عاصف الخالدي
كاتب وباحث أردني
بعد حياةٍ طويلة بالمقاييس الزمنيّة والأدبيّة، ومسيرة امتازت بالصلابة الفكريّة والتاريخيّة، توفيت سلمى الخضراء الجيوسي قبل ما يقارب الثلاثة أشهر من كتابة هذا المقال. ولعلّها بتركها هذا العالم عن عمر ٩٥ عاماً التزمت خلاله بعملٍ كثير، ما يستوجب استعادة ملامح من تجربتها الأدبية والتاريخية التي تلقي ببعض ظلالها على لحظتنا المعاصرة من ناحية التأثير والقيمة؛ ذلك أنَّ الأدب العربي مرَّ منذ بداية القرن الحادي والعشرين بالعديد من المؤثرات والأحداث والظروف التي ألقت به على مسافة من تيارات الوعي الأدبي والفكري الذي ساد حتى ثمانينيات القرن الماضي، لأسبابٍ عديدة أودت بالكثير من المشاريع العربية الفكرية وبترت بعضها الآخر.
عاشت سلمى الخضراء بطبيعة الحال في حقبة تاريخية لم نعشها بقدر ما قرأنا فيها وشهدنا شيئاً من آثارها، وللاقتراب من عالمها أولاً قبل الولوج إلى مؤلفاتها، تقول هي في إحدى المقابلات الصحفية معها إنَّ حياتها "لم تكن سهلة في مراحلها الأولى، إذ حملت على عاتقها عدة مسؤوليات منذ سن العاشرة، بسبب نشاط والدها المناهض للوجود البريطاني في فلسطين؛ ما أدى لاعتقاله من قبل البريطانيين"، فتفتح وعي سلمى الطفلة على مفاهيم متنوعة، وطنيّة وسياسية واجتماعية مختلفة، تداخلت معها فيما بعد صورة الفتاة ومن ثم المرأة المسؤولة صاحبة الحق في المشاركة وإبداء الرأي في مختلف الشؤون. والقريبة من الشأن العام والقضايا المختلفة؛ مما جعلها بمعايير نسوية، امرأة مؤثرة في محيطها وقضاياها، بدءاً من الطفلة التي خرجت في مظاهرات مناهضة للاحتلال، مدفوعة بصورة والدها المعتقل، كبداية للتعرف على هموم مجتمعها، وليس انتهاءً بالمرأة التي عايشت انحدار الثقافة النسوية لتنضوي تحت عباءة "نيوليبرالية" وتغمض عينيها عن السرديات الكبرى التي ترقد كالجمر تحت رماد العالم.
إذن، وحتى لا نسعى إلى تكرار السيرة الذاتية لسلمى الخضراء بقصد أو من غير قصد، فإنَّ خلاصة القول تكمن في أنَّ هذه الشاعرة والأكاديمية والمترجمة والناقدة، تنتمي إلى جيل مختلف عن جيلنا، وتمثّل تجربة حاولت المضي نحو حداثة أدبية عربية، مبنية على أسسٍ تراثيّة ونقديّة وموسوعيّة متينة، لم تتبن ربما تيار الفكر المطالب بالقطيعة مع التراث، ولا التيار الذي استلهم منه ما شاء من نماذج وما لم يشأ – لدواعٍ سياسية في معظم الأحيان – سواءً في الشعر أو في التاريخ الأدبي، فعملت على ما كانت تراه حاضراً أدبيّاً وفكريّاً تجديديّاً، مفعماً بالروح العربية التي يرى الباحث العراقي عزيز علي الموسوي في دراسة نشرها عنها في العام 2020 أنَّ الجيوسي كانت تحتفي بها عبر التراث العربي الثقافي والأدبي والديني بكونه تضافراً، أثّر في الشعر العربي وجعله يحمل روحاً عميقة، ومضامين حضارية ظلّت تؤثر على الشعراء الحديثين في رأيها، ومنهم مثاليها المفضلين في كتابها "الاتجاهات والحركات في الشعر العربي الحديث" وهما شوقي والبارودي، اللذين ترى سلمى الخضراء، أنَّ جزءاً من شعبيتهما ينبع من انتماء شعر كلٍّ منهما إلى أسس كلاسيكية، ضاربة في جذور الأدب والتاريخ العربي.
وبرغم أنَّ الجيوسي، تتبنى ضمنيّاً البحث عن مساحات جديدة لتطوّر الشعر العربي من داخل بيئته الثقافية والتاريخية والفكرية العربية، التي ترى فيها محركاً طبيعياً لحداثةٍ شعرية وفكرية أيضاً، تحاكي سرديات وهموم الإنسان والأمة العربية بأبعادها المتعددة، غير أنَّها لا تنكر ما أدركته من تأثير وأهمية للصورة الشعرية في الشعر الغربي على العديد من شعراء جيل الحداثة العرب، من المتعطشين إلى التجديد في الصورة الشعرية. وبالطبع، فإنَّ الأحداث السياسية والتحوّلات الاقتصادية والاجتماعية المتتالية في العالم العربي مطلع القرن العشرين، والتي نتج العديد منها من أحداث غير طبيعية، مثل الاستعمار، والحروب، والصراعات الأخرى، لا بدَّ أنَّها تركت أثرها على كل شيء، وفي الشعر الذي تدرسه الجيوسي نقديّاً من نواحي اللغة والموضوع والصورة وغيرها، ابتداءً من جذوره العربية القديمة، فإنَّ له أثراً كبيراً كذلك، ويمكنني الاكتفاء بالقول إنَّ سلمى الخضراء قرأت آثاره في القصيدة العربية الحديثة، وتتبعت انعكاساته الوطنية والشعبية والتاريخية، ودوره في تقصي الشعراء حول حداثة شعرية عربية، وهو ما أبعدها عن طرح سؤالين مباشرين من قبيل: كيف سيكون شكل الشعر العربي الحديث دون مرحلة الاستعمار التي ترافقت مع بداية وعي أكبر بالحداثة وبالعالم؟ وهل أثّر هذا على حاجة الشعر نفسه كفنٍّ للتطوّر والتجديد بمعزل عما يدور حوله أو حول الشاعر؟
ربما يصبح حينها للرؤية النقدية المستندة على تراث أدبي متين عند الجيوسي، ودعوة للانفتاح في الآن ذاته صدى أكبر. ولا أنسى هنا أنَّ كتابها نُشر بالإنجليزية أول مرة في العام 1977، وترجمه إلى اللغة العربية الأستاذ القدير عبد الواحد لؤلؤة في العام 2001، ومن المؤكد بالنسبة إليَّ - على الأقل - أنَّ هناك فجوةً واسعةً في تلقي الكتاب، ووضعه في سياقه الثقافي والنقدي المناسب، بسبب التأخر في ترجمته. ولكنَّني في هذا المقال، لا أبحث لأوجد إجابات حول سلمى الخضراء الناقدة في إطار الحداثة والمرأة، فالبحث في سؤال الحداثة العربية وما بعدها لا يحمل إجابات.
وهذا يشجّع لإطلالة على اهتمام آخر من اهتماماتها، وهو التاريخ العربي، متمثلاً في كتابها "الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس" بجزأيه، إذ يُعدُّ مرجعًا موسوعيًّا ضخمًا، يشمل التاريخ والأدب والمجتمع ومعالم الحضارة العربية في الأندلس، والذي تقول في مقدمته، إنَّه منجزٌ تقف خلفه دوافعُ كثيرة، منها استعادة التراث العربي حضارياً وأدبياً مكانته في العالم، كما تشير إلى العبارة التقليدية "إحياء التراث" برغم التباساتها التي تتجاوز معناها الأدبي. وأيضاً، ترى فيه دعوة لكسر المسلمات الغربية حول الثقافة العربية والتراث الإسلامي العربي. ودور الحضارة العربية في نهوض الحضارة الغربية منذ القرن الحادي عشر.
من ناحية القيمة؛ فإنَّ الكتابَ غنيٌّ بالتاريخ السياسي والاجتماعي والأدبي للأندلس، ويتكوّن من مقالات متنوعة لأكاديميين وباحثين غربيين حول الأندلس بكل ما تمثّله من معنى في التاريخ والحضارة والأدب والشعر والسياسة، وحتى البيئة والثقافة المدنيّة، وتمتاز هذه المقالات والدراسات بجودة معظمها من الناحية التوثيقية والبحثية. وهي تتيح تكوين صورة متكاملة وكبيرة حول الأندلس، صورة ربما تجنح من غير قصد إلى المثالية في إيضاح معالم الكيان الأندلسي بكلِّ تعقيداته، ولكن هذا الشعور، لا يقلّل من رؤية سلمى الخضراء بأنَّ مشروعها الذي حمله الكتاب، يتمثل في تحويل الأندلس إلى نقطة انطلاق لإحياء دور الثقافة العربية في العالم.
ولا بدَّ هنا من القول مرةً أخرى، إنَّ هذا المشروع نابعٌ من الرؤية النهضويّة التي تملّكت الجيوسي بقوّة، وهي رؤية ما يزال لها حضورها حتى اللحظة بصورة أو بأخرى، لا يتسع المجال للاستفاضة بشأنها، غير أنَّ هذا المشروع الهاجس في تلك المدة من الزمن كان الدافع خلفه في بعض الأحيان، صورة مركزية ثقافية أوروبية، جعلت من إعادة تقديم الذات الثقافية والأدبية العربية إلى العالم بتراثها وأهميتها، ضرورة في نظر العديد من أصحاب المشاريع الفكرية والأدبية بالتزامن مع ضرورة التحديث لدى آخرين.
وهذا ليس تعميماً أو حكماً على تجربة الجيوسي الواسعة، والتي كانت شجاعة بحق الأدب والثقافة، خاصةً في مشروع "بروتا" الذي اهتمَّ بترجمة الأدباء والشعراء العرب إلى الإنجليزية، لكن تلك المحاولة بكلِّ ما تحمله من إيمان لصاحبتها بالثقافة العربية والأدب والتراث، لم تكتمل بالقدر الكافي، للقول إنَّها باتت متبناة كسياسة ثقافية لا حياد عنه، ويقابلها تطوّرٌ في مجالات أخرى عديدة على امتداد العالم العربي، تجعل من مشروعٍ كهذا، يحمل أثره في حاضرنا، إلى جانب مشاريع أدبية وفكرية عربية عديدة، سبق وقلت إنَّه أودي بأجزاء منها لأسبابٍ كثيرة تستدعي في النهاية أنَّ سلمى الخضراء الجيوسي وهي محورُ هذا المقال، تمثّل كامرأة وأديبة ومؤرخة، جيلاً ربما اختفى، من الأدباء الأفراد، أصحاب المشاريع الأدبية الكبيرة، والذين ربما تنوب عنهم من أجل الإنصاف بعض المؤسسات القليلة المتناثرة على امتداد العالم العربي اليوم.