زينب محمد عبد الحميد
كاتبة وناقدة مصرية
وضع المخزنجي بين أيدينا "البستان" وقد عنونه بأنَّه "كتاب قصصي" فوازن بين كونه كتابًا يطوي معرفة ما أو خبرة مدونة يمكن أن نعتمد واقعيتها، وكونه ينتهج القصَّ ليروي علينا موضوعاته. خالف المخزنجي بذلك التصنيف السائد الذي يتضمن المجموعات القصصية له ومنها "أوتار الماء- صياد النسم... وغيرهما". لا ننسى كذلك أنَّ "البستان" قد حاز جائزة أفضل "مجموعة قصصية" في مصر عام 1992، كما اتفق مع "حيوانات أيامنا" في تسميته التي تحمل بابًا للتأويل والتفكير لكونهما من نوعية "الكتاب القصصي".
قسّم المخزنجي بستانه إلى ثلاثة أقسام (فيزيقيات – سيكولوجيات – باراسيكولوجيات) وقد انتقيت في السطور القادمة الوقوف عند قصص السيكولوجيات لأتفحصها بالقراءة. تبدأ السيكولوجيات بقصة بعنوان "ومع ذلك.. ورغم ذلك" تصدرها احتراس الراوي من حادثة قتل دون أن تفصح عباراته عن إجابات كاملة، وكذلك بموقف قد يترتب عليه استثناء قد نصوغه من عنوان القصة؛ فمع احتراسه واستثنائه نحسبه يقول: "ومع ذلك يريد قتلي، ورغم ذلك تجددت رغبته في قتلي". أمَّا دافع هذه الرغبة في القتل ليست الكراهية أو العداء؛ بل يتأكد دافع الشفقة حين يواجهه في الصباح وتفضحه عيناه المرهقتان بالخوف، واضطراب النوم، إنّها دافعه الوحيد للرغبة في القتل.
يجد الراوي إجابةً مغايرة، تجعله في موقف دفاعي واحتراسي يبعد عنه القتل كحلٍّ في لحظة شفقة/يأس ليقنع برؤية جديدة في مواجهة الموت وإنهاء الحياة، ثم تلوح ظاهرة جديدة في النصِّ، تقرّر انتصار الحق في مواصلة الحياة، وإجابة حاسمة من صفحة المرآة التي يتطلع فيها الراوي إلى نفسه لمواصلة الحياة من جديد.
تضعنا القصة في مواجة (أنا) بـ(أنا) أو لنقل في مواجهة إنسان لذاته بشكل تجريدي؛ حيث ينقسم الراوي ذاته بين مقاومة رغبته في إنهاء حياته ليلًا ورغبته في مواصلة تجدّد آماله كلَّ صباح. تبدو الحكاية دائرية حيث لا نهائيّة للحدث رغم انتصار الحياة ومواصلتها، ربما يتكرّر الحدث المتتالي إلى حد الاعتياد.. اعتياد الشفقة/ الرغبة في القتل أو لنقل الانتحار/المقاومة/استمرار العيش. أضاءت دائريّة الحكاية بؤرة نفسيّة شرسة ترجمت شراستها بتصويرها ثنائية (رغبة الموت ومواصلة الحياة)، وهي بؤرة "إدراك الذات" نفسها برغباتها وأهدافها؛ مخاوفها ودوافعها، الإدراك الذي يُبقي الإنسان محترسًا ويبقيه آملاً حيًا.
هل يتشكّل الإدراك على نحوٍ فرديٍّ ذاتيٍّ أم يتجاوزهما ليدرج الآخر، أو لنقل "المترصد الخارجي" ضمن عالمه؟، هنا نقف عند القصة التالية المعنونة بـ"يوسف إدريس" حيث يتوجهه الراوي إلى بيت "يوسف إدريس" لزيارته بعد غياب طال ثلاثة أعوام، ومع استغراب الراوي لصوت جرس الباب يفتح الباب ويوجّه إليه شخصًا سؤالًا يشير إلى فترة انقطاعه ثم يأتي الحدث مغايرًا للتوقعات، إذ لم يكن من استقبله هو يوسف إدريس، بل كان شخصًا غيره، واستمرارًا في محاولة استدعاء المألوف يدخل الرجل إلى الشقة ظانًا أنّه في بيت يوسف إدريس وأنّه بانتظاره رغم الجوّ العام الذي يدلّ على تغيّر المكان والموقف عن ذاكرته. يظهر الاستغراب على الراوي فيبادله الرجل استغرابه بـ"عشر دقايق.. كلها عشر دقايق.. ويوسف إدريس مش ها يزعل لما آخد منه بعض أصحابه شوية.. نتكلم.. عشر دقايق موش كتير في الزمن ده.." وتبدو شخصية هذا الرجل عالمة بما يفعله الروي، راصدًا عاداته واندهاشاته ورغبته في الرحيل، لربما كان قارئًا متابعًا، أو جارًا متابعًا، المهم أنّه قد يصبح مثالًا واضحًا على تجلي الآخر ضمن دائرة مماراساتنا وإدراكاتنا الحياتية.
تفتح لنا هذه القصة بابًا للتأويل لفكِّ الرمز النفسيّ، الذي قد نشير إليه بالأنا في مواجهة الآخر، يعود الراوي بعد زمن انقطاعه والذي هو زمن جديد للإدراك، حيث إنَّ مدركات الإنسان ربما تحتاج عبر انقضاء الزمن إلى المراجعات، فربما يفصله الزمن عن الحقائق أو يقتل الاعتياد لديه حسُّ الملاحظة. المهم ينصدم الراوي؛ الذي نتصوره كاتبًا صديقًا ليوسف إدريس أو القارئ أو العالم الخارجي للأديب... المهم أنَّه الآخر المتربص، أو لنقل المدرِك؛ وبذلك يضيف المخزنجي في معادلته الإدراكيّة النفسيّة هذه إدراك الآخر بقصة "يوسف إدريس" بعد إدراك الأنا في قصته "ومع ذلك ورغم ذلك"؛ فبعد أن يقف المرء مع ذاته/ مع عالمه الخاص موقفا تجريديًا كاشفًا وعاكسًا مخاوفها وآمالها، يأتي الآخر/العالم الخارجي الذي لربما أدرك جانبًا منا لا تستطيع ذواتنا إدراكه، ولربما كان إدراكًا مغايرًا أو متكاملًا معنا، أو مرآة ثانية أصلح رؤيةً لذواتنا.
يعطي توالي القصص على هذا النحو منطقًا إدراكيًا نفسيًا إلى هذا الحد الذي أتصوره؛ فعبر القصتين الماضيتين تتشكّل معادلة الإدراك (الذات عبر الأنا متجردة/ الذات عبر الآخر راصدًا) عبر صراعاتها واندهاشاتها، وأتصور تصاعدًا نفسيًا على نحو ما قد أجده في قصته التالية المعنونة بـ"معانقة العالم" حيث ينتقل المخزنجي إلى الكاتب نفسه، فيبدأ حكايته بالأزمة التي يعاني منها حيث "قفلة الكاتب" ويقرنها برغبته في تجاوز هذا الموت الرمزي بانتفاض روحه.
تكرّر هذه القصة على أذهاننا معادلتي الإدراك السابقتين في سياق أكثر وضوحًا ووصفًا؛ لتصبح المعادلة أكثر استنارة؛ فالإنسان الذي يقف في مواجهة ذاته ومقاومته المستمرة لليأس والموت، والإنسان – الذي بالأرجح كاتب- يندهش بالآخر المتربص العارف، والذي يفرض نفسه في المعادلة مع مرور الوقت، يصل إلى محاولة استيعاب موقفه أمام ذاته والعالم؛ ليصف حالة تأزمه هذه التي تتشترك فيها جماعته؛ فهل يقوده إدراكه إلى ما هو أبعد، أقصد إلى المصالحة؟ وما هي معادلة المصالحة؟ يتوالى القص ليظهر لصًا قد اقتحم باب الشقة مستخدمًا عصا حديدية. يقاوم الراوي هذا الهجوم ويستطيع أن يبعد الأذى عنه بالسيطرة على الموقف؛ ليدور حوارٌ بينه واللص ينتهي به الموقف إلى مصادقة اللص.
نعود إلى معادلة المخزنجي حيث إدراك ذواتنا وإدراك الآخر، ونعود إلى اللص الذي ربما حمّلناه بعدين؛ أولهما: بتصوره شخصًا حقيقيًّا يمثل الآخر الذي سيحقق تفاعلنا معه معرفة وإدراكًا وتؤدي مصالحتنا معه إلى استيعاب أبعاد جديدة داخلنا، فذلك اللص الذي يُرثى لحاله لا يستحق إلا الشفقة وطيب المعاملة، وربما يؤدي ذلك التصوّر إلى إعادة تشكّل أحكامنا تجاه العالم وأنفسنا. وثانيهما: بتصوّره ذاتًا متجردة للكاتب نفسه، ومعادلًا نفسيًا لأزمته التي ليس لها وجودٌ حيٌّ خارجه، فتجسّدت الأزمة التي يعانيها في صورة اللص. آلت مواجهة اللص بالنهاية إلى الخروج من الأزمة وتحرير الذات، وبالتالي التصالح مع قصته التالية "معانقة العالم" والتصالح معه.
تصير معادلة الإدراك والاستيعاب متأزمةً حيث تنقضي المواجهة، ويبدأ المخزنجي استفهامه حول الحرية ونقيضها في قصته "صوت نفير نحاسي صغير".
يبدأ المخزنجي قصته في حمّام يجمع عددًا من الرجال، وقد شعروا أنَّهم أصغر سنًا، وحوَّل الماء حالتهم إلى المرح. يستوقفهم جميعًا صوت صفير نحاسي صغير فيهتمون بمعرفة مصدر الصوت. وبينما يغلق الجميع صنابير المياه فينجلي قبح يعيش فيه هؤلاء، ويُتّضح أنَّ مصدر هذا الصوت عصفورٌ صغير. أمَّا تفاعلهم مع هذا العصفور كان فاضحًا لوجه مختل حيث العنف ومحاولة محو مما أدى إلى مطاردة شرسة ومخزية أقامها هؤلاء لاصطياده، إلا أنَّ تلك المداهمة انتهت بموت العصفور بعد مقاومته ومحاولته للفرار منهم... أمَّا المفارقة كمنت في كون هؤلاء الرجال قد اجتمعوا داخل حمّامٍ واحد في سجنهم، وقد انتهى الموقفُ الفاضحُ بقهر مضاعف لهؤلاء المساجين؛ حيث طلب منهم السجّان الانتهاء وإلى غلق الحمّام عليهم حتى الموت. هكذا تحوّل إدراك المفقود إلى رغبة في انزاعه من الآخر ومعاقبة العالم والآخرين بسلب القيمة نفسها منهم، وممارسة السلطة والقهر لتكرار المأساة والتأزم على عدد أكبر من الكائنات. هكذا تنفضح سيكولوجية المقهور الذي يسعى لأن يصير الآخر موازيًا للمأساة التي يعيشها.
طالعنا السؤال من جديد عن المعادلة السيكولوجيّة؛ هل تنتهي بالوعي والإدراك الذي يجعل إنسانًا يسلب من الآخرين ما يفتقر إليه؟ أم تتخذ بعض الشخصيات موقفًا مغايرًا وإن اشتركت في الظروف ذاتها - أقصد الظروف القاسية -؛ مع محاولة إدراك الذات وإدراج الآخر داخل دائرة الوعي وبالتالي السلوك؟. تستمر الأسئلة عن احتمالات النتائج، فيسرد المخزنجي قصة "شيء جميل جدًّا يحدث لك" ليضعنا أمام موقف مغاير من العالم حيث يؤمن الراوي بـ"وحدة الوجود" -إن جاز استخدام هذا التعبير الصوفي - الذي يلخّص هذا التصوّر الذي يطرحه عن الكون وعلاقاته وتأكيد الإيمان بلفظة "أؤمن"، إلا أنَّ كثيرًا من أفراد مجتمعاتنا يستخدم مفردات الإيمان دون الوعي بالمعنى المتضمن خلاله من سلوك، وهذا ما ينتهجه الراوي بانتظار طالعه متأرجحًا بين إيمانه وكفره إلى أن تحدث اللحظة المنتظرة، حين تقع عينه تمامًا على ما طال انتظاره "الشيء الجميل" الذي سيحدث.
تنقله هذه الجملة إلى إعادة "إدراك" أو صياغة عالمه، المتطابق أحيانًا مع عوالم أخرى مماثلة كنمط متكرر من آخرين؛ ليبعد عن أمثاله أي متع أو جمال قد يتحقق؛ يقول: "أي شيء جميل يحدث؟ مكثت أفتش في مسائلي الخاصة والمسائل العامة.. في اللحظة، وفي الأفق. واكتشفت ببؤس أنني – مثل كثيرين.. كثيرين جدًا – لم أعد أنتظر أي شيء جميل يحدث....... أي جميل أتخيل وقد صار كل جميل مستحيلًا أو كالمستحيل؟.. فهل يتحقّق مستحيلٌ ما؟" تستمر تخيلاته في النمو والتوقع؛ هل يصحو على خبر جميل؟، هل يأتي الخبر السار عبر الهاتف؟، إلى أن يدخل ضمن عالم متخيل، إلى حلمٍ يحمله في نهر خيالي الجمال، وزورق بهي وأشجار زاهية، مصطحبًا كل أحبابه في رضا ومودة، كأنّها جنّة متحقّقة.
يستمر الأثر بل يتسرب إلى دائرة إيمانيّة جديدة؛ تعيد صياغة بدايات القصة وتصوّراتها بموقف تطبيقي، إذ يحوّل مدركاته بذاته ووضعه ضمن غيره وموقفه من بؤس الحياة، إلى إدراك يؤمن فيه؛ بأنَّ ذاته وما تحملها من تصوّرات هي التي تصوغ موقفه من العالم، وبالتالي بؤسه أو نعيمه، وأنَّه فردٌ ضمن الدائرة الإنسانيّة ذاتها في كونها الكبير؛ لتتخذ معادلة الإدراك موقفًا تصالحيًا صوفيًا تنتهي بـ:"وتذكّرت نبوءة اليوم الفائت، فلم أجد في نفسي غير الرغبة في التمطّي من جديد، والتنفس عميقًا من هواء الصبح، وإذ بي وأنا أُطلق الزفير عريضًا، أُطلق رباعية "جاهين" عريضة أيضًا، وشجيّة في الصبح الساجي:
"أنا اللي بالأمر المحال اغتوى
شفت القمر نطيت لفوق في الهوا
طلتُه... ما طلتوش، إيه أنا يهمني
وليه.. مادام بالنشوة قلبي ارتوى".