رحلتي مع "ابن عربي" وفتوحاته المكيّة

يحيى القيسي
إعلامي وروائي أردني
منذ اخترتُ طريق البحث عن الحقيقة منهجاً حياتيّاً لي قبل سنواتٍ بعيدة، مررتُ بمحطاتٍ وجودية كثيرة، لا يتسع المقام هنا للإشارة إليها؛ غير أن أبرزها وآخرها الانغماس في نصوص "الشيخ الأكبر والكبريت الأحمر" ابن عربي، وهذا اللقب بعض ما أطلقه عليه تلامذته ومن جاء بعدهم، ولم يتورط الرجل في وصف نفسه بذلك في كتبه أبداً.
كنتُ في بداية الأمر قد اطلعتُ على بعض أفكاره وأشعاره بشكلٍ عام لكنّني ظللتُ متهيّباً قراءة أعماله الكبرى، أؤجلها من زمن إلى آخر حتى يأتي أوانها، وأصبحتُ أكثر نضوجاً في جانبي الروحي والمعرفي كي أستطيع استيعاب بعض رموزها، وفهم موضوعاتها، وأكون على قدر نصوصه العالية خصوصاً في سِفره الضخم "الفتوحات المكيّة"، وقد كانت فكرتي عنه تنحصر في أمرين: فلسفته عن "وحدة الوجود" وانفتاحه على "دين الحبّ".
فقد أعجبني فهمه الواسع للكون، وانشغاله بمحاولة الإجابة عن الأسئلة الوجودية الكبرى بطريقة غير تقليدية، إضافةً إلى انفتاحه على الإنسانيّة بمفهومها الشامل، وتسامحه مع من يختلف معه في الاعتقاد والفكر، وبقيت تلك الأبيات من قصيدته "تناوحت الأرواح" أيقونتي التي أستشهدُ بها كلما رغبت بالإشارة إلى عمق نظرته:
"لقد صار قلبي قابلاً كلّ صورة
فمرعى لغزلانٍ ودير لرهبـان
وبيت لأوثانٍ وكعبة طائـــف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحبّ أنّى توجهت
ركائبه فالحبّ ديني وإيماني".
كانت معارفي كما أسلفت قليلةً، وقراءاتي محدودة حتى قيّض الله لي الظروف للتفرّغ لقراءة كتابه الأشهر أو ما يسميه "الفتح المكي" في مجلداته التسعة قراءةً متأملةً دقيقة، مع التوقف عند الكثير من تأويلاته، وفتاواه، واجتهاداته، وكشوفاته، واستشهاداته، ولم أكتفِ بذلك بل بدأت تتكشف لديّ الرغبة لقراءة ما يتوفر عندي من كتبه الأخرى، حتى تتكوّن الصورة الكاملة لديّ لما عزمت على مراجعته في تجربته العميقة، فعكفت على كتابه الصعب "فصوص الحكم"، وبعدها راجعت "التجليّات"، وعدداً كبيراً مما يتوفر من رسائله سواء في كتبٍ مجمّعة أو متفرّقة، إضافةً بالطبع إلى أهم الكتب التي تناولت سيرته وكتبه من المتحمّسين لتجربته من مريديه أو المنتقدين، وهذا الأمر كله تمّ خلال العامين 2017 و 2018، والرجل غزير الانتاج، وكتبه ضخمة وبعضها يضمُّ آلاف الصفحات، وبعضها كما أشار غير مرّة قام بتأليفه في عدة أيام بطريقة "الإملاء" أي أن يقوم هو بالكتابة لما يُملى عليه عبر ما يسمّى بالتنزلات أو الكشوفات الإلهية أو المحمدية كما أشار غير مرة، فإذا أنجز كتاباً ضخماً في خلوةٍ له خلال عشرة أيام؛ فقد قضيت عامين كاملين في خلوةٍ خاصة بتأمل هذه الكتب ومراجعتها وأخذ الملاحظات والاقتباسات منها.
لم يكن لي من قصد بداية الأمر إلا التعرف بعمق على منجز هذا الرجل، فمن غير المعقول أن يُقرأ عبر عنوان لكتاب له هنا وآخر هناك، أو نقل مقولة له أو إيراد أبيات من الشعر مجتزأة من تجربته الطويلة والعميقة والمتميزة جدّاً، فالرجلُ سابقٌ لزمانه، وأسهم في التقعيد للتصوف كعلمٍ ومنهجِ حياة بعد أن ظلَّ رهيناً لبعض شطحات أهله هنا وهناك. ولعلَّ ما خلصت إليه بعد ذلك كتابي البحثي الأول عنه، والذي خصّصته لأمر واحد وهو محاولة فهم التناقضات التي طرحها فيما يتعلق بالحقيقة المحمّدية وكيف وقع في إشكاليات النقل من الموروث ومحاولة التوفيق مع ما يحصل له من الكشوفات، وخصوصاً فيما أورده بكثرة في الفتوحات المكية، ولمن شاء معرفة التفاصيل يمكن له الرجوع للكتاب، فلا يتسع المقام هنا لأي مثال عما أشرت إليه.
وقد التفتُّ إلى بعض فتاواه الغريبة، وحاولت فهم كيف غرق الشيخ أحياناً في الفقه الظاهري، رغم أنّه قد وُجّه إليه انتقادات كثيرة، وكيف حاول أن يوفق بين ما وصله من الشريعة وما عرفه من الحقيقة، أي بين الظاهر والباطن، واضعاً فرضية عجيبة أنّ النقلَ الذي وصله صحيحٌ تماماً، وكذلك كشوفاته معصومة لا يأتيها الباطل، ولا سبيل للشيطان إليها، وبالتالي فإنَّ مثل هذه الفرضيات احتملت نتائج يعتورها الخطأ والتضليل، وقد خصّصت فصولاً كاملة لمناقشة أفكاره، كما استشهدتُ بنصوصه الواضحة الصريحة مثلما وردت في كتبه التي نسخها بخطِّ يده، قبل وفاته بمساعدة بعض تلاميذه حتى لا يُقال إنّ هذه المقولات مدسوسة عليه، وخصوصاً كتاب "الفتوحات المكية" الذي صدر عن جهات عديدة في زماننا هذا بنسخ متفاوتة في الدقة والتحقيق، ولعلَّ من أفضلها النسختين المصرية واللبنانية ، كما أنَّي لم أقرأ كتب "الشيخ الأكبر" تحت سطوة التضخيم والأسطرة التي رافقت تجربته من قبل تلاميذه السابقين واللاحقين حتى يومنا هذا، بل قرأتها بتجرّد من كلّ غرض، واحترام لمكانته وحياديّة تحاول الفهم والتأمل، ولم أنتبه إلى ضيّقي الأفق من الفقهاء والمناوئين لفكره في زمانه أو في زماننا هذا الذين كفّروه لأفكاره، أو اتهموه بأبشع التهم لتأويلاته الخاصة، ولفلسفته التي تعارض نقولاتهم التقليدية.
ولعلَّ خلاصة ما توصلتُ إليه إلى الآن في رحلتي المعرفية والعرفانية مع هذا الصوفيّ الشهير أنَّه عاش حياةً هانئةً لم يتعرض فيها إلى السجن أو التنكيل بسبب أفكاره الإشكاليّة، إذ لم تكن قد وصلت كتبه إلى الفقهاء في زمنه ونسخها كانت محدودة عند عدد قليل من تلامذته المخلصين الذي دفع بعضهم الثمن لاحقاً بعد رحيله، كما أنَّ لغته صعبة تحتمل أكثر من وجه وتأويل، وكانت علاقته بالسلاطين والولاة وثيقة؛ بل كان متنفذًا عند الكثير منهم، كما أنَّه استفاد كثيراً من قراءاته لكتب السابقين عليه، واستشهد ببعضها كثيرًا مثل ابن قسي في كتابه "خلع النعلين"، ومن المؤكد أنَّه تأثر كثيراً بأفكار الصوفيين السابقين عليه مثل الحلاج، رغم أنَّه لم يقم باستنكار قتله، ولا فعل ذلك أيضاً لما جرى للسهروردي، وهذا موقفٌ غريبٌ منه، كما استفاد كثيراً من علوم "إخوان الصفا" في رسائلهم المعروفة، وتأثر حتى بابن حزم الأندلسي وظاهريته، وكتبه تجمع ما بين علوم السابقين عليه وتأملاته الخاصة وكشوفاته، وللرجل أفكاره الخاصة بما يسمى بصاحب الزمان أو المسيح المنتظر، وربما ظلَّ إلى فترة طويلة من حياته يظنّ نفسه كذلك، وقد حفلت كتبه وأشعاره بإشارات صريحة لذلك حتى آخر أيام حياته، لا بل إن خمسة من تلاميذه ادعوا أيضاً مثل ذلك بعد رحيله.
ولعلَّ كثيرًا من الذين يتحدثون اليوم عن ابن عربي ممن التقيتُ من الكتّاب والمثقفين وحتى المتصوفة الذين في الطرق المنتشرة يعرفون الرجل من قراءاتٍ لبعض كتبه، أو مقتبسات عن فكره لكن لم يقرأوه كاملاً، ولا اطلعوا على أفكاره بتعمق، لهذا وجدت الكثير منهم يأخذ عليَّ ما أوردته في كتابي عنه، لكنَّهم حين يقرأون الكتاب كاملاً يعرفون الحقيقة، ولعلَّ الظروف تتيح لي أن أنجز عنه كتاباً جديداً في قادم الأيام.
• شيءٌ من سيرة ابن عربي
هو محمد بن علي بن محمد بن عبد الله العربي الحاتمي الطائي، وكنّى بأبي بكر، ولقب بمحيي الدين ويعرف بالحاتمي. ولد يوم الاثنين 17 رمضان سنة 560 هـ الموافق ليوم 26 – 7- 1165م، في "مرسية" شرق الأندلس، وفي السنة التي ولد فيها الشيخ حاصر جيش الموحدين "مرسية" للقضاء على حكم حاكمها محمد بن سعيد بن مردنيش سلطان شرقي الأندلس، ودام الحصار سبع سنوات انتهى بموت ابن مردنيش ودخول "مرسية" تحت حكم الخليفة الموحدي المستقر بأشبيلية، فانتقل والد الشيخ بأسرته إليها للالتحاق بمسؤولياته الجديدة في الجيش وعمر محيي الدين ثماني سنوات.
تنقل بين الأندلس والمغرب العربي لمدة 8 سنوات اعتباراً من العام 590هـ، ورافقه فيها صاحبه الوفي عبد الله بن بدر الحبشي، بدأ رحلته إلى الشرق عام 596هـ حيث انتقل إلى المغرب ثم تونس، ثم القاهرة وقضى فيها شهر رمضان عام 598هـ، ثم زار الخليل وبيت المقدس قبل وصوله إلى مكة المكرمة، وقضى هناك عامي 599 و 600 هـ، ثم زار المدينة المنورة وبغداد والموصل وينسير وميافارقين من ديار بكر، وقونية وسيواس وملطية وقيصرية وحران وحلب ودمشق، ثم زار مكة ثلاث مرات في أعوام، 604 و 608 و 6011، وفي بداية عقده السابع عام 620هـ ارتحل إلى دمشق وأقام فيها حتى رحيله ليلة الجمعة 22 ربيع الآخر سنة 638 هـ الموافق 9- 11-1240م، وما يزال قبره إلى اليوم مزاراً في سفح جبل قاسيون، حيث شيّد السلطان العثماني سليم الثاني ضريحه ومدرسة في القرن السادس عشر.
والدته اسمها نور، وهي من أسرة عربية أنصارية أصولها يمنية، ويبدو أنّه كان مهتماً بأمر والدته وتنمية مداركها الروحية، ويأخذها لزيارة الصالحات العارفات، أمَّا زوجاته فهن: مريم بنت محمد بن عبدون البجائي التي بقيت في عصمته حتى انتقاله لربه، فاطمة بنت يونس بن يوسف أمير الحرمين، وهي أم ابنه عماد الدين محمد الكبير الذي وقف على النسخة الأولى من الفتوحات التي انتهى من كتابتها عام 629، أم صدر الدين القنوي تزوجها بعد وفاة زوجها بالأناضول، كما تزوّج في دمشق ابنة قاضي قضاة المالكية بدمشق زين الدين ابي محمد عبد السلام الزاوي المالكي، وهناك احتمال أنَّه تزوّج في تونس عام 597 هجري حيث بقي هناك مدة 9 شهور، أمَّا أولاده فهم: زينب، عماد الدين محمد الكبير، سعد الدين محمد.
• دراسته وشيوخه:
درس واستوعب الفقه لجميع المذاهب الإسلامية، وكذلك السيرة النبوية وكتب الأدب وغير ذلك، وكان الشيخ قد ذكر في إجازته للملك المظفر بن الملك العادل أسماء ستين من شيوخه في القراءات والحديث والفقه والسير في الأندلس والمغرب العربي ومصر ومكة وبغداد والموصل، وغيرها، ومن جميع المذاهب الإسلامية.
التقى ابن عربي شخصياتٍ عدة بارزة، وحظي بتكريم ملوك وسلاطين زمانه، فها هو " كيكاوس الأول " يخرج بنفسه لاستقباله، وكلمته هي المسموعة عند الملك الظاهر، صاحب مدينة حلب ابن صلاح الدين الأيوبي، ثم مرحلة استقراره في دمشق، ويمكن تحديدها بين 620 – 638، فعندما بلغ ابن عربي الستين من العمر، كانت شهرته قد عمّت العالم الإسلامي، وتنافس الملوك على استقطابه، وتزاحم العامة على بابه، ولكن حالته الصحية ألزمته أن يستقر، فلم يجد أطيب من دمشق وأعدل مُناخاً، وفي دمشق نعم ابن عربي بأنواع من التكريم، ونزل في ضيافة القاضي محيي الدين بن الزكي الذي اشتُهر بصحبته لصلاح الدين الأيوبي، وخدمته شمس الدين أحمد الخولي قاضي قضاة المالكية، وكان الملك الأشرف ابن الملك العادل يحضر دروسه.
• كتبه:
من أشهرها "الفتوحات المكية" الذي بدأ كتابته في مكة المكرمة عام 599هـ، وانتهى منه في دمشق عام 629هـ، ثم أعاد كتابته بخطِّ يده عام 632هـ، وانتهى بعد أربع سنوات من العمل عام 636هـ، وكان عمره 72 عاماً، ويضمُّ الكتاب في نسخته الثانية 10544 صفحة مقسمة إلى 37 سفراً، متضمنة 560 باباً، وبلغ عدد الأبيات الشعرية في الفتوحات 7161 بيتاً.
ثم كتاب "فصوص الحكم" وقد لخص فيه مذهبه الوجودي، وقسّمه إلى 27 فصّاً، وكتاب" التجليات الإلهية" و" مشاهد الأسرار القدسية " و" ديوان المعارف الإلهية، و" ترجمان الأشواق"، و" الإسراء إلى مقام الأسرى" وكتاب" عنقاء مغرب" و" إنشاء الدوائر" و" التنزلات الموصلية" و"كتاب مواقع النجوم"، و"الكوكب الدري في مناقب ذي النون المصري"، وغير ذلك من الرسائل والكتب التي خصّص لها د. عثمان يحيى دراسة مستفيضة وفي غاية الأهمية بالفرنسية في مجلدين ضخمين بعنوان " مؤلفات ابن عربي تاريخها وتصنيفها"، وقد ضاع الكثير منها وخصوصاً تفسيره الكبير في 64 مجلداً، وسمّاه "الجمع والتفصيل في أسرار معاني التنزيل".
من أبرز تلامذته: شهاب الدين عمر بن محمد السهروردي (ت 632) مؤلف "عوارف المعارف"، الملك الظاهر غازي بن الناصر صلاح الدين الأيوبي، صاحب حلب( ت 613)، الملك كيكاؤوس ملك الجزء الإسلامي من آسيا الصغرى، شمس الدين الخويي قاضي قضاة الشافعية في دمشق. ص 15
ترك ابن عربي طابعه وبصماته التي لا تُمحى على الحياة الروحية الإسلامية؛ بحيث لم يُكتب تقريباً شرحٌ لعقيدة صوفية من بعده دون أن يقع من طريق أو آخر تحت تأثيره، فقد انتشرت آراؤه ومؤلفاته وتداولتها أجيال من المتصوفة طيلة القرون الماضية، ولقيت كتبه من العناية ما جعلها تستقطب اهتمام طائفة من ألمع الأسماء في تاريخ التصوف الإسلامي منذ القرن السابع الهجري، الذين قاموا بشرحها والتعليق عليها، وتبني الكثير مما تنطوي عليه من آراء وأفكار ومعتقدات في كتبهم الأخرى، فابتداءً بصدر الدين القوني( ت 673)، الذي قام بشرح فصوص الحكم في حياة ابن عربي، وعفيف التلمساني (ت 690) الذي اتّخذ منه ابن تيمية  



الفتوحات المكّية: للشيخ الأكبر محيي الدين بن العربي: تحقيق: عبد العزيز سلطان المنصوب - المجلس الأعلى للثقافة – مصر – 2013
الفتوحات المكية: ابو بكر محيي الدين محمد بن علي المعروف بابن عربي: دار الكتب العلمية – بيروت 2011 طبعة 3:تحقيق: احمد شمس الدين
4 سيرة الشيخ الأكبر محيي الدين محمد بن العربي – عبد الباقي مفتاح- عالم الكتب الحديث- الأردن 2016 الطبعة الأولى- ص 41
الفتوحات المكّية تحقيق: عبد العزيز سلطان المنصوب- المجلس الأعلى للثقافة – مصر – 2013 - ص 40
الفتوحات المكّية تحقيق: عبد العزيز سلطان المنصوب- المجلس الأعلى للثقافة – مصر – 2013 - ص 29
ابن عربي ومولد لغة جديدة - د. سعاد الحكيم- المؤسسة الجامعية– بيروت - الطبعة الأولى – 1991 – ص 14
8 الفتوحات المكّية تحقيق: عبد العزيز سلطان المنصوب- المجلس الأعلى للثقافة – مصر – 2013
9- شروح ومفاتيح لمفاهيم الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي – عبدالباقي مفتاح- عالم الكتب الحديث- 2016 المقدمة بقلم د.عبدالإله عرفة ص 15
10 رسائل إبن عربي (شرح مبتدأ الطوفان ورسائل أخرى)- دراسة وتحقيق: قاسم محمد عباس، حسين محمد عجيل - منشورات المجمع الثقافي – أبوظبي – ط 1 – 1998 – ص 15
11 المصدر السابق.