نضال القاسم
شاعر وناقد أردني
في مدينة السلط بمنطقة البلقاء، ولدت الشاعرة والناقدة والأكاديميّة سلمى الخضراء الجيّوسي يوم 16 نيسان 1928. والدها المحامي والسياسي الفلسطينيّ صبحي الخضراء من مدينة صفد الفلسطينيّة المحتلة، وأمّها أنيسة يوسف سليم، من منطقة جباع الشوف في لبنان.
كان والدها من أعيان فلسطين، فإلى جانب انهماكه بالعمل السياسيّ، هو محامٍ بارع. سمعتُ خطاباته التي كان يردّد فيها "بريطانيا أصل الداء ورأس البلاء" مبكرًا، وعرفتُ أنَّ هذه العبارة تلخص الألم الذي عاشه العرب والفلسطينيون بسبب جرائم البريطانيين بحقهم، وإعطائهم فلسطين للصهاينة، وفق نص وعد "بلفور" وزير خارجية بريطانيا.
أمَّا والدتها، فسليلة عائلة مثقفة، شقيقها السياسي فؤاد سليم. شغفت بالأدب الإنجليزي، ونظمت قصائد للثورة الفلسطينية، وكانت صندوق حكايات سلمى.
في العام 1947، انتدب والدها عن فلسطين في اللجنة العسكرية بالجامعة العربية لشراء الأسلحة من مصر وليبيا وإرسالها إلى ثوار فلسطين، وبعد إعلان قيام كيان يهودي على الأرض الفلسطينية في ليلة 14 و15 أيار 1948، أيقنت سلمى ما كان يردّده والدها عن عدم الثقة بالمستعمرين البريطانيين الذين خانوا شعبه، وشرّدوه.
لجأت عائلتها بعد نكبة شعبها إلى مدينة دمشق، وهناك عمل والدها مديراً لمؤسسة اللاجئين الفلسطينيين التي أنشأتها الحكومة السورية في عام 1949، لكنَّه تركها لخلافاتٍ سياسيّة، واشتغل بالمحاماة إلى أن توفي ودُفن في دمشق.
تميّزت سلمى منذ طفولتها بذكاءٍ وقّاد، وفي أجواء أسرية دافئة، ظهرت موهبتها الشعرية في سن العاشرة، وعاشت بواكير حياتها في كنف والدين، قالت إنَّها كانت محظوظة بهما، لما امتازا به من وعي وإنسانية عاليين، برغم تمردها المبكر على الواقع الذي كانت تعيشه فتيات ذلك الزمان.
قرأ كتاباتها الأولى صديق العائلة الفيلسوف التركي رضا توفيق، وشجعها على النهل من خارج الكتب المدرسية لترتقي بموهبتها، فانكبت على رفوق مكتبة المنزل الكبيرة، تقرأ بشغف ما يقع تحت يدها، ودراسة فنِّ الشعر لصقل موهبتها فيه.
كانت نشأتها الأولى، في حيّ البقعة بمدينة القدس بحي المأمونية، وفيه تلقت تعليمها الأولي، إلى أن انتقلت مع أسرتها إلى مدينة عكّا لتكمل تعليمها، ثم التحقت بكلية "شميدت" للبنات في القدس، وهي كلية ألمانية داخلية.
وبحكم الصلة التي تربط عائلتها بلبنان، انتقلوا إلى بيروت، وهناك درست في الجامعة الأميركية اللغات والأدبين العربي والإنجليزي، وتخرجت فيها عام 1943، ثم عادت مع عائلتها للقدس، لتعمل في مدرسة "كلية دار المعلمات".
بعد ثلاث سنوات، تزوّجت من زميلها في الجامعة الأميركية بقسم العلوم السياسية الأردني الفلسطيني برهان الجيوسي، الذي كان يعمل في القنصلية الأردنية بالقدس، ومع احتلال فلسطين عام 1948 رحلت إلى الأردن مع أسرتها، ليبدأ تنقلها بين عواصم العالم، بحكم عمل زوجها الدبلوماسي.
وفي أوج ازدهار حركة الشعر العربي الحديث، خلال خمسينيات القرن العشرين، ذهبت إلى بغداد، فالتقت هناك أبرز شعرائها: نازك الملائكة وبدر شاكر السياب، لتكون شاهدًا على إرهاصات بزوغ حركة التجديد الشعري العربية، لكنَّها لم تمكث فيها بعد ثورة 1958، وعادت إلى عمّان، ثم ذهبت إلى بيروت، مركز الحداثة العربية حينها، وفيها اشتبكت في سجالات الحداثة والتراث مع: أدونيس وفؤاد رفقة ويوسف الخال ومحمد الماغوط وغيرهم، وشاركت في أمسيات "خميس مجلة شعر" الأسبوعيّة، ونشرت آراءها على صفحات مجلتي "الآداب"، التي حملت لواء الأصالة و"شعر" ممثلة الحداثة.
كانت من أوائل المرحبين بالشعر الحديث الذي بلورته حركة التجديد الشعري آنذاك، ورأت أنَّه يثري الشعرية العربية، بيد أنَّها اعتبرت أنَّ الانتقال إلى الحداثة لا ينسخ التراث ويمحوه، فرفضت أن يكون الشعر الحديث، آخر تطورات الشعر العربي فـ"هذا الشكل سيصبح يوماً قديماً؛ لأنَّ كلَّ شيء يتغير".
ووسط هذا السجال، أصدرت ديوانها الأول بعنوان "العودة من النبع الحالم" في بيروت عام 1960، واتسمت قصائدها فيه بتأثيرات الحداثة، برغم محاولاتها التأصيل لشعريتها، لكنَّها انقطعت عن الشعر بعدها، لتصدر في عام 2021 في عمان ديوانها الثاني بعنوان "صَفَونا مع الدهر".
وبرغم زواجها قبل إتمام دراساتها العليا وإنجابها ثلاثة أبناء، لبّت وصية والدها بإكمال تعليمها، مع أنَّ أبناءها كانوا في طريقهم إلى الدراسة الجامعية، والتحقت بجامعة لندن، وفيها تخرجت بعد نيلها دكتوراه عن أطروحتها "الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث" في عام 1970، ومنذها، نالت عدة زمالات دراسية من جامعات غربية وعربية، ودرّست في جامعتي الخرطوم بين عامي 1970 و1973، والجزائر بين عامي 1973 و1975، وفي عام 1973 دعتها "رابطة دراسات الشرق الأوسط في أميركا الشمالية"، لتلقي عدة محاضرات في اثنين وعشرين جامعة بالولايات المتحدة الأميركية وكندا، ثم عادت بعد عامين لأميركا، أستاذة زائرة للأدب العربي في جامعات: يوتا، وميتشيغان وواشنطن وتكساس.
في سبعينيات القرن العشرين، نشرت مقالاتها في صحف القاهرة والخرطوم وتونس والكويت، كما نشرت أطروحتها بالإنجليزية، لتغدو مرجعاً يُدرس في الجامعات الغربية. وخلال دعوة من كلية بارنارد بجامعة كولومبيا لإلقاء المحاضرة السنوية العامة في عام 1979، اقترح عليها مدير النشر في الجامعة، ترجمة أعمال أدبية عربية حديثة ونشرها، فكانت هذه الدعوة، تلبية لطموحاتها في تأسيس مشروع ترجمة خاص بها، ينقل الثقافة العربية إلى العالم الناطق بالإنجليزية، وتحقّق لها ذلك في عام 1980، حين دشنتت المشروع باسم "بروتا" Project of Translation from Arabic – PROTA، وعاونها في تحقيقه، أساتذة في جامعة "ميتشيغان"، وانهمكت مع عشرات المترجمين والمحررين والباحثين من مختلف جامعات العالم بمتابعة أعمال المشروع.
أصدرت في الثمانينيات، ترجمات لكتب أدبية عربية من العصرين الحديث والقديم، مشتملة على الشعر والقصة والرواية والمسرح والسير الشعبية والحضارة العربية الإسلاميّة، وأول موسوعة شعرية عربية مترجمة للإنجليزية، تضمنت قصائد لأكثر من 90 شاعراً، وكتاب بعنوان "القصة العربية الحديثة" متضمنا 104 قصص.
قال المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد عن منجزها هذا في تقديم الأدب العربي للعالم "هذا السِّفر الكبير الذي جرى تحريره وترجمته وإعداد أبحاثه بصورة جيدة تجسيداً حيّاً لثقافة أمّة، يجري تقديمها لأول مرة باللغة الإنجليزية، وذلك بفضل الجهود الحثيثة التي قامت بها سلمى الخضراء الجيوسي التي تُعتبر واحدةً من أفضل الباحثات العربيات الفلسطينيات".
ومنذ منتصف الثمانينيات، حصلت على تمويل من الآغا كمال خان حسن الدين خان، لإصدار كتاب عن الحضارة الإسلامية بالأندلس في ذكرى مرور 500 عام على سقوط الحكم الإسلامي فيها وصدر الكتاب في نهاية الثمانينيات بعنوان "تراث إسبانيا المسلمة"، لكن هذا السفر، أضحى موسوعة ضخمة، غطّت فيها 49 حقلاً من حقول الحضارة الإسلاميّة، وشارك فيه أكثر من 40 أستاذاً من أميركا وأوروبا والعالم العربي، واستُقبل استقبالاً حافلاً في جامعات العالم.
في العام 1984، ألقت في مؤتمر لند السويدي، محاضرة بعنوان "الشعر العربي والشعر السويدي.. التماثل والاختلاف"، وهناك التقت رئيس اللجنة الفنية في أكاديمية نوبل الشاعر "أوستِن شوستراند"، وبعدها بسنة، دعتها الأكاديمية السويدية لتعدَّ دراسةً حول وضع الأدب العربي واستحقاق أدبائه لجائزة نوبل، وحين نال نجيب محفوظ جائزة نوبل في عام 1988 دُعيت إلى ستوكهولم لحضور حفل توزيع الجوائز تقديراً لجهودها في نشر ترجمات للأدب العربي، والتعريف بالحضارة العربية عالميًّا.
في عام 1990 أطلقت مشروعها الثاني "رابطة الشرق والغرب"، لعرض الحضارة العربية والإسلامية بالإنجليزية، عبر مؤتمرات أكاديمية ودراسات بأقلام عربية وغربية، بهدف تغيير المفاهيم السلبية والنمطية عن الثقافة العربية الإسلامية، واعتبرت عملها هذا اختراقاً، سيسهم بخلق مساندة عالمية لتفهّم الحضارة العربية، فنشرت كتابها الموسوعي "حقوق الإنسان في الفكر العربي: دراسات في النصوص"، وفيه استدلالات على أسبقية التراث العربي الفكري في حقوق الإنسان على الغرب.
بدأت منذ عام 1993 مشروعاً شاملاً لدراسة الأدب والثقافة في المغرب العربي: الجزائر والمغرب وتونس وليبيا وموريتانيا، وأقامت مؤتمراً في طنجة في عام 1995 لهذه الغاية، ثم عملت بناءً على دعوة من معهد الدراسات العليا في برلين بين عامي 1994 و1995 على دراسة حول تاريخ تقنيات الشعر العربي قبل الإسلام حتى الوقت الحاضر، وأنجزت كتاباً عن السرديات القصصية القديمة، وآخر حول المدينة في العالم الإسلامي.
في العام 1995 صدر لها بالاشتراك مع المستعرب الأميركي "روجر آلن"، كتاب "المسرح العربي الحديث"، وأنجزت مشروعاً موسوعيّاً حول مدينة القدس في عام 2005، كما صدر لها كتابٌ في عام 2015، يتحدث عن الحداثة والتحوّل الاستعماري منذ عام 1917، تضمن مقالات حول القدس خلال فترة الانتداب، والتحوّلات التي حدثت فيها بعد عام 1948.
في الشعر، ترجمت دواوين لـ: أبي القاسم الشابي، وفدوى طوقان، ومحمد الماغوط، ونزار قباني، وآخرين، كما ترجمت روايات: "ما تبقّى لكم" لغسّان كنفاني، و"الصبّار" لسحر خليفة، و"الحرب في برّ مصر" ليوسف القعيد، و"براري الحمى" لإبراهيم نصر الله، و"بقايا صور" لحنّا مينا، والرهينة" لزيد مطيع دمّاج، و"امرأة الفصول الخمسة" لليلى الأطرش، و"نزيف الحجر" لإبراهيم الكوني، ورواية "شرفة علي الفاكهاني" لليانة بدر، و "الممر" لياسين رفاعية، و"عائشة" للبشير بن سلامة، و"المتشائل" لإميل حبيبي، و"سقيفة الصفا" لحمزة بوغري، وغيرها، إلى جانب كتاب "الديمقراطية وحقوق الإنسان في الوطن العربي" لمحمد عابد الجابري.
وحتى رحيلها، استمرت سلمى الجيوسي في متابعة أعمال "بروتا". وتقديراً لإنجازاتها، حازت زمالات جامعات كبرى وجوائز عالمية، واحتُفي بها في أكثر من دولة في العالم.