سلمى الخضراء الجيوسي؛ أسهمت بمصداقيةٍ في التَّعريف بالحضارة العربيَّة.

وفيق صفوت مختار
كاتب وباحث مصري

حتَّى آخر رمق في حياتها لم تتوقَّف عن مواصلة مشروعها المُهم في نقل صُورةٍ حقيقيَّةٍ مُنصفةٍ عن إنجازات العرب في الحضارة الإنسانيَّة. مُؤكِّدةً أنَّ البصمة العربيَّة مازالت واضحة في مدينةٍ عريقةٍ، مثل: «صقليَّة»، كما في «الأندلس». كما كرَّست جُهُودها العلميَّة وعلاقاتها مع كبار الأكاديميِّين والباحثين في العالم، لإنجاز المهمَّة الشَّاقة لتعريف العالم بالحضارة العربيَّة، بعدما رأت أنَّ المكتبة العالميَّة تخلو من شواهد تاريخنا الأدبي والحضاري. وفي مؤسَّسة «بروتا» PROTA لترجمة ونشر الأعمال الثَّقافيَّة والأدبيَّة إلى اللُّغة الإنجليزيَّة، نجحت في تقديم الأجناس الأدبيَّة كافة إلى جانب الدِّراسات والبحوث الحضاريَّة إلى العالم.

وُلدت «سلمى صبحي الخضراء الجيوسي» في عام 1926م بمدينة «صفد»، من أبٍ فلسطيني كرَّس حياته للدِّفاع عن الحقّ العربي، وأم لبنانيَّة الأصل. وقفت بحماسةٍ وصلابةٍ إلى جانب زوجها وشاركته همومه الوطنيَّة. أمضت طفولتها وشبابها المُبكِّر في «عكا» وفي حي البُقعة بمدينة «القُدس» الغربيَّة، ثُمَّ انتقلت إلى الإقامة في «الأردن» بعد نكبة عام 1948م.

درست في كُليَّة "شميت الألمانيَّة" بالقُدس، ثُمَّ درست الأدبين العربي والإنجليزي في الجامعة الأمريكيَّة في بيروت، ثُمَّ سافرت إلى لندن، وهناك حصلت على درجة الدُّكتوراه في الأدب العربي في «جامعة لندن» في عام 1970م. بعدها عادت إلى القُدس وعلمت في «كُليَّة دار المُعلِّمات». كما عملت كأستاذٍ للأدب العربيّ في عددٍ من الجامعات العربيَّة، مثل: «الخرطوم»، «الجزائر»، «قسنطينة»، ثُمَّ في بعض الجامعات الأمريكيَّة، مثل: «يوتا»، «ميشيغان»، «واشنطن»، «تكساس».

تزوَّجت من «بُرهان الجيوسي» الدِّبلوماسي الأردني؛ فتنقَّلت معه في عددٍ من العواصم العربيَّة والأوروبيَّة، من بينها: «بغداد»، و«روما»، و«ولندن»، فكانت هذه الفترة بالنسبة إليها، كما تقول: «رحلة اكتشاف حضاريّ وذاتيّ».

بدأت نشاطها الإبداعيّ في كتابة الشِّعر مُنذ كانت طفلة صغيرة، يومها نصحها والدها بضرورة إجادة اللُّغة العربيَّة إجادةً تامَّةً، لم تتوقَّف عن كتابة الشِّعر فبدأت في نشر قصائدها بمجلة الآداب البيروتيَّة قبل إصدار ديوانها: «العودة إلى النَّبع الحالم» عن دار الآداب، ببيروت عام 1960م.

ثُمَّ تحوَّلت إلى النَّقد والبحث والتَّرجمة. ففي مطلع السِّتينيَّات من القرن المُنصرم ترجمت عددًا من الكتب عن اللُّغة الإنجليزيَّة، منها كتاب: «إنجازات الشِّعر الأمريكي في نصف قرن» للشَّاعرة الأمريكيَّة «لويز بوجان»، وكتاب: «إنسانيَّة الإنسان» للفيلسوف الأمريكي «رالف بارتون بيري»، والجُزأين الأوَّلَين من «رُباعيّة الإسكندريَّة»: «جُوستين»، و«بالتازار» للرِّوائي البريطاني «لورانس جورج داريل»، ورواية «هكذا خلقت جيني» للرِّوائي الأمريكي «إرسكين كالدويل»، وكتاب «الشِّعر والتجربة» للشَّاعر والنَّاقد الأمريكي «أرشبيلد ماكليش».

وفي عام 1977م نشرت الدُّكتورة «سلمى عن دار «بريل» للنَّشر، كتابها: «الاتجاهات والحركات في الشِّعر العربي الحديث»، في جُزأين، وقد تُرجم هذا الكتاب إلى العربيَّة، وصدر عن مركز دراسات الوحدة العربيَّة ببيروت. والكتابُ يُعتبر مرجعًا لا يتقادم، بما يتوفَّر فيه من معرفةٍ دقيقةٍ لأوضاع التَّحديث الشِّعري ولمبادئه وخصائصه ومرجعيَّاته. وكذلك لما له من عُمقٍ في النظرةِ وموضُوعيَّةٍ في الانتقاء والتَّقويم والتَّحليل. ثُمَّ إنَّه غني بالمعلومات الدَّقيقة، التي لا يمكن لأيِّ باحث أنْ يستغني عنها؛ وهو لذلك كتابٌ يظلّ جديدًا باستمرار.

ومع بداية عام 2022م، تطلّ علينا الشَّاعرة الدُّكتورة «سلمى» بإصدار ديوان جديد بعنوان: «صفونا مع الدَّهر» تليه مختارات من ديوانها الأوَّل: «العودة إلى النَّبع الحالم»، عن الدَّار الأهليَّة للنَّشر والتَّوزيع بالعاصمة الأردنيَّة «عُمان». في هذا الدِّيوان تقدُّم حصاد بيدرها الشِّعريّ، الذي حفظته نقيًّا باهيًا في ثنايا القلب، لتُطلقه في الزَّمن الصَّعب، القصائد مُفعمة بالعشق والفرح والأمل، مُترعة بينابيع الصَّفاء والبهاء والضَّوء رغم العتمة، مُؤسِّسة لحداثة تخُصُّها بامتيازٍ.

ولقد نالت الدُّكتورة «سلمى» عِدَّة جوائز مرموقة، نذكر منها: حُصُولُها على وسام القُدس للثَّقافة والفنون والآداب عام 1990م، وسام المجلس الوطني للثَّقافة والفنون والآداب في الكويت عام 2002م، جائزة الإنجاز الثَّقافي والعلمي، لمؤسَّسة سُلطان بن علي العويس الثَّقافيَّة عام 2007م، وأيضًا حُصُولُها على جائزة خادم الحرمين الشَّريفين للتَّرجمة، مناصفةً في عام 2009م، وفوزُها بجائزة شخصيَّة العام الثَّقافيَّة للدورة (14) من «جائزة الشَّيْخ زايد للكتاب»، عام 2020م.

بدأت الدُّكتورة «سلمى» مشرُوعُها «بروتا»prota ، أو مشروع ترجمة الأدب العربي إلى اللُّغة الإنجليزيَّة في عام 1980م. وكان من أهم انجازات هذا المشروع الضَّخم والعملاق أن صدرت عِدَّة موسُوعات باللُّغة الإنجليزيَّة، هي: «الشِّعر العربي الحديث» (93 شاعرًا) منشورات دار جامعة كُولُومبيا، ‏نيُويورك، عام1987 م. «أدب الجزيرة العربيَّة» (95 شاعرًا وقاصًّا)، نشرته دار "كيغان بول" عام 1988م، ثُمَّ جامعة تكساس أعوام: 1990م، و1994م.‏‎ «الأدب الفلسطيني الحديث» (103 شاعرًا وكاتبًا)، منشورات جامعة ‏كُولُومبيا، نيُويورك أعوام: 1992م، 1993م، 1994م. ‎«المسرح العربي الحديث» (12 مسرحيَّة كبيرة)، ‏دار "جامعة إنديانا" عام 1995م.‏ «القصَّة العربيَّة الحديثة» (104 قاصًّا).‏

وقد أُنشئ هذا المشروع بعملٍ جماعيٍّ قوامه جُملةً من المُتخصِّصين في الثَّقافة العربيَّة ‏والإنجليزيَّة، وانعكس ذلك في عمليَّة التَّرجمة برُمَّتها بدءًا من اختيار النُّصوص ‏مُرُورًا بترجمتها وتنقيحها وصولًا إلى نشرها وتوزيعها.‏ وقد حرصت الدُّكتورة «سلمى» على تقديم مُقدِّماتٍ وافيةٍ عن كُلّ عمل أدبي يُترجم. تُؤرِّخ ‏فيه لمُنجزات العرب في الجنس الأدبي محور التَّرجمة وأهمّ رُوَّاده، ولقد كتبت هذه المُقدَّمات بأسلُوبٍ هادئٍ رزين، يبتعد عن المُبالغات. ولقد كان من أكبر أسباب نجاح هذا المشروع هو تجاوز عقبة النَّشر، إذ حظيت الدُّكتور «سلمى» بثقة جامعة كُولُومبيا التي فتحت لها مطابعها ودور نشرها، وهذه الثَّقة هي ‏نتيجة سمُعة الباحثة المعرُوفة بجدِّيَّتها وإتقانها وحرَّصها على احترام عملها.‏

وعن هذا المشروع قال الصّحافي والكاتب الأردِّني «خليل قنديل» (1951-2017م): «إنَّ الفعل الحضاريّ الذي أقدمت عليه الشَّاعرة والمُترجمة سلمى ‏الخضراء الجيوسي في مشرُوع ترجمة الأدب العربيّ إلى اللُّغة الانجليزيَّة، هو ما ‏يجعلنا نقول بأنَّ بعض المُثقَّفين والكُتَّاب العرب هُم بحقٍّ مُؤسَّسةٍ تمشي على أرْجُل ‏وقد كانت الجيوسي هي هذه المؤسَّسة‎». وقال المُفكِّر العراقي «خير الدِّين حسيب» (1929 - 2021م): «هذا مجهودٌ فرديٌ عملته ‏سلمى الجيوسي ويعجز الرِّجال عن إقامته».‎‏ ‎ ويقول الشَّاعر السُّوريّ «نوري الجراح»: «عندما أفتش الآن في الأسماء الثَّقافيَّة العربيَّة نساءً ‏ورجالًا لا أجد نظيرا لسلمى فيما قدَّمته للثَّقافة العربيَّة على مفصل علاقة هذه ‏الثَّقافة بالعالم».‏

وقد أطلقت الدُّكتور «سلمى الجيوسي» في عام 1990م مشروع «رابطة الشَّرق والغرب» (East- West Nexus) بهدف عرض الحضارة العربيَّة والإسلاميَّة قديمًا وحديثًا باللُّغة الإنجليزيَّة عَبْر مُؤتمرات أكاديميَّة شاملة ومُتخصِّصة، ودراسات بأقلامٍ عربيَّةٍ وغربيَّةٍ، من أجل إزالة المفاهيم الخاطئة والآراء النَّمطيَّة لثقافات العالمين العربيّ والإسلاميّ. وكانت البداية كتابها الشَّامل المُعنون: «تُراث إسبانيا المُسلمة»، حول الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة في الأندلس، الذي صدر عن دار بريل في هولندا عام 1992م، وذلك في ‏الذِّكرى المئويَّة الخامسة لنهاية الحُكم الإسلامي في الأندلُس، وهو ‏مجموعةٌ كبيرةٌ من (48) دراسةٍ مُتخصِّصة عن جميع مناحي الحضارة ‏الإسلاميَّة في الأندلُس، كتب لها فيه (42) من الأساتذة المتخصّصين في أمريكا ‏وأوروبا والعالم العربي، وقد لاقى هذا الكتاب ترحيبًا أكاديميًّا كبيرًا، حتى أنَّه طُبع عِدَّة ‏طبعات آخرها طبعة عام 1994م. ‏

بعد ذلك أشرفت على تحرير السِّيرة الشَّعبيَّة الشهيرة «سيف بن ذي يزن» التي ‏ترجمتها وأعدّتها ابنتها «لينة الجيوسي»، وصدرت عن دار جامعة إنديانا عام 1996م. ونتيجةً ‏لهذه الدِّراسة خطَّطت لإعداد كتاب شامل عن الثَّقافة واللُّغة والأدب في عصر ما ‏قبل الإسلام وعقدت لهذا الكتاب ورشتي عمل في معهد الدِّراسات العُليا في برلين ‏في صيف عام 1995م. ‏

وقد رحلت عن دُنيانا الدُّكتورة «سلمى الخضراء الجيوسي» في (20) من شهر أبريل عام 2023م، التي تقُول عنها الأديبة والأكاديميَّة الدُّكتورة «بهيجة مصري أدلبي»: «هي مفردٌ بصيغة الجمع، حسب أدُونيس، امرأةٌ أدركت وُجُودها بالكلمة، واختبرت الكلمة في وُجُودها، لم ترتهن لانكسارات الواقع، ولا لاختلال الوقت، بل كان رهانُها على وعي الذَّات، وعلى طاقة الرُّوح التي تستبصر كَنَة الحقيقة».