلانيَّ لِتنوُّعِ العالَمِ، وبما أنَّ العملةَ النقديّةَ هي مركزُ الجاذبيةِ للأفرادِ، لذلكَ يتحكَّمُ التّافهونَ بمفاصلِ الحياةِ الاقتصاديّةِ كافَّةً، ابتداءً من أجرِ العاملِ إلى المساعداتِ الإنسانيةِ الّتي يجبُ أنْ تصلَ من قِبَلِ الحكوماتِ وغيرِها مِنَ المنظماتِ غيرِ الربحيّةِ إلى الشّعوبِ الفاقدةِ لِحقوقِها الاقتصاديّةِ والإنسانيّةِ.
كما يَتمُّ تجهيلُ العامّةِ بحقوقِهم الاقتصاديّةِ من خلالِ توظيفِ مدراءِ البؤسِ للتّحكّمِ في العاطفةِ الاجتماعيّةِ، ولم تعدْ نقاباتُ العمَّالِ قادرةً على إثباتِ قدرتِها على توحيدِ الجبهاتِ العُماليّةِ على مستوًى كافٍ من الخطابِ والفكرِ، وهو ما يزيدُ توغُّلَ قوانينِ التّافهينَ في التّجارةِ والتّمويلِ والأجرِ، فأصبحتِ الحركاتُ العماليّةُ بينَ خيارينِ، إمّا أنْ تكوِّنَ حركاتٍ سياسيّةً، أو تمتثِلَ للقواعِدِ المُترهلةِ ذاتِ الطّبيعةِ الإداريّةِ بشكلٍ خاصٍّ، أو كما يُطلَقُ عليها بِـ "الحوكمةِ"، فَلم تعُدِ الإضراباتُ تُؤتي أُكُلَها في الخروجِ عن قيودِ الاقتصادِ الحديثِ، وهذهِ هِيَ اللّعبةُ.
قد يشعر القارىء أنَّ هذه اللعبة معقدة، وأنَّ الوصول الى فهم واضح أمرٌ مستحيل، لكن قد يساعد هذا الاقتباس من الكتاب بتوضيح ما تم شرحه سابقًا، يقول "آلان دونو ": "تفاوتُ الطبقاتِ الاجتماعيةِ مرهون بثقافةِ المجتمعاتِ المستعمرةِ اقتصاديًّا." فهل اتضحت الصورة؟!
كيف نتخلص من نظام التفاهة المتفشي في مفاصل الحياة؟! الان داونو يجيب على هذا التساؤل. "الخلاصُ يكمنُ في تغييرِ المفاهيمِ والثقافاتِ التي جعلت التافهينَ سادة على مفاصلِ الحياةِ".
يتحقَّقُ إنهاءُ ما يَضرُّ بِالصّالِحِ العامِّ بِتغلُّبِ القُوى العاملةِ على الحكوماتِ والسّياساتِ الرأسماليّةِ من خلالِ ترسيخِ العلاقاتِ الاجتماعيّةِ للوصولِ إلى ثورةٍ تُعنى بإسقاطِ المؤسّساتِ والسّياساتِ الّتي تدمِّرُ الصالحَ العامَّ بشكلٍ خطيرٍ، لَكِنْ ذلِكَ يلزمُه تغييرًا للمفاهيمِ والثّقافاتِ التي جعلتْ مِنْ أصحابِ الطّبقاتِ الدنيا عبيدًا للتّافهينَ المُتحكّمينَ في مفاصلِ الحياةِ كافّةً.
مِنْ ناحيةٍ أخرى، يُعَدُّ القضاءُ على خمسِ شخصيّاتٍ أوجدَها نظامُ التفاهةِ حَلًّا يُمكِنُ اتّباعُهُ، حيثُ تشملُ تلكَ الشّخصيّاتُ على: الكسيرِ الّذي يرفضُ النّظامُ بالانسحابِ، والتّافهِ بطبيعتِه الّذي يحبُ أنْ يصدِّقَ النّظامَ، والتّافِهِ المتعصّبِ المدافعِ عن هذا النّظامِ، والتّافِهِ رغمًا عنه الّذي تسخِّرُهُ الواجباتُ لخدمةِ النّظامِ، والطّائشِ الّذي ينتقدُ هذا النّظامَ وَبالحقيقةِ يكرِّسُ نفسَه له، إنَّ التّخلّصَ من تلكَ الشّخصيّاتِ كفيلٌ بأنْ يتيحَ المجالَ للنّظامِ الحكيمِ بِتسيُّدِ الموقِفِ، إضافةً لِذلكَ، إنَّ إنهاءَ الإشباعاتِ المعرفيّةِ المغلوطةِ الّتي تبثُّها القنواتُ المتلفزةُ، والقضاءَ على أثرِ الفضائحِ في الجرائدِ الّتي تسبِّبُ محدوديّةَ الفكرِ للجمهورِ كفيلٌ بِإنهاءِ هذا الضّررِ أيضًا.
والجديرُ بالذِّكرِ هو أنَّ المعرفةَ المبرمجةَ قَدْ أصبحتِ المعرفةَ الوحيدةَ الّتي يُعتَدُّ بِها؛ كونُها مموّلَةً ومعترفًا بها مِنْ قِبَلِ الأعوانِ والأقرانِ، فضلًا عن أنّها معرفةٌ رسميّةٌ تُضفي المعنى على هياكلِ السّلطة وَفقًا لتوقّعاتِ ذوي السّلطةِ "المموِّلينَ"، لَكِنْ لأنَّ قَدرَ الرّأسماليّةِ الانهيارُ جرّاءَ تناقضاتِها الدّاخليةِ، فالحاجةُ تقتضي إلى القوّةِ الثّوريّةِ الّتي يُمكِنُ لها أنْ تُسهِمَ في تعجيلِ هذا السّقوطِ المحتمِ؛ للوصولِ إلى الثّورةِ المعنيّةِ بِإسقاطِ المُؤسّساتِ والسُّلطاتِ الّتي تدمِّرُ الصّالحَ العامَّ بِشكلٍ خطيرٍ، وهو ما يَعني إِنهاءَ "نظامِ التّفاهةِ" بِمفهومِهِ السّياسيِّ والاقتصاديِّ إِنْ حدثَتْ هذه الثّورةُ بالفعلِ.
في النهاية أودُّ أن أوضح ما أتى به الكاتب؛ بأنَّه في ظلِّ الاستبدادِ يتقدمُ المنافقونَ، ويدعمُ هذا التّقدّمَ تلكَ الأنظمةُ الاستبداديّةُ الّتي تستندُ إلى قاعدةِ الولاءِ وليس الكفاءةَ، كما أنَّ النفاقَ صفة مميّزة لِنظام التّافهينَ الّذي جاءَ بسببِ الموقفِ الرأسماليّ السّلبيِّ مِنَ الضوابطِ الأخلاقيّةِ للسُّوقِ، وفيما يتعلقُ بأسبابِ ارتباطِ نظامِ التافهينَ بالنّظامِ الرأسماليِّ، فَيعودُ للسَّببِ الأساسيِ؛ وهو أنَّ الرّأسماليّةَ قائِمةٌ كنظامٍ اقتصاديٍّ ليبراليٍّ استنادًا إلى فكرةِ القانونِ الطّبيعيِّ الّذي ينصُّ على أنَّ مصلحةَ المجتمعِ كَكلٍّ تتحقَّقُ حتمًا من خلالِ محاولةِ كلِّ فردٍ تحقيقَ مصالِحِهِ الخاصّةِ، وَدون تدخُّلِ الدّولةِ كَممثِّلٍ للمُجتمعِ، عندما يتحرَّرُ أيُّ مجتمعٍ من قيودِ الرّأسماليّةِ؛ تصبحُ الحقوقُ العماليّةُ أولويّةً، ويصبحُ الإنتاجُ أفضليّةً، ويتوقَّفُ التّافهونَ عن تقلُّدِ مَناصِبَ رئيسةٍ في الدّولةِ، وَبِالتّالي ستنقطِعُ أدواتُهم الهدّامَةُ، وتبدأُ الحالةُ التّنمويّةُ الإنسانيّةُ بِالصُعودِ، والإصلاحاتُ بِالانتشارِ، لنتخلَّصَ بشكلٍ قطعيٍّ مِمّا يُسمّى بِـ"نظامِ التّفاهةِ" .